جراحات مؤلمة لقلوب واهنة 2
صديقه الوحيد يتعرض لأزمة مميتة، فقد دخل في غيبوبة كاملة منذ أسابيع، لا يفيق إلا نادراً، وعندما يزروه لا يتمكن من رؤيته لعدم سماح الأطباء له.
وجدته مهموما محزونا قابعا في غرفته منزويا على نفسه باكيا بلا دموع كما هي عادته دوما عند عودته من تلك الزيارة.
وجدته مهموما محزونا قابعا في غرفته منزويا على نفسه باكيا بلا دموع كما هي عادته دوما عند عودته من تلك الزيارة.
ففي كل مرة يعود بنفس الحال، فمنذ أن أصيب صديقه الوحيد برشح مياه على المخ ودخوله الغيبوبة المتكررة ثم إجراؤه لأكثر من جراحة وعدم نجاحها في إخراجه من غيبوبته وفي كل مرة يعود هكذا، وما إن تطمئن نفسه قليلا حتى يعاود زيارته ويكرر نفس الشيء.
والصداقة نوع من الأرزاق التي يقسمها الله بين عباده بحكمته، فمنهم من يرزقه الله الصداقات المتينة بسهولة وبوفرة ومنهم من لا يستطيع أن يجد في رحلة عمره كاملة سوى أصدقاء لا يكادون يعدون على أصابع اليد الواحدة ومنهم من لا يجد.
وولدي الأكبر هذا من النوع الثاني الذي لا يجد أصدقاء بسهولة، فيكفي أنه لا يرى له صديقا غير هذا الصديق وهو في السابعة عشرة من عمره.
ويرى ولدي أن صديقه الوحيد يتعرض لأزمة مميتة، فقد دخل في غيبوبة كاملة منذ أسابيع، لا يفيق إلا نادرا، وعندما يزروه لا يتمكن من رؤيته لعدم سماح الأطباء له، وقد صارت رأسه مسرحا للجراحات أو قطعة للتجارب أو ميدانا للتعلم والتدرب بين الأطباء الجدد.
وفي كل مرة يسمع بأنهم أجروا عليه جراحة جديدة ولا أمل ولا إفاقة من غيبوبته التي طالت وجعلت أهل الشاب ومحبيه – ومنهم ولدي - في ضائقة لا يعلم مداها إلا الله وهم يتوقعون في أية لحظة من يخرج عليهم من غرفة الإنعاش معلنا لهم وقوع قدر الله سبحانه الذي لا مفر منه لأحد.
وصار ذكر صديق ولدي ملازما للسانه في كل مكان وخاصة عندما يلاحظ الجميع تغيره واكتئابه وحزنه الدائم فيسألونه فيسترسل في الحديث عن المشكلة التي يتعرض لها صديقه كي يخفف عن نفسه ما ألم به وليبحث لصديقه عن مخرج مما هو فيه.
ومن ناحيتي لم أمانع بل رحبت أن يكون ولدي في خدمة أهل صديقه كولدهم تماما وخاصة أن صديقه هو الذكر الوحيد لأبويه فكان ولدي يقضى ما استطاع من شئونهما.
ولكنه اليوم عاد بصورة مختلفة أشد، فكان أكثر اكتئابا. أكثر انعزالا. أكثر بكاء صامتا، وأنا أكثر الناس معرفة بولدي الذي لا يحب أن يرى بكاءه أحد، وانفردت به والدته الذي لا يخفي شيئا عنها، فأتت به وأخبراني الخبر والجرح الذي وقع على ذلك القلب البرئ الصغير الغض الطري الذي ما عركته الأيام بعد.
كان كعهده دوما يتحدث عن مشكلة صديقه الصحية التي تؤرقه حتى بادره مستمعُه فقال له: أن هناك طبيبا شهيرا نابها في هذا التخصص سيأتي إلى بلدتهم ليزروها في وفد طبي فلعل الله يجعل لصديقه مما فيه مخرجا، فتهلل وجه الفتى الصغير وسعد قلبه فرحا بهذا الخبر الذي يفتح بابا للأمل في نجاة صديقه الوحيد من الموت، ولم تستطع قدماه أن تحمله من قدر سعادته، بل كاد يطير فوق الأرض ساعيا لبيت صديقه لإحضار صور من الملف الطبي لصديقه لعرضها على ذلك الطبيب عن طريق تلك الواسطة.
وبالفعل أبلغ أهل صديقه فتهللوا من شدة الفرح شاكرين له صنيعه معهم ووقوفه بجوار صديقه في محنته، وأنهم يعتبرونه مثل ولدهم تماما مما كان يسعد قلب الفتى لإحساسه أنه يقدم لصديقه ما يستحقه من واجب أخوتهما وصداقتهما.
لكن تلك الواسطة التي أخذت الملف الطبي الخاص بالصديق فهمت فهما خطأ أن الصديق هذا كما هو محتاج للطبيب الشهير المُعالج يحتاج أيضا للمال الذي يُنفق عليه في علاجه، فبدأت في عرض الملف الطبي على الميسورين في خطوة ظنتها أنها تقدم خيرًا للمريض، ولكن أهل الفتى يعدون من ميسوري الحال الذين لا يتسولون علاجاً لولدهم.
ووصل الخبر إلى أهل الصديق لصغر بلدتهم بأن هناك من يعرض ملف ولدهم للحصول على تبرعات له مما آلمهم بشده وزادهم ضيقاً فوق ضيق وكآبة فوق كآبة، ولم يكن أمامهم سوى ذلك الشاب الصغير الذي أخذ الأوراق منهم. فانتظروا حضوره إليهم كعادته التي ما تخلف عنها، فوجد الجميع في انتظاره لا لتكريمه والإشادة به والثناء عليه كما فعلوا في المرة السابقة مباشرة بل لأمر آخر.
فعندما دخل بيتهم وجد منهم وجهًا ما رآه قبلها، وهو لا يفهم سبب التغير.
ساورته الظنون وخشي على صديقه أن يكون قد أصابه مكروه ولم يُعلمه أحد بذلك، ولكنه بمجرد سؤاله عن حالهم إذا بهم يكيلون له اللوم والإهانة والتجريح والاتهامات وغيرها، وهو يستمع ولا يفهم شيئًا، ولم يستوعب منهم بعد ما حدث!!
أصواتهم متداخلة، حديثهم مكلوم، يختلط غليظ القول منهم ببكائهم، وهو لا يفهم حتى بدأ يدرك منهم الأمر ولكنه لم يستطع الحديث.
في أحيان كثيرة لا يستطيع الإنسان مجرد الدفاع عن نفسه فلن يصدقه أحد فكما قالت عائشة رضي الله عنها يوماً "إن صدقت كذبتموني وإن كذبت صدقتموني فما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}.
فبدأ يشرح لهم ولا مجيب، صوتهم يغلب صوته، يعتذر إليهم ولا مستمع، ولم يجد سوى أن يخرج من بيتهم خروجًا يشبه الطرد إن لم يكن طردًا بالفعل.
وعاد إلى بيته مهزومًا محزونًا لا يعرف ماذا سيفعل؟
هل يعذرهم لإحساسهم بذلك الألم المضاعف على النفوس الكبيرة، الابن يفارق الحياة، وهناك من يجمع مالاً تحت مسمى تبرعات لعلاجه، فإن صدق وكانت التبرعات للمريض فعلاً كانت عارًا عليهم وإن لم يصدق كان نصبًا باسم ابنهم ومتاجرة بمرضه.
ولكن كرامته جريحة فهو لا يتحمل أن يخاطبه أحد بمثل ما خوطب ولا أن يتهمه الناس بمثل ما اتهم، وأيضاً لا يريد أن يتخلى عن صديقه الوحيد حتى في الفترات التي لا يشعر به فيها في غيبوبته ولن يستطيع أن يقنعهم بعكس ما في رؤوسهم.
ورفض مني التدخل مع أهل صديقه كي لا أسمع ما أكره منهم لأنهم كانوا في حالة لا يُميزون فيها بين الصواب والخطأ في أقوالهم وبين ما يجوز وما لا يجوز من أفعالهم.
وانتظر رأيي في تصرفه المقبل هل يظل على ودهم ويزور صديقه معرضاً كرامته للانهيار؟ أم يترك صديقه إنقاذاً لكرامته، وربما يتعرض صديقه لقدر الله فيظل نادما طول عمره؟
وما أصعب الاستشارة! فمن السهل أن تجيب إنسانًا في استشارة على موقع أو في رسالة بريدية لأنك تتعامل مع حالة لا مع قلب تعرفه وتتعامل معه.
ما أسهل الفصل في أمر ما على ما به من قسوة من الناحية النظرية فتحسم رأيك وتجيب سائلك عن سؤاله واستشارته.
ما أسهل أن تجري عملية جراحية لأي إنسان إن كنت من أهل تلك الصناعة، وما أصعب أن تكون تلك العملية الجراحية لمن تحب وأن يكون المريض الذي بين يديك هو من أقرب القلوب إليك.
صدقوني لم أستطع أن أقول له رأياً محدداً، بل سكت ووجمت وأحتاج إلى المشورة
يحيى البوليني
- التصنيف: