رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم
ابن تيمية
السؤال: قال شيخ الإسلام في [رسالته إلى أهل البحرين] واختلافهم في صلاة
الجمعة
الإجابة: قال شيخ الإسلام في [رسالته إلى أهل البحرين] واختلافهم في صلاة
الجمعة:
والذي أوجب هذا: أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتي ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في رؤية الكفار ربهم، وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد، فالأمر في ذلك خفيف.
وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عَرْصة [العرْصة: البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء. انظر: المصباح المنير، مادة: عرص] القيامة وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالحديث، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم .
ورؤيته سبحانه هي أعلى مراتب نعيم الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به.
والذي عليه جمهور السلف:أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر.
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة، قد دون العلماء فيها كتباً مثل:[كتاب الرؤية] للدارقطنى، ولأبي نعيم، وللآجرى، وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة، واللالكَائي، وابن شاهين، وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل، وحنبل بن إسحاق، والخلال، والطبراني، وغيرهم.
وخرجها أصحاب الصحيح والمساند والسنن وغيرهم.
فأما مسألة رؤية الكفار، فأول ما انتشر الكلام فيها وتنازع الناس فيها فيما بلغنا بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء، وتكلم فيها آخرون، فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها؛ إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب سنة.
والكلام فيها قريب من الكلام في مسألة محاسبة الكفار: هل يحاسبون أم لا؟ هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق، والصحيح أيضاً ألا يضيق فيها ولا يهجر، وقد حكى عن أبي الحسن بن بشار أنه قال: لا يصلي خلف من يقول: إنهم يحاسبون. والصواب الذي عليه الجمهور: أنه يصلى خلف الفريقين، بل يكاد الخلاف بينهم يرتفع عند التحقيق؛ مع أنه قد اختلف فيها أصحاب الإمام أحمد، وإن كان أكثرهم يقولون: لا يحاسبون، واختلف فيها غيرهم من أهل العلم وأهل الكلام.
وذلك أن الحساب قد يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف، وعرضها على الكفار، وتوبيخهم على ما عملوه، وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه، فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق.
وقد يراد بالحساب وزن الحسنات بالسيئات؛ ليتبين أيهما أرجح، فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته؛ إذ أعماله كلها هابطة، وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسنات له.
وقد يراد بالحساب: أن الله هل هو الذي يكلمهم أم لا؟ فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت، لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة، وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة.
والأقوال الثلاثة في رؤية الكفار:
أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر للكفر ولا المسر له، وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين، وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة ومنافقيها وغُبَّرات [أي: بقايا] من أهل الكتاب وذلك في عَرْصَة القيامة، ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك، وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه سبحانه وتعالى لهم في الموقف الحديث المشهور.
الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب كاللص إذا رأى السلطان ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم وأصحابه وقول غيرهم، وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل، وأبي سهل بن عبد الله التستري.
وهذا مقتضى قول من فسر [اللقاء] في كتاب الله بالرؤية؛ إذ طائفة من أهل السنة منهم أبو عبد الله بن بطة الإمام، قالوا في قول الله:{الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105]، وفي قوله:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، وفي قول الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:45- 46]، وفي قوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّه} [البقرة:249]، وفي قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ} [الأنعام:31]: إن اللقاء يدل على الرؤية والمعاينة، وعلى هذا المعنى، فقد استدل المثبتون بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق:6].
ومن أهل السنة من قال: اللقاء إذا قرن بالتحية فهو من الرؤية، وقال ابن بطة: سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى بلغنا [فى المطبوعة: [بغلنا] والصواب ما أثبتناه] يقول في قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}[الأحزاب:43-44]: أجمع أهل اللغة أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار.
وأما الفريق الأول، فقال بعضهم: ليس الدليل من القرآن على رؤية المؤمنين ربهم قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} وإنما الدليل آيات أخر، مثل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22- 23]، وقوله:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين: 22- 23]، وقوله: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] إلى غير ذلك.
ومن أقوي ما يتمسك به المثبتون: ما رواه مسلم في صحيحه عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إلى هنا رواه مسلم.
وفي رواية غيره وهي مثل روايته سواء صحيحة قال .
وهذا حديث صحيح، وفيه أن الكافر والمنافق يلقي ربه.
ويقال: ظاهره أن الخلق جميعهم يرون ربهم، فيلقى الله العبد عند ذلك.
لكن قال ابن خزيمة والقاضي ، فذكرعلى وغيرهما:اللقاء الذي في الخبر غير الترائي، لا أن الله تراءى لمن قال له هذا القول، وهؤلاء يقولون: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم؛ لأنهم قالوا:هل نرى ربنا؟والضمير عائد على المؤمني، فذكرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكافر يلقي ربه فيوبخه، ثم بعد ذلك تتبع كل أمة ما كانت تعبد، ثم بعد ذلك يراه المؤمنون.
يبين ذلك أن في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد، عن أبي هريرة .
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله ، قال أبو سعيد: إني سمعته يقول .
وفي رواية في الصحيح قال: وأبو سعيد مع أبي هريرة لا يرد عليه في حديثه شيئاً حتى إذا قال أبو هريرة: إن الله قال ،، قال أبو سعيد الخدري: وعشرة أمثاله يا أبا هريرة.
فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض، وقد اتفق أبو هريرة وأبو سعيد...[بياض بالأصل].
وليس فيه ذكر الرؤية إلا بعد أن تتبع كل أمة ما كانت تعبد.
وقد روى بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ،، و ذكر الحديث.
ففي هذا الحديث: أن المؤمنين لم يروه قبل تجليه لهم خاصة، وأصحاب القول الآخر يقولون:معنى هذا لم يروه مع هؤلاء الآلهة التي يتبعها الناس؛ فلذلك لم يتبعوا شيئاً.
يدل على ذلك ما في الصحيحين أيضاً من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قلنا وفي رواية قال .
ففي هذا الحديث:ما يستدل به على أنهم رأوه أول مرة قبل أن يقول .
وهي الرؤية الأولى العامة التي في الرؤية الأولى عن أبي هريرة، فإنه أخبر في ذلك الحديث بالرؤية واللقاء، ثم بعد ذلك يقول .
وكذلك جاء مثله في حـديث صحيـح من رواية العـلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأبين من هذا كله في أن الرؤية الأولى عامة لأهل الموقف: حديث أبى رَزِين العقيلي الحديث الطويل قد رواه جماعة من العلماء وتلقاه أكثر المحدثين بالقبول، وقد رواه ابن خزيمة في [كتاب التوحيد] وذكر أنه لم يحتج فيه إلا بالأحاديث الثابتة، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال ووذكر حديث [الصراط].
وقد روى أهل السنن، قطعة من حديث أبي رَزِين بإسناد جيد عن أبي رزين قال .
فهذا الحديث فيه أن قوله عموم لجميع الخلق، كما دل عليه سياقه.
وروى ابن، مايمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فهذه أحاديث مما يستمسك بـها هـؤلاء، فقد تمسك بعضهم بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} واعتقدوا أن الضمير عائد إلى الله، وهذا غلط؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَقُولُونََ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:25ـ27]، فهذا يبين أن الذي رأوه هو الوعد، أي: الموعود به من العذاب، ألا تراه يقول: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}.
وتمسكوا بأشياء باردة، فهموها من القرآن ليس فيها دلالة بحال.
وأما الذين خصوا بالرؤية أهل التوحيد في الظاهر مؤمنهم ومنافقهم فاستدلوا بحديث أبي هريرة وأبي سعيد المتقدمين كما ذكرناهما، وهؤلاء الذين يثبتون رؤيته لكافر ومنافق إنما يثبتونها مرة واحدة أو مرتين للمنافقين رؤية تعريف، ثم يحتجب عنهم بعد ذلك في العَرْصَة.
وأما الذين نفوا الرؤية مطلقاً على ظاهره المأثورعن المتقدمين، فإتباع لظاهر قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْعَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، روى ابن بطة بإسناده عن أشهب قال: قال رجل لمالك: يا أبا عبد الله، هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وعن المزَنيّ قال: سمعت ابن أبي هرم يقول: قال الشافعي: في كتاب الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته.
وعن حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول: أدركت الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة، يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين، قال أبو عبد الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فلا يكون حجاب إلا لرؤية، فأخبر الله أن من شاء الله ومن أراد فإنه يراه، والكفار لا يرونه. وقال: قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22- 23].
والأحاديث التي تروى في النظر إلى الله حديث جرير بن عبد الله وغيره (تنظرون إلى ربكم) أحاديث صحاح، وقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] النظر إلى الله.
قال أبو عبد الله: أحاديث الرؤية نؤمن بها ونعلم أنها حق، ونؤمن بأننا نرى ربنا يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب.
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن، ورد على الله تعالى أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية، فقال: صحاح، هذه نؤمن بها ونقر بها، وكل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به.
قال أبو عبد الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ودفعناه رددنا على الله أمره، قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر7].
وكذلك قال أبو عبد الله الماجَشُون وهو من أقران مالك في كلام له: فورب السماء والأرض ليجعل الله رؤيته يوم القيامة للمخلصين ثواباً، فتنْضُر بها وجوههم دون المجرمين، وتفلج بها حجتهم على الجاحدين؛ جهم وشيعته، وهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى، ولا يكلمهم، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، كيف لم يعتبروا؟! يقول الله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أفيظن أن الله يقصيهم ويعنتهم ويعذبهم بأمر يزعم الفاسق أنه وأولياؤه فيه سواء؟
ومثل هذا الكلام كثير في كلام غير واحد من السلف، مثل وَكِيع بن الجراح وغيره.
وقال القاضي أبو يعلى وغيره: كانت الأمة في رؤية الله بالأبصار على قولين: منهم المحيل للرؤية عليه، وهم المعتزلة، والنجارية، وغيرهم من الموافقين لهم على ذلك، والفريق الآخر أهل الحق والسلف من هذه الأمة متفقون على أن المؤمنين يرون الله في المعاد، وأن الكافرين لا يرونه، فثبت بهذا إجماع الأمة ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها على منع رؤية الكافرين لله، وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود.
وقال هو وغيره أيضاً: الأخبار الواردة في رؤية المؤمنين لله إنما هي على طريق البشارة، فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلت البشارة، ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة.
قال: وقول من قال: إنما يُرِي نفسه عقوبة لهم وتحسيراً على فوات دوام رؤيته، ومنعهم من ذلك بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور يوجب أن يدخل الجنة الكفار، ويريهم ما فيها من الحور والولدان، ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها، ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه، ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته.
والعمدة قوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم،وذلك اليوم يوم {يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم القيامة، فلو قيل: إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصاً للفظ بغير موجب، ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين؛ فإن الرؤية لا تكون دائمة للمؤمنين، والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به.
فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه، فعلم أن الكافر محجوب على الإطلاق بخلاف المؤمن، وإذا كانوا في عرصة القيامة محجوبين فمعلوم أنهم في النار أعظم حجباً، وقد قال سبحانه وتعالى:{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72]، وقال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وإطلاق وصفهم بالعمى ينافى الرؤية التي هي أفضل أنواع الرؤية.
فبالجملة، فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفى لهذه المسألة فإن العلم كثير، وإنما الغرض بيان أن هذه المسألة ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها، وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعاراً، ويوجب تفريق القلوب، وتشتت الأهواء.
وليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة وأتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم والناس بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة، كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفُرْيَة.
ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجر ولا تقاطعاً.
وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة، حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة، ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة.
والمختلفون في هذه المسألة أعذر من غيرهم، أما الجمهور فعذرهم ظاهر كما دل عليه القرآن، وما نقل عن السلف، وأن عامة الأحاديث الواردة في الرؤية لم تنص إلا على رؤية المؤمنين، وأنه لم يبلغهم نص صريح برؤية الكافر، ووجدوا الرؤية المطلقة قد صارت دالة على غاية الكرامة ونهاية النعيم.
وأما المثبتون عموماً وتفصيلاً، فقد ذكرت عذرهم، وهم يقولون: قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}}}[المطففين:15] هذا الحجب بعد المحاسبة، فإنه قد يقال: حجبت فلاناً عني، وإن كان قد تقدم الحجب نوع رؤية وهذا حجب عام متصل، وبهذا الحجب يحصل الفرق بينهم وبين المؤمنين، فإنه سبحانه وتعالى يتجلى للمؤمنين في عرصات القيامة بعد أن يحجب الكفار كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة، ثم يتجلى لهم في الجنة عموماً وخصوصاً دائماً أبداً سرمداً.
ويقولون: إن كلام السلف مطابق لما في القرآن، ثم إن هذا النوع من الرؤية الذي هو عام للخلائق قد يكون نوعاً ضعيفاً ليس من جنس الرؤية التي يختص بها المؤمنون، فإن الرؤية أنواع متباينة تبايناً عظيماً لا يكاد ينضبط طرفاها.
وهنا آداب تجب مراعاتها:
منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين، فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية، دون الساكت، فهذه أولى.
ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم، فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله.
وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة فإن الإيمان بذلك فرض واجب؛ لما قد تواتر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة.
ومن ذلك: أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد، لوجهين:
أحدهما: أن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة والثواب، ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش، وليس لأحد أن يطلق لفظاً يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثوراً عن السلف وهذا اللفظ ليس مأثوراً.
الثاني: أن الحكم إذا كان عاماً في تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل فإنه يمنع من التخصيص، فإن الله خالق كل شيء ومريد لكل حادث ومع هذا يمنع الإنسان أن يخص ما يستقذر من المخلوقات وما يستقبحه الشرع من الحوادث، بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريداً للزنا، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قال: ياخالق كل شيء، ويا من كل شيء يجري بمشيئته، فكذلك هنا لو قال: ما من أحد إلا سيخلو به ربه وليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، أو قال: إن الناس كلهم يحشرون إلى الله فينظر إليهم وينظرون إليه، كان هذا اللفظ مخالفاً في الإيهام للفظ الأول.
فلا يخرجن أحد عن الألفاظ المأثورة، وإن كان قد يقع تنازع في بعض معناها، فإن هذا الأمر لابد منه، فالأمر كما قد أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم والخير كل الخير في إتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمراً بيناً قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس والعين.
وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود، ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل، وافتراق أهل السنة والجماعة، فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة، أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية.
وإذا اشتبه على الإنسان أمر فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول .
وبعد هذا: فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويرزقنا إتباع هدى نبيه صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، ويجمع على الهدى شملنا، ويقرن بالتوفيق أمرنا، ويجعل قلوبنا على قلب خيارنا، ويعصمنا من الشيطان، ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وقد كتبت هذا الكتاب وتحريت فيه الرشد، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، ومع هذا فلم أحط علماً بحقيقة ما بينكم ولا بكيفية أموركم، وإنما كتبت على حسب ما فهمت من كلام من حدثني، والمقصود الأكبر إنما هو إصلاح ذات بينكم وتأليف قلوبكم.
وأما استيعاب القول في هذه المسألة وغيرها وبيان حقيقة الأمر فيها، فربما أقول أو أكتب في وقت آخر إن رأيت الحاجة ماسة إليه، فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم أوكد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.
والذي أوجب هذا: أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتي ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في رؤية الكفار ربهم، وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد، فالأمر في ذلك خفيف.
وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عَرْصة [العرْصة: البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء. انظر: المصباح المنير، مادة: عرص] القيامة وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالحديث، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم .
ورؤيته سبحانه هي أعلى مراتب نعيم الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به.
والذي عليه جمهور السلف:أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر.
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة، قد دون العلماء فيها كتباً مثل:[كتاب الرؤية] للدارقطنى، ولأبي نعيم، وللآجرى، وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة، واللالكَائي، وابن شاهين، وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل، وحنبل بن إسحاق، والخلال، والطبراني، وغيرهم.
وخرجها أصحاب الصحيح والمساند والسنن وغيرهم.
فأما مسألة رؤية الكفار، فأول ما انتشر الكلام فيها وتنازع الناس فيها فيما بلغنا بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء، وتكلم فيها آخرون، فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها؛ إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب سنة.
والكلام فيها قريب من الكلام في مسألة محاسبة الكفار: هل يحاسبون أم لا؟ هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق، والصحيح أيضاً ألا يضيق فيها ولا يهجر، وقد حكى عن أبي الحسن بن بشار أنه قال: لا يصلي خلف من يقول: إنهم يحاسبون. والصواب الذي عليه الجمهور: أنه يصلى خلف الفريقين، بل يكاد الخلاف بينهم يرتفع عند التحقيق؛ مع أنه قد اختلف فيها أصحاب الإمام أحمد، وإن كان أكثرهم يقولون: لا يحاسبون، واختلف فيها غيرهم من أهل العلم وأهل الكلام.
وذلك أن الحساب قد يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف، وعرضها على الكفار، وتوبيخهم على ما عملوه، وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه، فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق.
وقد يراد بالحساب وزن الحسنات بالسيئات؛ ليتبين أيهما أرجح، فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته؛ إذ أعماله كلها هابطة، وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسنات له.
وقد يراد بالحساب: أن الله هل هو الذي يكلمهم أم لا؟ فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت، لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة، وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة.
والأقوال الثلاثة في رؤية الكفار:
أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر للكفر ولا المسر له، وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين، وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة ومنافقيها وغُبَّرات [أي: بقايا] من أهل الكتاب وذلك في عَرْصَة القيامة، ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك، وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه سبحانه وتعالى لهم في الموقف الحديث المشهور.
الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب كاللص إذا رأى السلطان ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم وأصحابه وقول غيرهم، وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل، وأبي سهل بن عبد الله التستري.
وهذا مقتضى قول من فسر [اللقاء] في كتاب الله بالرؤية؛ إذ طائفة من أهل السنة منهم أبو عبد الله بن بطة الإمام، قالوا في قول الله:{الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105]، وفي قوله:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، وفي قول الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:45- 46]، وفي قوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّه} [البقرة:249]، وفي قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ} [الأنعام:31]: إن اللقاء يدل على الرؤية والمعاينة، وعلى هذا المعنى، فقد استدل المثبتون بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق:6].
ومن أهل السنة من قال: اللقاء إذا قرن بالتحية فهو من الرؤية، وقال ابن بطة: سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى بلغنا [فى المطبوعة: [بغلنا] والصواب ما أثبتناه] يقول في قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}[الأحزاب:43-44]: أجمع أهل اللغة أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار.
وأما الفريق الأول، فقال بعضهم: ليس الدليل من القرآن على رؤية المؤمنين ربهم قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} وإنما الدليل آيات أخر، مثل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22- 23]، وقوله:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين: 22- 23]، وقوله: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] إلى غير ذلك.
ومن أقوي ما يتمسك به المثبتون: ما رواه مسلم في صحيحه عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إلى هنا رواه مسلم.
وفي رواية غيره وهي مثل روايته سواء صحيحة قال .
وهذا حديث صحيح، وفيه أن الكافر والمنافق يلقي ربه.
ويقال: ظاهره أن الخلق جميعهم يرون ربهم، فيلقى الله العبد عند ذلك.
لكن قال ابن خزيمة والقاضي ، فذكرعلى وغيرهما:اللقاء الذي في الخبر غير الترائي، لا أن الله تراءى لمن قال له هذا القول، وهؤلاء يقولون: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم؛ لأنهم قالوا:هل نرى ربنا؟والضمير عائد على المؤمني، فذكرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكافر يلقي ربه فيوبخه، ثم بعد ذلك تتبع كل أمة ما كانت تعبد، ثم بعد ذلك يراه المؤمنون.
يبين ذلك أن في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد، عن أبي هريرة .
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله ، قال أبو سعيد: إني سمعته يقول .
وفي رواية في الصحيح قال: وأبو سعيد مع أبي هريرة لا يرد عليه في حديثه شيئاً حتى إذا قال أبو هريرة: إن الله قال ،، قال أبو سعيد الخدري: وعشرة أمثاله يا أبا هريرة.
فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض، وقد اتفق أبو هريرة وأبو سعيد...[بياض بالأصل].
وليس فيه ذكر الرؤية إلا بعد أن تتبع كل أمة ما كانت تعبد.
وقد روى بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ،، و ذكر الحديث.
ففي هذا الحديث: أن المؤمنين لم يروه قبل تجليه لهم خاصة، وأصحاب القول الآخر يقولون:معنى هذا لم يروه مع هؤلاء الآلهة التي يتبعها الناس؛ فلذلك لم يتبعوا شيئاً.
يدل على ذلك ما في الصحيحين أيضاً من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قلنا وفي رواية قال .
ففي هذا الحديث:ما يستدل به على أنهم رأوه أول مرة قبل أن يقول .
وهي الرؤية الأولى العامة التي في الرؤية الأولى عن أبي هريرة، فإنه أخبر في ذلك الحديث بالرؤية واللقاء، ثم بعد ذلك يقول .
وكذلك جاء مثله في حـديث صحيـح من رواية العـلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأبين من هذا كله في أن الرؤية الأولى عامة لأهل الموقف: حديث أبى رَزِين العقيلي الحديث الطويل قد رواه جماعة من العلماء وتلقاه أكثر المحدثين بالقبول، وقد رواه ابن خزيمة في [كتاب التوحيد] وذكر أنه لم يحتج فيه إلا بالأحاديث الثابتة، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال ووذكر حديث [الصراط].
وقد روى أهل السنن، قطعة من حديث أبي رَزِين بإسناد جيد عن أبي رزين قال .
فهذا الحديث فيه أن قوله عموم لجميع الخلق، كما دل عليه سياقه.
وروى ابن، مايمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فهذه أحاديث مما يستمسك بـها هـؤلاء، فقد تمسك بعضهم بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} واعتقدوا أن الضمير عائد إلى الله، وهذا غلط؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَقُولُونََ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:25ـ27]، فهذا يبين أن الذي رأوه هو الوعد، أي: الموعود به من العذاب، ألا تراه يقول: {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}.
وتمسكوا بأشياء باردة، فهموها من القرآن ليس فيها دلالة بحال.
وأما الذين خصوا بالرؤية أهل التوحيد في الظاهر مؤمنهم ومنافقهم فاستدلوا بحديث أبي هريرة وأبي سعيد المتقدمين كما ذكرناهما، وهؤلاء الذين يثبتون رؤيته لكافر ومنافق إنما يثبتونها مرة واحدة أو مرتين للمنافقين رؤية تعريف، ثم يحتجب عنهم بعد ذلك في العَرْصَة.
وأما الذين نفوا الرؤية مطلقاً على ظاهره المأثورعن المتقدمين، فإتباع لظاهر قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْعَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، روى ابن بطة بإسناده عن أشهب قال: قال رجل لمالك: يا أبا عبد الله، هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ فقال مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الله الكفار بالحجاب، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وعن المزَنيّ قال: سمعت ابن أبي هرم يقول: قال الشافعي: في كتاب الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته.
وعن حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول: أدركت الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة، يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين، قال أبو عبد الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فلا يكون حجاب إلا لرؤية، فأخبر الله أن من شاء الله ومن أراد فإنه يراه، والكفار لا يرونه. وقال: قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22- 23].
والأحاديث التي تروى في النظر إلى الله حديث جرير بن عبد الله وغيره (تنظرون إلى ربكم) أحاديث صحاح، وقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] النظر إلى الله.
قال أبو عبد الله: أحاديث الرؤية نؤمن بها ونعلم أنها حق، ونؤمن بأننا نرى ربنا يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب.
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن، ورد على الله تعالى أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية، فقال: صحاح، هذه نؤمن بها ونقر بها، وكل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به.
قال أبو عبد الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ودفعناه رددنا على الله أمره، قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر7].
وكذلك قال أبو عبد الله الماجَشُون وهو من أقران مالك في كلام له: فورب السماء والأرض ليجعل الله رؤيته يوم القيامة للمخلصين ثواباً، فتنْضُر بها وجوههم دون المجرمين، وتفلج بها حجتهم على الجاحدين؛ جهم وشيعته، وهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، لا يرونه كما زعموا أنه لا يرى، ولا يكلمهم، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، كيف لم يعتبروا؟! يقول الله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أفيظن أن الله يقصيهم ويعنتهم ويعذبهم بأمر يزعم الفاسق أنه وأولياؤه فيه سواء؟
ومثل هذا الكلام كثير في كلام غير واحد من السلف، مثل وَكِيع بن الجراح وغيره.
وقال القاضي أبو يعلى وغيره: كانت الأمة في رؤية الله بالأبصار على قولين: منهم المحيل للرؤية عليه، وهم المعتزلة، والنجارية، وغيرهم من الموافقين لهم على ذلك، والفريق الآخر أهل الحق والسلف من هذه الأمة متفقون على أن المؤمنين يرون الله في المعاد، وأن الكافرين لا يرونه، فثبت بهذا إجماع الأمة ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها على منع رؤية الكافرين لله، وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود.
وقال هو وغيره أيضاً: الأخبار الواردة في رؤية المؤمنين لله إنما هي على طريق البشارة، فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلت البشارة، ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة.
قال: وقول من قال: إنما يُرِي نفسه عقوبة لهم وتحسيراً على فوات دوام رؤيته، ومنعهم من ذلك بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور يوجب أن يدخل الجنة الكفار، ويريهم ما فيها من الحور والولدان، ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها، ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه، ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته.
والعمدة قوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم،وذلك اليوم يوم {يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم القيامة، فلو قيل: إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصاً للفظ بغير موجب، ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين؛ فإن الرؤية لا تكون دائمة للمؤمنين، والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به.
فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه، فعلم أن الكافر محجوب على الإطلاق بخلاف المؤمن، وإذا كانوا في عرصة القيامة محجوبين فمعلوم أنهم في النار أعظم حجباً، وقد قال سبحانه وتعالى:{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72]، وقال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وإطلاق وصفهم بالعمى ينافى الرؤية التي هي أفضل أنواع الرؤية.
فبالجملة، فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفى لهذه المسألة فإن العلم كثير، وإنما الغرض بيان أن هذه المسألة ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها، وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعاراً، ويوجب تفريق القلوب، وتشتت الأهواء.
وليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة وأتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم والناس بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة، كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفُرْيَة.
ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجر ولا تقاطعاً.
وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة، حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة، ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة.
والمختلفون في هذه المسألة أعذر من غيرهم، أما الجمهور فعذرهم ظاهر كما دل عليه القرآن، وما نقل عن السلف، وأن عامة الأحاديث الواردة في الرؤية لم تنص إلا على رؤية المؤمنين، وأنه لم يبلغهم نص صريح برؤية الكافر، ووجدوا الرؤية المطلقة قد صارت دالة على غاية الكرامة ونهاية النعيم.
وأما المثبتون عموماً وتفصيلاً، فقد ذكرت عذرهم، وهم يقولون: قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}}}[المطففين:15] هذا الحجب بعد المحاسبة، فإنه قد يقال: حجبت فلاناً عني، وإن كان قد تقدم الحجب نوع رؤية وهذا حجب عام متصل، وبهذا الحجب يحصل الفرق بينهم وبين المؤمنين، فإنه سبحانه وتعالى يتجلى للمؤمنين في عرصات القيامة بعد أن يحجب الكفار كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة، ثم يتجلى لهم في الجنة عموماً وخصوصاً دائماً أبداً سرمداً.
ويقولون: إن كلام السلف مطابق لما في القرآن، ثم إن هذا النوع من الرؤية الذي هو عام للخلائق قد يكون نوعاً ضعيفاً ليس من جنس الرؤية التي يختص بها المؤمنون، فإن الرؤية أنواع متباينة تبايناً عظيماً لا يكاد ينضبط طرفاها.
وهنا آداب تجب مراعاتها:
منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين، فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية، دون الساكت، فهذه أولى.
ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعاراً يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم، فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله.
وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة فإن الإيمان بذلك فرض واجب؛ لما قد تواتر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة.
ومن ذلك: أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد، لوجهين:
أحدهما: أن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة والثواب، ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش، وليس لأحد أن يطلق لفظاً يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثوراً عن السلف وهذا اللفظ ليس مأثوراً.
الثاني: أن الحكم إذا كان عاماً في تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل فإنه يمنع من التخصيص، فإن الله خالق كل شيء ومريد لكل حادث ومع هذا يمنع الإنسان أن يخص ما يستقذر من المخلوقات وما يستقبحه الشرع من الحوادث، بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريداً للزنا، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قال: ياخالق كل شيء، ويا من كل شيء يجري بمشيئته، فكذلك هنا لو قال: ما من أحد إلا سيخلو به ربه وليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، أو قال: إن الناس كلهم يحشرون إلى الله فينظر إليهم وينظرون إليه، كان هذا اللفظ مخالفاً في الإيهام للفظ الأول.
فلا يخرجن أحد عن الألفاظ المأثورة، وإن كان قد يقع تنازع في بعض معناها، فإن هذا الأمر لابد منه، فالأمر كما قد أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم والخير كل الخير في إتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة، إلا أن يكون أمراً بيناً قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة فعلى الرأس والعين.
وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود، ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل، وافتراق أهل السنة والجماعة، فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة، أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية.
وإذا اشتبه على الإنسان أمر فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول .
وبعد هذا: فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويرزقنا إتباع هدى نبيه صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، ويجمع على الهدى شملنا، ويقرن بالتوفيق أمرنا، ويجعل قلوبنا على قلب خيارنا، ويعصمنا من الشيطان، ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وقد كتبت هذا الكتاب وتحريت فيه الرشد، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، ومع هذا فلم أحط علماً بحقيقة ما بينكم ولا بكيفية أموركم، وإنما كتبت على حسب ما فهمت من كلام من حدثني، والمقصود الأكبر إنما هو إصلاح ذات بينكم وتأليف قلوبكم.
وأما استيعاب القول في هذه المسألة وغيرها وبيان حقيقة الأمر فيها، فربما أقول أو أكتب في وقت آخر إن رأيت الحاجة ماسة إليه، فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم أوكد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.