فتاة وقعت في حب صديقتها

منذ 2017-08-02

ومِن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراضُ القلب عن الله، فإنَّ القلب إذا ذاق طعمَ عبادة الله والإخلاص له، لَم يكن عنده شيءٌ قطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، والإنسانُ لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه.

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا طالبةٌ جامعيَّةٌ محافِظَةٌ ولله الحمد، ومِن بيئةٍ صالحةٍ، تربَّيْتُ على حُسن الشمائل والفضائل.

الصداقاتُ عندي لا تتعدَّى منحى اللامعقول، بل في حدودِ الإخلاص والحبِّ والتعاوُن، وأحبُّ زرع بذرةٍ في كل صديقةٍ أُصادِقها.

لديَّ زميلةٌ كانتْ معي في كليتي، ولَم أكنْ أُعيرها اهتمامًا، ثم تعرَّفتُ إليها وقَرُب كلٌّ منا مِن الآخر، فأعجبتُ بها من ناحية الثقافة، وأحسستُ أنها تريدُ التقرُّب مني، فلقيتُ منها إقبالاً وعاهدتُها، وكنا بين الفينةِ والأخرى نتعاهَد على الخير.

تغيَّرتْ صديقتي للأفضل، وصارتْ أفضلَ مني، وحصَل بيننا تقارُبٌ شديد في كلِّ شيء، وأحيانًا تلمس يدي، ولم أرتحْ لهذا الشيءِ إطلاقًا، وخفتُ أن أصارحها بحجَّة أني (أوسوس)!

أحسستُ بالذنب، وخفتُ مِن ربي، ولا أعلم ما العمَل؟ لا أخفيكم أني أحبُّها حبًّا شديدًا لَم يظهرْ لشخصٍ آخر!

أخبرتْني منذ مدة أنها تُحبني، وظلتْ تبكي بكاءً شديدًا على حبِّي، ثم أخبرتْني أنها تصوم ليزيل الله عنها هذا الحب، لم أعرف كيف أردّ! أصبحتُ شاردة الذهن، وتعبتُ نفسيًّا.

أخبروني بما أنا فيه وماذا أفعل؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فلا يَخفى على مِثْلك أيتها الابنةُ الكريمة أنَّ الاعتدال في المشاعر تُجاه الآخرين نجاةٌ وحصنٌ حصين من الانحراف عن جادَّة الصواب، أما ترْكُ النفس لنَزَقها والاحتكام للقلب والهوى فمزلّة أقدام، ومُغامرة بالدِّين، ومع الأسف الإنسانُ يعلم متى تبدأ تلك الأزمة، ولكنه لا يعلم إلا اللهُ وحده متى تنتهي، ولا كيف تكون النتيجة!

تبدأ العلاقةُ بالإعجاب، ثم تتطوَّر وتصير عِشقًا، حتى لا تستطيعَ التخلِّي عن رُؤية حبيبتها، إن لم تتمكنْ فبِسماع صوتها، أو رُؤية صورتها، فالحبُّ بينهما يصل لشغاف القلب، حتى لا ترى في الدُّنيا غيرها، وتنتهي هذه العلاقةُ حتمًا بالوقوع في الحرام، وما جلوسُ فتاتك بجوارك ولمس يدك وخفقان قلبك إلا خطوة أوليَّةٌ على الطريق، إلا أن تقطعي الطريق على نفسك، وتكفِّي عن التفكير القلبي وتحكِّمي العقل، فتنجي بنفسك وبصديقتك، فالحبُّ العقلي هو الذي ينجِّي في الدنيا والآخرة.

وإن العجَب ليطول مِن تجاوُز بعض الفتيات لحدِّ الاعتِدال في الحب؛ حتى يصبحَ شاغلاً لفكرهنَّ، ومسيطرًا على الخاطر، حتى يوقعَ الفتيات في العِشْقِ المحرَّم، وحتى إن لم يصلْ إلى حدِّ الوقوع في السحاق الملعون، فهو أيضًا انحرافٌ عن الفطرة السليمة، وحجبٌ للقلب عن الله تعالى؛ ومَن تسترسل ولم تلجم النفس عن غيِّها فستقع لا محالة في الحرام!

أمَّا سبيلُ النَّجاة والرشاد مِن تلك الهاوية السحيقة فسأُلخِّصه لك في نقاطٍ؛ كي يسهلَ تدبُّرها والعمل بها:

• الأولى: قطع التفكير في تلك الفتاة، والإقبال على الله بالطاعة والأعمال الصالحة، مع كثرة الذِّكْر والاستغفار والدعاء: أن يصرفَ الله عنكما السوء والفَحْشاء؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114، 115]، وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

• ثانيًا: مُجاهَدة النفس والعمل على دافع الوساوس الشيطانية، وشغْل النفس دائمًا بما يَنفعها، والكف عنْ مُعانقة صديقتك، أو ضمها وتقبيلها، ولا تلتفتي لنُصح الشيطان أنك حسنة النِّيَّة، فالواجبُ على المسلم الابتعادُ عما يجرُّه للرذيلة مِن المثيرات، ويستبرئ لدينه وعِرضه.

• ثالثًا: كلما بادرتِ بالإقلاع وأسرعتِ، واقتصرتِ على حدِّ الاعتدال؛ كانت النتيجةُ أسرع في تحقيق الاستقامة، والإقبال على اللهِ.

• رابعًا: ابتَعدي عن تلك الفتاة قدْرَ المستطاع، وخُذي نفسك بالحزْم، وكفِّي عن متابعة أخبارها، أو تبادُل الرسائل والصوَر، وتقليل اللقاءات والمكالمات، كما يجب عليكما أن تتصارَحا، وأن تضعا حدًّا لعلاقتكما.

• خامسًا: تيقَّني أنك متى توكلْتِ على ربك حق التوكُّل، وأحسنتِ الظن به، فسوف يَكفيك كل ما أهَمَّك وأغمَّك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فلا لَذَّة ولا سرور إلا في الصلة به ومناجاته، وأن كل محبوب دون الله عائق في السَّير إليه، ولذلك كان مَن ابْتُلِيَ بالعِشق فبسبب نقص محبته لله وحده، بخلاف مَن قام بقلبِه خشية الله، فإنها تقهر الشهوة، وكذلك حب الله يغلبها أيضًا، والإخلاص يمنع من تسلُّط الشيطان؛ كما قال تعالى عن الكريم بن الكريم بن الكريم: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

والذي يظهر أيتها الابنة الكريمة أنَّ حبَّكما ليس حبًّا لله، ولا مِن أجْل الله تعالى، بل حب للشهوة، فاحذري أن تدخُلا في قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، والنجاةُ مِن هذا بتحقيق الإخلاص لله تعالى بكثرة أعمال السِّرِّ، وعدم تقديم حبِّ أحد على رضاه سبحانه؛ فإنَّ «مَن التَمَس رِضاء الله بسخط الناس كفاه الله مُؤنة الناس، ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله، وكَلَهُ الله إلى الناس»، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكلما كان القلبُ مُحبًّا لله وحده، مُخلصًا له الدِّين - لم يُبتَلَ بحبِّ غيره، فضلاً عن أن يُبتلى بالعِشق.

• سادسًا: الحذَر الحذَر أيتها الابنة الفاضلة مِن أن يستهويكما الشيطان، ويأخُذكما إلى طريق المهالك بدعوى المحبَّة، وليكنْ تعلُّقك بالله، وفي طاعة الله، فإنَّ الشيطان يتربَّص بالمؤمن كل لحظة ليُغْويه، فإنْ ظفر الشيطان بكما فإنه يُحَقِّق أعظم أمانيه، فيكون قد فوت عليكما أجر الحب في الله، ويكون قد أَضَلَّ فتاتين عابدتيْن نابهتين، ومن ثَم فلا تستسلمَا له، واقهراه بالمجاهدة ومُخالَفة هوى النفس.

• سابعًا: استحضري مراقبة الله لك، واطِّلاعه عليك، ونظره إليك في كل وقت، فذلك أقربُ لأن تستحيي منه وتُعَظِّميه.

• ثامنًا: لا تَتَرَدَّدي في قَطْع علاقتك بالفتاة كليًّا إن شعرتِ منها بالاسترسال في العِشْق، وعدم الاستجابة والتغيُّر للأفضل، وفي تلك الحال يكون العلاجُ الناجع البُعد عنها تمامًا؛ لأنَّ اجتماعكما في مكان واحدٍ يُؤدِّي إلى وقوع المنكر، فيكون الواجبُ عليكما ألا تجتمعَا أبدًا حتى لا يقعَ المنكر.

• تاسعًا: تأمَّلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في العبودية (ص: 87-91): "... فَإِنَّ أسْرَ القلب أعظم مِن أسْرِ البدَن، واستعبادَ القلب أعظمُ مِن استعباد البدَن، فإنَّ مَن استعبد بدنه واسترق وأسر لا يُبَالِي إذا كان قلبُه مستريحًا من ذلك مطمئنًّا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأمَّا إذا كان القلبُ - الذي هو ملك الجسم - رقيقًا مُستعبدًا مُتَيَّمًا لغير الله، فهذا هو الذلُّ والأسرُ المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.

وعبوديةُ القلب وأَسْرُه هي التي يترتَّب عليها الثوابُ والعقابُ، فإنَّ المسلم لو أسرَه كافرٌ، أو اسْتَرَقَّه فاجرٌ بغير حقٍّ، لَم يَضرَّه ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحقٍّ إذا أدى حق الله، وحق مواليه، فله أجران، ولو أُكره على التكلُّم بالكفر فتكلَّم به وقلبه مُطمئن بالإيمان لَم يضره ذلك، وأما مَن استعبد قلبه فصار عبدًا لغير الله، فهذا يَضُرُّه ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.

فالحريةُ حُريةُ القلب، والعبودية عبوديةُ القلب، كما أن الغنى غنى النفس؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عنْ كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس».

وهذا لَعمرو الله إذا كان قد استعبد قلبَه صورةٌ مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة - امرأة أو صبيٌّ - فهذا هو العذابُ الذي لا يُدانيه عذابٌ.

وهؤلاءِ عُشاقُ الصوَر مِن أعظم الناس عذابًا، وأقلهم ثوابًا، فإن العاشقَ لصورةٍ إذا بقي قلبه متعلِّقًا بها، مستعبدًا لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يُحصيه إلا ربُّ العباد، ولو سلم من فِعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشدُّ ضررًا عليه ممن يفعل ذنبًا، ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه.

وهؤلاء يشبَّهون بالسكارى والمجانين، كما قيل:

سَكْرَان: سُكْر هَوًى، وَسُكْر مُدَامَةٍ         وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ

وقيل:

قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُـمْ         الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِيــــــنِ

الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُــهُ         وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ


ومِن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراضُ القلب عن الله، فإنَّ القلب إذا ذاق طعمَ عبادة الله والإخلاص له، لَم يكن عنده شيءٌ قطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، والإنسانُ لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحبُّ الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحبِّ الصالح، أو بالخوف من الضرَر.

قال تعالى في حق يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فالله يصرف عن عبده ما يَسُوءُه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوقَ حلاوة العبودية لله والإخلاص له؛ بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعمَ الإخلاص وقَوِيَ في قلبه، انقهر له هواه بلا علاج.

قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فإن الصلاة فيها دفعُ مكروه، وهو الفحشاءُ والمنكر، وفيها تحصيلُ محبوب وهو ذكرُ الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاعُ الشرِّ عنه فهو مقصودٌ لغيره على سبيل التبَع.

والقلبُ خَلْقٌ يُحب الحق ويُريده ويطلبه، فلما عرضتْ له إرادة الشر طلب دفْعَ ذلك، فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل.

ولهذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، فجعل سبحانه غضَّ البصر وحِفظ الفَرْج أقوى تزكية للنفس، وبَيَّن أن ترْكَ الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمَّن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك.

وأخيرًا كوني على ثقةٍ بالله أنك ستتجاوزين تلك المِحنة، وأنصحك بقراءة كتاب: "قاعدة في المحبة"؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكتاب: "تلبيس إبليس"؛ لابن الجوزي، و"الجواب الكافي"؛ لابن القيم.

هذا، وأسأل الله إن يُعيذك مِن شرِّ سمعك، ومِن شر بصرك، ومن شر لسانك، ومن شر قلبك، ومن شر منيِّك، آمين.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 4
  • 0
  • 15,774

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً