والدي سيئ الصفات، ووالدتي لا تعطيه حقه!
صفية الودغيري
حالة أسرية تتمثل بضعف الثقافة الدينية لكل من الأب والأم، وتدهور علاقتهما الزوجية، مع كِبَر سنهما .. هل تستطيع ابنتهما أن تقدم شيئاً سوى الدعاء والصدقة؟
- التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
بداية أعتذر لكم عما سأحدثكم به عن والدي ووالدتي، ولكنني مضطرة لذلك، فوالدي يبلغ من عمره حوالي 76 عاماً، وهو رجل مقصر بعباداته، لا يُصلي إلا نادراً جداً، ولا يحافظ على نظافته، ولا يحسن الكلام ولا التصرف، بذيء اللسان، لا يستحي ولا يحترم لا الصغير ولا الكبير، ويفضح نفسه أمام الرجال، ويتباهى بأنه كان يرتكب كبيرة الزنا، وهو مفتون بشهوات الدنيا، مفرط في حبه للمال وللنساء، لا يهتم لأمر الآخرة، ولا لنصيحة أحد، ويتجنب سماع وحضور مجالس العلم ودروس الدين، حتى المسجد ينصرف منه قبل إقامة الصلاة بمجرد شعوره بالنعاس، ويسخر من بعض العبادات، وكلما كبر زاد حاله سوء، وفي الفترة الأخيرة تدهورت صحته وأُصيب بمرض السكري فصار عاجزاً عن تلبية رغباته وشهواته بصورة طبيعية، ولقد حاولنا مساعدته وردعه بكل الطرق فلم نفلح، ومع ذلك فهو حنون جداً علينا، أما والدتي التي تبلغ من العمر 66 عاماً، وهي أمية، تصلي وتصوم، ولكن آفتها في لسانها، وهي قاسية علينا وعلى والدي، وتؤذينا وتسيء إلينا وللناس بلسانها، وكثيراً ما تكشف عن كرهها وحقدها على والدي بإهانته والسخرية منه، ونعته بأبشع الألقاب، ووصفه بأسوأ الصفات أمامنا وأمام أبنائنا والجميع، ومع ذلك هو يحبها جداً ويخاف منها ولا يرد على إساءتها، ولكنها صارت لا تؤدي حقه الشرعي حماية لنفسها من انتقال الأمراض، فبدأ يمتنع عن تلبية طلباتها المادية، ويكتفي بالإنفاق على البيت، فصارت تصفه بالظالم، وأنها ستأخذ حقها منه في الآخرة، نصحناها كثيراً بأن تحسن إليه، وتتقي الله في معاملته، لعل الله أن يهديه على يديها، ولكننا فشلنا في إقناعها، ومع ذلك فنحن نحبهما كثيراً، ولا نفتر عن برهما، ونصحهما، والدعاء لهما، ولكنهما لا يسعيان للإصلاح أو التغيير، وأنا حزينة جداً لسوء حالهما، وأخاف عليهما أن يختم لهما الله سبحانه بسوء العاقبة، فماذا أقدمه لهما غير الدعاء والصدقة فهل أجد عندكم الحل؟
وجزاكم الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإنه ليسرني أن أرحب بكِ في موقع المسلم، كما يسعدني اتصالكِ، وأسأل الله عز وجل أن يوفقني إلى مساعدتكِ في إيجاد حلول لمشكلتكِ.
وبخصوص ما ورد برسالتكِ، فيمكنني أن ألخص حالة والدكِ ووالدتكِ فيما يلي:
فبالنسبة لحالة الأب تتمثل في:
- تقصيره في أداء واجباته وعباداته الدينية.
- تهاونه بمظهره ونظافته.
- إخلاله بالآداب الاجتماعية والقيم الدينية في الحديث والمعاملة.
- إسرافه في الإقبال على الشهوات والمحرمات.
- عدم احترامه للحياة الزوجية ولعلاقته بزوجته.
أما حالة الأم فتتمثل في:
- اتصافها بالقسوة والظلم لأفراد أسرتها.
- عدم تحصين لسانها عن التعرض بالإساءة والتجريح لزوجها، وأبنائها، ولمن حولها.
- معاملتها السيئة لزوجها، وسوء عشرتها له.
من خلال عرض الحالة الاجتماعية للأب وللأم يتجلى لنا إجمالاً ضعف ثقافتهما الدينية، وتدهور علاقتهما الزوجية، ونظراً لكِبَر سنهما فإن مهمتك أختي الكريمة تبدو صعبة للغاية إلا أنها ليست مستحيلة.
ومن الحلول التي أقدمها لكِ ما يلي:
- اعلمي أختي الكريمة أن علاقة الأبناء بالآباء، من جانبها الإنساني والعاطفي: هي علاقة رحمة ومودة ومحبة، لقوله تعالي: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء من الآية:36]، ومن جانبها الحقوقي: هي علاقة تقوم على واجب الاحترام والتقدير، وواجب الإنفاق والرعاية، وواجب البر والطاعة في غير معصية، وواجب النصيحة والإرشاد، وواجب المعاشرة بالمعروف، لقوله تعالي: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [العنكبوت:8]، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14-15]، وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23- 24].
فإذا استوفيتم ما عليكم من واجبات وحقوق اتجاه الوالدين الكريمين سقط عنكم الباقي مما هو متجاوز عنكم.
- وواجبك وواجب إخوتك في حالة وظروف والديك يقتصر على البلاغ، والتذكير، والنصيحة والإرشاد لهما في كل وقت، أما الهداية والصلاح والتغيير، فالله سبحانه يهدي من يشاء بحكمته البالغة، ولهذا وجه سبحانه وتعالى نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة من الآية:272]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف من الآية:103].
أما الحلول المتاحة فهي كالتالي:
أولاً: بالنسبة لوالدكِ أنصحكِ بالاستعانة بأحد أقاربكم، أو ببعض أهل العلم وكبار السن، أو ببعض الشخصيات ذات الوزن والتأثير عليه، والحظ الوافر من الإيمان، والثقافة الدينية، والتمكين في أسلوبها ومنهجها الدعوي، فتغرس في قلب والدك رقابة الله تعالى والخجل منه، وسماع صوت الحق والإذعان له.
ثانياً: والدكِ يحتاج لصحبة صالحة ورفقة طيبة، لها وظيفة سامية في احتواء مشاكله، واستيعاب همومه، والتغاضي عن أخطائه وزلات لسانه، فحاولي أن تملئي حياة والدكِ بوجود أشخاص تحبه، وتَحفظه من الوقوع في المحرمات والذنوب، من أهل، أو جيران، أو زُملاء عملٍ.
ثالثاً: والدكِ يحتاج كذلك لدعم نفسي، فمعاناته أكبر من شهوة المال والجنس، هي معاناة نفس مريضة ينقصها الكثير من الحب، والعطف، والرحمة، والدفء الأسري، وهذا يفتقده ببيته مع زوجته وأبنائه ومن حوله، ولهذا يبحث عنها بصور مشوهة ومنحرفة، تشبع عواطفه ورغباته الطبيعية والفطرية، وليهرب من معاناته ينتقم من نفسه وزوجته بالكلام الفاحش، وعدم الاهتمام بنظافته، والفِعل الفاضح، ولهذا يجب أن تساعده زوجته وأبناؤه وأقرباؤه ليستعيد ثقته بنفسه وتستقيم حاله.
رابعاً: والدكِ قد يكون بحاجة لعلاج نفسي، وعرضه على طبيب أو متخصص اجتماعي، يملك أن يعترف أمامه بكل أسراره وخفايا نفسه، ودوافعه النفسية والعضوية التي تدعوه لما يقوله ويفعله، وهذا سيساعده في تحسن حالته، وليكن ذلك عن طريق التحايل عليه، أو توجيهه بصورة غير مباشرة.
خامساً: أما بالنسبة لوالدتكِ أرى أنها كذلك ضحية الظروف والواقع المأساوي الذي عاشته مع والدكِ، فواجبكِ أن تبرري لها قسوتها، وشدتها، وظلمها، وإساءتها لكم ولوالدكِ، فلها أسبابها المرتبطة بعلاقتها الأليمة بوالدكِ، وبتصرفاته المهينة لكرامتها، الجارحة لمشاعرها، الظالمة لحقوقها الشرعية كزوجة وكإنسانة، وهناك علامات استفهام كثيرة واحتمالات تجهلينها، تدعو كلاهما ليسيء للثاني بطريقته، فما عليك إلا أن تتقبَّليها كما هي، مع السعي الدؤوب لتعليمهما الخطأ من الصواب والذنب من الطاعة وجزاء كل منهما، وكيف معنى طاعة الله ومعصيته وهكذا.
سادساً: أنتِ لا تملكين أن تغيري قلب والدتكِ ليحب والدكِ، لأن القلوب جنود مجندة منها ما تآلف ومنها ما تنافر، والمودة والرحمة والمحبة يزرعها الأزواج خلال رحلة حياتهما معاً، وتاريخهما الطويل المليء بالأحداث والمواقف، التي تلزم كلاهما بالطاعة والاحترام والتقدير والتضحية للآخر، ولكن للأسف في حالة والدتكِ لم تحصد خلال تاريخها الطويل مع والدكِ إلا ما يدعوها لظلمه وكرهه والحقد عليه، لدرجة حرمانه حتى من حقه الشرعي، ومع ذلك أنتِ تملكين أن تحسِّني علاقتها بوالدكِ، وتقنعينها بإرضائه وطاعته تنفيذا لأمر الله، الذي ألزمها الإحسان إليه، ومعاشرته بالمعروف، وأداء حقوقه الشرعية حتى مع ظلمه وإساءته، وإلا ستأثم إثما كبيراً لمخالفتها لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي حثها على طاعة زوجها في أحاديث كثيرة، منها: حديث أبى هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في إحدى روايات أحمد والبزار رجالها رجال الصحيح).
وحديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله تعالى لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه» (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة)، وحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» (متفق عليه).
وإجمالاً أقول لأختي الكريمة: حياة أسرتكِ ينقصها الكثير من الدفء والاستقرار النفسي والعاطفي، وينقصها الثقافة الدينية الصحيحة، فواجبكِ وواجب إخوتكِ وأخواتكِ، أن تشتركوا جميعاً وتتحدوا في تحقيق التغيير والإصلاح، بتعميم الوعي الديني ليس كدروس مسموعة فقط، ولكن كأقوال وأفعال، واعملوا على أن تكونوا أمام الأب والأم مثالاً يُحتذى بكم في البر، والإحسان، والاستقامة في القول والفعل، وبعث الضمير والقيم والفضيلة، والأخلاق الإسلامية وإشاعتها، وإنعاش حياتكم بأهداف نبيلة ورسالة عظيمة، ومشاريع خيرية، ومجالس علمية، وزيارات هادفة، ودمج والدكِ ووالدتكِ معكم فيما يملأ أوقاتهما، ويشغلهما عن الحرام بأعمال ذات قيمة عظيمة.
وأنصحكِ بإبعادهما عن بعضهما لفترة لتهدأ نفوسهما ويمكنكم خلال تلك الفترة أن تؤثروا في كل منهما بعيداً عن الآخر وتوجهوه بما تريدون بقدر ما تيسر لكم.
أجابت عنها: صفية الودغيري - 18/8/1433 هـ