ما هي شروط الصلاة؟ وما الذي يترتب عليها؟
محمد بن صالح العثيمين
- التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال: ما هي شروط الصلاة بعامة؟ ونرجو من فضيلتكم بيان ما يترتب عليها؟
الإجابة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
أصحابه أجمعين، أما بعد:
شروط الصلاة ما يتوقف عليه صحة الصلاة من أمور خارجة عن ماهيتها، لأن الشرط في اللغة العلامة، كما قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي علاماتها، والشرط في الشرع في اصطلاح أهل الأصول: ما يلزم عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
وأهم شروط الصلاة الوقت، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}، ولهذا تسقط كثير من الواجبات مراعاة للوقت، وينبغي بل يجب على الإنسان أن يحافظ على أن تكون الصلاة في وقتها.
وأوقات الصلاة ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة في سنته، أما في الكتاب العزيز فقد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}، فقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي زوالها، وقوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي انتصاف الليل، لأن أقوى غسق في الليل نصفه، وهذا الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل يشتمل على أوقات أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وهذه الأوقات كلها متتالية ليس بينها فاصل، فوقت الظهر: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء كطوله، ووقت العصر: من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس الوقت الاختياري، وإلى غروب الشمس الوقت الاضطراري، ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة التي تكون في الأفق بعد غروب الشمس، ووقت العشاء: من هذا الوقت إلى منتصف الليل هذه هي الأوقات الأربعة المتصلة بعضها ببعض، وأما من نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة فريضة، ووقت صلاة الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ولهذا فضله الله تعالى عما قبله فقال: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}، والسنة جاءت مبينة لهذا على ما وصفته آنفاً.
هذه الأوقات التي فرضها الله تعالى على عباده، فلا يجوز للإنسان أن يقدم الصلاة عن وقتها، ولا يجوز أن يؤخرها عن وقتها.
فإن قدمها عن وقتها ولو بقدر تكبيرة الإحرام لم تصح، لأنه يجب أن تكون الصلاة في نفس الوقت، لأن الوقت ظرف فلابد أن يكون المظروف داخله، ومن أخر الصلاة عن وقتها فإن كان لعذر من نوم، أو نسيان أو نحوه فإنه يصليها إذا زال العذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " " ثم تلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.
وإن لم يكن له عذر فإن صلاته لا تصح ولو صلى ألف مرة، فإذا ترك الإنسان الصلاة فلم يصلها في وقتها فإنها لا تنفعه، ولا تبرأ به ذمته إذا كان تركه إياها لغير عذر ولو صلاها آلاف المرات، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " "، ومن ترك الصلاة حتى خرج وقتها لغير عذر فقد صلاها على غير أمر الله ورسوله فتكون مردودة عليه، لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن وسع لهم فيما إذا كان لهم عذر يشق عليهم أن يصلوا الصلاة في وقتها، رخص لهم في الجمع بين الظهر والعصر، أن بين المغرب والعشاء، فإذا شق على الإنسان أن يصلي كل صلاة في وقتها من الصلاتين المجموعتين فإنه يجوز أن يجمع بينهما إما جمع تقديم، وإما جمع تأخير على حسب ما يتيسر له، لقوله الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، وسئل ابن عباس لماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا لحقه مشقة بترك الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء فإنه يجوز له أن يجمع بينهما.
ومن شروط الصلاة أيضاً: ستر العورة، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله في الثوب: " "، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: " "، وهذا يدل على أنه يجب الإنسان أن يكون متستراً في حال الصلاة، وقد نقل ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على ذلك، وأن من صلى عرياناً مع قدرته على السترة فإن صلاته لا تصح.
وفي هذا المجال قسَّم العلماء العورة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مغلظة.
القسم الثاني: مخففة.
القسم الثالث: متوسطة.
فالمغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة، قالوا: إن جميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها واختلفوا في الكفين والقدمين.
والمخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين، فإن عورته الفرجان، القبل والدبر، فلا يجب عليه أن يستر فخذه لأنه صغير.
والمتوسطة: ما عدا ذلك، قالوا: فالواجب فيها ستر ما بين السرة والركبة، فيدخل في ذلك الرجل البالغ عشراً فما فوق، ويدخل في ذلك المرأة التي لم تبلغ، ويدخل في ذلك الأمة والمملوكة، ومع هذا فإننا نقول للمشروع في حق كل إنسان أن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يلبس اللباس الكامل، لكن لو فرض أنه كان هناك خرق في ثوبه على ما يكون داخلاً ضمن العورة فإنه حينئذ يناقش فيه هل تصح صلاته أو لا تصح؟ إذ أنه يفرق بين اليسير والكثير، ويفرق بين ما كان على حذاء العورة المغلظة كالفرجين، وما كان متطرفاً، كالذي يكون في طرف الفخذ وما أشبه ذلك، أن يكون في الظهر من فوق الآليتين، أو في البطن من دون السرة وفوق السوأة، المهم أن كل مكان له حظه من تغليظ العورة.
ثم إن المرأة إذا كان حولها رجالٌ غير محارم فإنه يجب عليها أن تستر وجهها ولو في الصلاة، لأن المرأة لا يجوز لها كشف وجهها عند غير محارمها.
ومن المناسب التنبيه على مسألة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف: يلبس سراويل قصيرة، ثم يلبس فوقها ثوباً شفافاً يصف البشرة ويصلي، فهذا لا تصح صلاته، لأن السراويل القصيرة التي لا تستر ما بين السرة والركبة إذا لبس فوقها ثوباً خفيفاً يصف البشرة فإنه لم يكن ساتراً لعورته التي يجب عليه أن يسترها في الصلاة، ومعنا قولنا: (يصف البشرة) أي يبين من وراءه لون الجلد هل هو أحمر، أو أسود، أو بين ذلك.
ومن شروط الصلاة: الطهارة، وهي نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس.
والحدث نوعان: حدث أكبر وهو ما يوجب الغسل، وحدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء.
ومن المهم هنا أن نبين أن الطهارة من الحدث شرط، وهو من باب الأوامر التي يطلب فعلها، لا التي يطلب اجتنابها والقاعدة المعروفة عند أهل العلم: (أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل)، وبناء على ذلك لو أن أحداً من الناس صلى بغير وضوء ناسياً فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته بعد أن يتوضاً، لأنه أخلَّ بشرط إيجابي مأمور بفعله، وصلاته بغير وضوء ناسياً ليس فيها إثم، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} لكنها صلاة غير صحيحة فلا تبرأ بها الذمة، فيكون مطالباً بها، ولا فرق في هذا بين أن يكون الإنسان منفرداً، أو مأموماً، أو إماماً فكل من صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من حدث أكبر ناسياً فإنه يجب عليه إعادة الصلاة بعد الطهارة متى ذكر، حتى وإن كان إماماً، إلا أنه إذا كان إماماً وذكر في أثناء الصلاة فإنه ينصرف ويأمر من خلفه أن يتموا الصلاة، فيقول لأحدهم: تقدم أتم الصلاة بهم، فإن لم يفعل أي لم يعين من يتم الصلاة بهم، قدموا واحداً منهم يتم بهم، فإن لم يفعلوا أتمَّ كل واحد لنفسه، ولا يلزمهم أن يستأنفوا الصلاة من جديد، ولا أن يعيدوا الصلاة لو لم يعلموا إلا بعد ذلك، لأنهم معذورون، حيث إنهم لا يعلمون حال إمامهم، وكذلك لو صلى بغير وضوء جاهلاً فلو قدم إليه طعام فيه لحم إبل، وأكل من لحم الإبل وهو لا يدري أنه لحم إبل، ثم قام فصلى ثم علم بعد ذلك أنه لحم إبل فإنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد صلاته، ولا إثم عليه حين صلى وقد انتفض وضوءه وهو لا يدري بانتقاضه، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
ولا يخفى أيضاً أننا إذا قلنا أنه صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من الجنابة أنه كان معذوراً لا يتمكن من استعمال الماء فإنه يتيمم بدلاً عنه، فالتيمم عند تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء، فإذا قدر أن هذا الرجل لم يجد الماء وتيمم وصلى فصلاته صحيحة ولو بقي أشهراً لي عنده ماء، أن بقي أشهراً مريضاً لا يستطيع أن يستعمل الماء فإن صلاته بالتيمم صحيحة، فالتيمم يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله، وإذا قلنا: إنه يقوم مقامه عند تعذر استعماله، فإنه إذا تطهر بالتيمم بقي على طهارته حتى تنتقض الطهارة، حتى لو خرج الوقت وهو على تيممه فإنه لا يلزمه إعادة التيمم للصلاة الثانية، لأن التيمم مطهر كما قال الله تعالى في سورة المائدة لما ذكر التيمم قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " ".
