هل يوصف الله بالخيانة والخداع؟
محمد بن صالح العثيمين
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: هل يوصف الله بالخيانة والخداع، كما قال الله تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم}؟
الإجابة:
ما هو لقاء الله سبحانه الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]، وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى:{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [البقرة:223]، وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين، وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}[العنكبوت:5]، واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين، كقوله في دعائه: (لقاؤك حق)، وقوله الحديث وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره: جزاء ربهم أو نحوه، بكونه مما لا يصح أن يضاف إلى الله تعالى حقيقة، فيستحيل ظاهره ويكون المراد منه غير ظاهره، ويصار فيه إلى تأويل معين؟ أم هو مستغن عن ذلك لجوازه في نفسه؟ وكيف يتصور منا محبة من لا نعرفه، ولا نطلع عليه؟ أم كيف يتأتى شوقه وحنين القلوب إليه، وإيثاره على ما سواه، مما هو عندنا معروف ولقلوبنا مألوف؟ ولنا به منفعة عاجلة، ولذة حاصلة.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كراهية الموت، وكلنا نكره الموت.
فرد صلى الله عليه وسلم قولها بما تضمنه الحديث الحديث.
وقد يعترض على هذا سؤال، وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه، لا لمجـرد لقـاء اللـه تعالى فكيف يجـازي عليـه بحـب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة، وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصاً؟
بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي، بالجواب الصحيح الكافي، طلباً للأجر الوافي إن شاء الله تعالى؟
فأجاب رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله، [أما اللقاء] فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير، وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات [اللقاء] على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية، كالمعتزلة وغيرهم.
وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال في قوله:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}[الكهف:110]: ولايرائي، أوقال: ولا يخبر به أحداً، وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين:
أحدهما:السير إلى الملك، والثاني: معاينته، كما قال:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق:6]، فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبهما.
وأما المعاينة من غير مسير إليه كمعاينة الشمس والقمر فلا يسمى لقاء.
وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه.
ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}[الأنفال: 45]، و {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}[الأنفال:15]، وقال:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} الآية [البقرة:14]، وقال:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، وقال:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}[الأنفال:44]، وقال تعالى: {ققَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}[آل عمران: 13].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه لقى النبي صلى الله عليه وسلم في طريق المدينة وهو جُنُب، فانفتل فذهب فاغتسل، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال وفي لفظ: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مسلم عن حذيفة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، فذكر معناه.
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال الحديث.
وفي حديث عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه، ومثل هذا كثير في كلام العرب كقول الشاعر:
متى ما تلقى فرد من ** ترجو وأبو السنل
ويستعمل [اللقاء] في لقاء العدو، ولقاء الولي، ولقاء المحبوب، ولقاء المكروه، وقد يستعمل فيما يتضمن مباشرة الملاقي ومماسته مع اللذه والألم، كما قال ، وفي الحديث الصحيح .
ومن نحو هذا قوله:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}[الجمعة:8] وقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}[الإنسان:11]، وقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً} [الفرقان:75]، ويقال: فلان لقي خيراً ولقى شراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقد يقال: إن [اللقاء] في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[آل عمران: 143]؛ لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور، وقد قيل: إن الموت نفسه يشهد ويرى ظاهراً.
وقيل:المرئي أسبابه.
وقد جاء في الكتاب والسنة ألفاظ من نحو [لقاء الله]، كقوله:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام:94]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا}[الأنعام:30]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}[النور:39]، وقوله:{كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:11، 12]، وقوله:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، وقوله:{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 156]، وقوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3]، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:25-26].
لكن يلزم هؤلاء مسألة تكلم الناس فيها، وهي أن القرآن قد أخبر أنه يلقاه الكفار ويلقاه المؤمنون، كما قال:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً }[الانشقاق:6ـ12].
وقد تنازع الناس في الكفار: هل يرون ربهم مرة ثم يحتجب عنهم، أم لا يرونه بحال، تمسكاً بظاهر قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، ولأن الرؤية أعظم الكرامة والنعيم، والكفار لا حظ لهم في ذلك.
وقالت طوائف من أهل الحديث والتصوف: بل يرونه ثم يحتجب، كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي في الصحيح وغيره، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مع موافقة ظاهر القرآن، قالوا: وقوله: {لَّمَحْجُوبُون} يشعر بأنهم عاينوا ثم حجبوا، ودليل ذلك قوله: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فعلم أن الحجب كان يومئذ. فيشعر بأنه يختص بذلك اليوم، وذلك إنما هو في الحجب بعد الرؤية، فأما المنع الدائم من الرؤية فلا يزال في الدنيا والآخرة، قالوا: ورؤية الكفار ليست كرامة ولا نعيماً؛ إذ [اللقاء] ينقسم إلى لقاء على وجه الإكرام، ولقاء على وجه العذاب، فهكذا الرؤية التي يتضمنها اللقاء.
ومما احتجوا به الحديث الصحيح حديث سفيان بن عيينة: حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة وقد روى مسلم وأبو داود وأحمد في المسند وابن خزيمة في التوحيد وغيره قال ، وتمام الحديث قال .
قال سفيان ابن عيينة: حفظته أنا وروح بن القاسم، وردده علينا مرتين أو ثلاثاً.
وسئل سفيان عن قوله:(ترأس وتربع) فقال: كان الرجل إذا كان رأس القوم كان له الرباع وهو الربع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، حيث قال: يا رسول الله، إني على دين قال .
وهذا الحديث معناه في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة، يصدق بعضها بعضاً، وفيه أنه سئل عن الرؤية فأجاب بثبوتها، ثم أتبع ذلك بتفسيره وذكر أنه يلقاه العبد، والمنافق، وأنه يخاطبهم.
وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين، بعد ما تجلى لهم أول مرة، ويسجد المؤمنون دون المنافقين.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.
وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فيمتنع على أصلهم لقاء الله؛ لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة، وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية، قد بينا فسادها مبسوطاًً، وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية.
وهذه المسألة من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها، وصنفوا فيها مصنفات مشهورة.
والثاني: أن عندهم لا يتصور الكَدْح إليه، ولا العَرْض عليه، ولا الوقوف عليه، ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده، ولا أن يشار إليه، ولا أن يرجع إليه، ولا يؤوب إليه، إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة وبينهما فضل يقتضى تقرباً إليه ودنواً منه، وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا، وهذا كله محال عندهم، فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق كما اتفق السلف والأئمة، وصرحوا بأنه مباين للخلق، ليس داخلاً في المخلوقات، ولا المخلوقات داخلة فيه بل تارة يجعلونه حالاً بذاته في كل مكان، وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات، وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة، مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين:
إما أن يصفوه بما يقتضى عدمه وتعطيله، فينكرونه، وإن كانوا يقرون به، فيجمعون في قولهم بين الإقرار والإنكار، والنفي والإثبات.
وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين، ويقول: إن هذا غاية التحقيق والعرفان.
وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منهـا، أو صفـة لهـا، وذلك أيضاً يقتضي قولهم بعدم الخالق، وتعطيل الصانع وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه، ثم يجدون في المخلوقات مبايناً في ربوبية المخلوق، فيقولون بالجمع بين النقيضين، كما تقدم.
وقد يقولون بعبادة الأصنام، وأن عباد الأصنام على حق، وعباد العجل على حق وأنه ما عبد غير الله قط، إذ لا غير عندهم، بل الوجود واحد، ويقولون بامتناع الدعوة إليه، وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه، وهم يقولون: ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية، بل هو عين المدعو، فكيف يدعو إلى نفسه؟
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جداً.
وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون [اللقاء] على أن المراد به لقاء جزاء ربهم، ويقولون: إن الجزاء قد يرى، كما في قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}[الملك:25ـ27]، فإن ضمير المفعول في {رَأَوْهُ} عائد إلى الوعد، والمراد به الموعود، أي:فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا.
ومن قال: إن الضمير عائد هنا إلى الله، فقوله ضعيف، وفساد قول الذين يجعلون المراد لقاء الجزاء دون لقاء الله معلوم بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسنة، يظهر فساده من وجوه:
أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.
الثاني: أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن،فلابد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك، كما قيل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}[يوسف:82] ولو قال قائل: رأيت زيداً، أو لقيته مطلقاً، وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع، ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة، مطلقاً غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره.
الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليساً وتلبيساً، يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس، وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم، وأخبر أن عليه بيانه، ولا يجوز أن يقال: ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها؛ لوجهين:
أحدهما: أن يقال: ليس في العقل ما ينافى ذلك، بل الضرورة العقلية، والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن، كما قال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}[سبأ:6]، وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن، فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، دون من يقلد فيها بغير نظر تام.
الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلاً عقلياً ينافى مدلول القرآن لكان خفياً دقيقاً، ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها، ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء، إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب.
ومعلوم أن المخاطب الذي أخبر أنه بين للناس، وأن كلامه بلاغ مبين، وهدى للناس إذا أراد بكلامه ما لا يدل عليه ولا يفهم منه إلا مثل هذه القرينة، لم يكن قد بين وهدى، بل قد كان لبس وأضل، وهذا مما اتفق المسلمون على وجوب تنزيه الله ورسوله، بل وعامة الصحابة والأئمة من ذلك.
الرابع: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ، وفي لفظ . ففي الحديث فرق بين لقاءه وبين الجنة والنار، والجنة والنار تتضمن جزاء المطيعين والعصاة، فعلم أن لقاءه ليس هو لقاء الجنة والنار.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في غير حديث ما يبين لقاء العبد ربه، كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، إلى أمثال ذلك من الأحاديث.
السادس: أنه لو أريد بلقاء الله بعض المخلوقات إما جزاء وإما غير جزاء لكان ذلك واقعاً في الدنيا والآخرة، فكان العبد لا يزال ملاقياً لربه، ولما علم المسلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن لقاء الله لا يكون إلا بعد الموت، علم بطلان أن [اللقاء] لقاء بعض المخلوقات، ومعلوم أن الله قد جازى خلقاً على أعمالهم في الدنيا بخير وشر، كما جازي قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وكما جازى الأنبياء وأتباعهم، ولم يقل مسلم:إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله، ولو قال قائل: إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلاً، أو النار، لقيل له: ليس في لفظ هذا لقاء مخصوص، ولا دليل عليه، وليس هو بأولى من أن يقال: لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته، أو بعض الشياطين، وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل ذلك.
الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلاً، بل حيث ذكر هذا اللفظ، فإنما يراد به لقاء المذكور؛ إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به، فلا يدل عليه.
الوجه الثامن:أن قوله:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب:43-44]، فلو كان اللقاء هو لقاء جزائه، لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم، وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده؛ إذ الإعداد مقصوده الوصول، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود؟ هذا نزاع بَيِّن العيِّ الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين، لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف، لا في حصول شيء من النعيم المخلوق.
الوجه التاسع:أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد، وهذا يمتنع حمله على الجزاء؛ لأن الله لا يكره جزاء أحد، ولأن الجزاء لا يلقاه الله، ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقي العبد، فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقاءه سائر المخلوقات، فهذا تعطيل النص، وإما أن يقال: بل هو لاق لبعضها، فيتناقض قول الجهمي ويبطل.
ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى، يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلاً عن أكثرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.
ما هو لقاء الله سبحانه الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]، وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى:{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [البقرة:223]، وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين، وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى:{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}[العنكبوت:5]، واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين، كقوله في دعائه: (لقاؤك حق)، وقوله الحديث وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره: جزاء ربهم أو نحوه، بكونه مما لا يصح أن يضاف إلى الله تعالى حقيقة، فيستحيل ظاهره ويكون المراد منه غير ظاهره، ويصار فيه إلى تأويل معين؟ أم هو مستغن عن ذلك لجوازه في نفسه؟ وكيف يتصور منا محبة من لا نعرفه، ولا نطلع عليه؟ أم كيف يتأتى شوقه وحنين القلوب إليه، وإيثاره على ما سواه، مما هو عندنا معروف ولقلوبنا مألوف؟ ولنا به منفعة عاجلة، ولذة حاصلة.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: كراهية الموت، وكلنا نكره الموت.
فرد صلى الله عليه وسلم قولها بما تضمنه الحديث الحديث.
وقد يعترض على هذا سؤال، وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه، لا لمجـرد لقـاء اللـه تعالى فكيف يجـازي عليـه بحـب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة، وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصاً؟
بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي، بالجواب الصحيح الكافي، طلباً للأجر الوافي إن شاء الله تعالى؟
فأجاب رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله، [أما اللقاء] فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير، وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات [اللقاء] على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية، كالمعتزلة وغيرهم.
وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال في قوله:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}[الكهف:110]: ولايرائي، أوقال: ولا يخبر به أحداً، وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين:
أحدهما:السير إلى الملك، والثاني: معاينته، كما قال:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق:6]، فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبهما.
وأما المعاينة من غير مسير إليه كمعاينة الشمس والقمر فلا يسمى لقاء.
وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه.
ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}[الأنفال: 45]، و {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}[الأنفال:15]، وقال:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} الآية [البقرة:14]، وقال:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، وقال:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}[الأنفال:44]، وقال تعالى: {ققَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}[آل عمران: 13].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه لقى النبي صلى الله عليه وسلم في طريق المدينة وهو جُنُب، فانفتل فذهب فاغتسل، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال وفي لفظ: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مسلم عن حذيفة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، فذكر معناه.
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال الحديث.
وفي حديث عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه، ومثل هذا كثير في كلام العرب كقول الشاعر:
متى ما تلقى فرد من ** ترجو وأبو السنل
ويستعمل [اللقاء] في لقاء العدو، ولقاء الولي، ولقاء المحبوب، ولقاء المكروه، وقد يستعمل فيما يتضمن مباشرة الملاقي ومماسته مع اللذه والألم، كما قال ، وفي الحديث الصحيح .
ومن نحو هذا قوله:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}[الجمعة:8] وقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}[الإنسان:11]، وقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً} [الفرقان:75]، ويقال: فلان لقي خيراً ولقى شراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وقد يقال: إن [اللقاء] في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[آل عمران: 143]؛ لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور، وقد قيل: إن الموت نفسه يشهد ويرى ظاهراً.
وقيل:المرئي أسبابه.
وقد جاء في الكتاب والسنة ألفاظ من نحو [لقاء الله]، كقوله:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام:94]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا}[الأنعام:30]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14]، وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}[النور:39]، وقوله:{كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:11، 12]، وقوله:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، وقوله:{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة: 156]، وقوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3]، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:25-26].
لكن يلزم هؤلاء مسألة تكلم الناس فيها، وهي أن القرآن قد أخبر أنه يلقاه الكفار ويلقاه المؤمنون، كما قال:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً }[الانشقاق:6ـ12].
وقد تنازع الناس في الكفار: هل يرون ربهم مرة ثم يحتجب عنهم، أم لا يرونه بحال، تمسكاً بظاهر قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15]، ولأن الرؤية أعظم الكرامة والنعيم، والكفار لا حظ لهم في ذلك.
وقالت طوائف من أهل الحديث والتصوف: بل يرونه ثم يحتجب، كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي في الصحيح وغيره، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مع موافقة ظاهر القرآن، قالوا: وقوله: {لَّمَحْجُوبُون} يشعر بأنهم عاينوا ثم حجبوا، ودليل ذلك قوله: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}، فعلم أن الحجب كان يومئذ. فيشعر بأنه يختص بذلك اليوم، وذلك إنما هو في الحجب بعد الرؤية، فأما المنع الدائم من الرؤية فلا يزال في الدنيا والآخرة، قالوا: ورؤية الكفار ليست كرامة ولا نعيماً؛ إذ [اللقاء] ينقسم إلى لقاء على وجه الإكرام، ولقاء على وجه العذاب، فهكذا الرؤية التي يتضمنها اللقاء.
ومما احتجوا به الحديث الصحيح حديث سفيان بن عيينة: حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة وقد روى مسلم وأبو داود وأحمد في المسند وابن خزيمة في التوحيد وغيره قال ، وتمام الحديث قال .
قال سفيان ابن عيينة: حفظته أنا وروح بن القاسم، وردده علينا مرتين أو ثلاثاً.
وسئل سفيان عن قوله:(ترأس وتربع) فقال: كان الرجل إذا كان رأس القوم كان له الرباع وهو الربع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، حيث قال: يا رسول الله، إني على دين قال .
وهذا الحديث معناه في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة، يصدق بعضها بعضاً، وفيه أنه سئل عن الرؤية فأجاب بثبوتها، ثم أتبع ذلك بتفسيره وذكر أنه يلقاه العبد، والمنافق، وأنه يخاطبهم.
وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين، بعد ما تجلى لهم أول مرة، ويسجد المؤمنون دون المنافقين.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.
وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فيمتنع على أصلهم لقاء الله؛ لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة، وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية، قد بينا فسادها مبسوطاًً، وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية.
وهذه المسألة من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها، وصنفوا فيها مصنفات مشهورة.
والثاني: أن عندهم لا يتصور الكَدْح إليه، ولا العَرْض عليه، ولا الوقوف عليه، ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده، ولا أن يشار إليه، ولا أن يرجع إليه، ولا يؤوب إليه، إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة وبينهما فضل يقتضى تقرباً إليه ودنواً منه، وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا، وهذا كله محال عندهم، فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق كما اتفق السلف والأئمة، وصرحوا بأنه مباين للخلق، ليس داخلاً في المخلوقات، ولا المخلوقات داخلة فيه بل تارة يجعلونه حالاً بذاته في كل مكان، وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات، وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة، مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين:
إما أن يصفوه بما يقتضى عدمه وتعطيله، فينكرونه، وإن كانوا يقرون به، فيجمعون في قولهم بين الإقرار والإنكار، والنفي والإثبات.
وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين، ويقول: إن هذا غاية التحقيق والعرفان.
وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منهـا، أو صفـة لهـا، وذلك أيضاً يقتضي قولهم بعدم الخالق، وتعطيل الصانع وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه، ثم يجدون في المخلوقات مبايناً في ربوبية المخلوق، فيقولون بالجمع بين النقيضين، كما تقدم.
وقد يقولون بعبادة الأصنام، وأن عباد الأصنام على حق، وعباد العجل على حق وأنه ما عبد غير الله قط، إذ لا غير عندهم، بل الوجود واحد، ويقولون بامتناع الدعوة إليه، وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه، وهم يقولون: ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية، بل هو عين المدعو، فكيف يدعو إلى نفسه؟
وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جداً.
وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون [اللقاء] على أن المراد به لقاء جزاء ربهم، ويقولون: إن الجزاء قد يرى، كما في قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}[الملك:25ـ27]، فإن ضمير المفعول في {رَأَوْهُ} عائد إلى الوعد، والمراد به الموعود، أي:فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا.
ومن قال: إن الضمير عائد هنا إلى الله، فقوله ضعيف، وفساد قول الذين يجعلون المراد لقاء الجزاء دون لقاء الله معلوم بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسنة، يظهر فساده من وجوه:
أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين.
الثاني: أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن،فلابد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك، كما قيل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}[يوسف:82] ولو قال قائل: رأيت زيداً، أو لقيته مطلقاً، وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع، ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة، مطلقاً غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره.
الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليساً وتلبيساً، يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس، وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم، وأخبر أن عليه بيانه، ولا يجوز أن يقال: ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها؛ لوجهين:
أحدهما: أن يقال: ليس في العقل ما ينافى ذلك، بل الضرورة العقلية، والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن، كما قال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}[سبأ:6]، وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن، فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، دون من يقلد فيها بغير نظر تام.
الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلاً عقلياً ينافى مدلول القرآن لكان خفياً دقيقاً، ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها، ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء، إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب.
ومعلوم أن المخاطب الذي أخبر أنه بين للناس، وأن كلامه بلاغ مبين، وهدى للناس إذا أراد بكلامه ما لا يدل عليه ولا يفهم منه إلا مثل هذه القرينة، لم يكن قد بين وهدى، بل قد كان لبس وأضل، وهذا مما اتفق المسلمون على وجوب تنزيه الله ورسوله، بل وعامة الصحابة والأئمة من ذلك.
الرابع: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ، وفي لفظ . ففي الحديث فرق بين لقاءه وبين الجنة والنار، والجنة والنار تتضمن جزاء المطيعين والعصاة، فعلم أن لقاءه ليس هو لقاء الجنة والنار.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في غير حديث ما يبين لقاء العبد ربه، كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ، إلى أمثال ذلك من الأحاديث.
السادس: أنه لو أريد بلقاء الله بعض المخلوقات إما جزاء وإما غير جزاء لكان ذلك واقعاً في الدنيا والآخرة، فكان العبد لا يزال ملاقياً لربه، ولما علم المسلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن لقاء الله لا يكون إلا بعد الموت، علم بطلان أن [اللقاء] لقاء بعض المخلوقات، ومعلوم أن الله قد جازى خلقاً على أعمالهم في الدنيا بخير وشر، كما جازي قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وكما جازى الأنبياء وأتباعهم، ولم يقل مسلم:إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله، ولو قال قائل: إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلاً، أو النار، لقيل له: ليس في لفظ هذا لقاء مخصوص، ولا دليل عليه، وليس هو بأولى من أن يقال: لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته، أو بعض الشياطين، وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل ذلك.
الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازاً، ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلاً، بل حيث ذكر هذا اللفظ، فإنما يراد به لقاء المذكور؛ إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به، فلا يدل عليه.
الوجه الثامن:أن قوله:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب:43-44]، فلو كان اللقاء هو لقاء جزائه، لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم، وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده؛ إذ الإعداد مقصوده الوصول، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود؟ هذا نزاع بَيِّن العيِّ الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين، لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف، لا في حصول شيء من النعيم المخلوق.
الوجه التاسع:أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد، وهذا يمتنع حمله على الجزاء؛ لأن الله لا يكره جزاء أحد، ولأن الجزاء لا يلقاه الله، ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقي العبد، فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقاءه سائر المخلوقات، فهذا تعطيل النص، وإما أن يقال: بل هو لاق لبعضها، فيتناقض قول الجهمي ويبطل.
ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى، يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلاً عن أكثرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.