أما النوع الثاني من الطهارة: فهو الطهارة من النجاسة، ومواضعها ثلاثة: البدن، والثوب، والبقعة، فلابد أن يتنزه الإنسان عن النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته، ودليل ذلك في البدن: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: " "، وأما الثوب فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحائض إذا أصاب الحيض ثوبها أن تغسله ثم تصلي فيه، ففيه دليل على وجوب تطهير الثوب من النجاسة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتى بصبي لم يأكل الطعام فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فأتبعه إياه، وأما البقعة ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه.
إذن لابد أن يتجنب الإنسان النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته التي يصلى عليها، فإن صلى وبدنه نجس أي قد أصابته نجاسة لم يغسلها أو ثوبه نجس، أن بقعته نجسه فصلاته غير صحيحة عند جمهور العلماء لكن لو لم يعلم بهذه النجاسة، أن علم بها ثم نسي أن يغسلها حتى تمت صلاته فإن صلاته صحيحة ولا يلزمه أن يعيد، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذاب يوم فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم، قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: " "، ولو كانت الصلاة تبطل باستصحاب النجاسة حال الجهل لا ستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة.
إذن اجتناب النجاسة في البدن، والثوب، والبقعة شرط لصحة الصلاة، لكن إذا لم يتجنب الإنسان النجاسة جاهلاً، أو ناسياً فإن صلاته صحيحه سواء علم بها قبل الصلاة ثم نسي أن يغلسها، أو لم يعلم بها إلا بعد الصلاة.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا صلى بغير وضوء ناسياً أن جاهلاً، حيث أمرنا من صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً بالإعادة، ولم نأمر الذي صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً بالإعادة؟
قلنا: الفرق بينهما أن الوضوء أو الغسل من باب فعل المأمور، واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، وترك المأمور لا يُعذر فيه بالجهل والنسيان بخلاف فعل المحظور.
ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة، لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، فاستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ومن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة غير صحيحة، ولا مبرئة لذمته إلا في أحوال أربع:
الحال الأولى: إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، مثل أن يكون مريضاً ووجهه إلى غير القبلة، ولا يتمكن من الانصراف إلى القبلة فإن صلاته تصح على أي جهة كان، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهذا الرجل لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة لا بنفسه ولا بغيره.
الحال الثانية: إذا كان خائفاً من عدو وكان هارباً واتجاهه إلى غير القبلة، ففي هذه الحال يسقط عنه استقبال القبلة، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}، ومعلوم أن الخائف قد يكون اتجاهه إلى القبلة، وقد يكون اتجاهه إلى غير القبلة فإذا رخص الله له في الصلاة راجلاً أو راكباً فمقتضى ذلك أن يرخص له في الاتجاه إلى غير القبلة إذا يخاف على نفسه إذا اتجه للقبلة.
الحال الثالثة: إذا كان في سفر أراد أن يُصلي النافلة فإنه يصلي حيث كانت جهة سفره، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر على راحلته حيث كان وجهه، إلا أنه لا يصلي عليها المكتوبة، ففي النافلة يصلي المسافر حيث كان وجهه بخلاف الفريضة، فإن الفريضة يجب عليه أن يستقبل القبلة فيها في السفر كما يجب عليه ذلك في الحضر.
الحال الرابعة: إذا كان قد اشتبهت عليه القبلة فلا يدري أي الجهات تكون القبلة، ففي هذه الحال يتحرى بقدر ما يستطيع ويتجه حيث غلب على ظنه أن تلك الجهة هي القبلة ولا إعادة عليه لو تبين له فيما بعد أنه مصل إلى غير القبلة.
وقد يقول قائل: إن هذه الحال لا وجه لاستثنائها لأننا نلزمه أن يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة ولا يضره إذا لم يوافق القبلة، لأن هذا منتهى قدرته واستطاعته وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}.
وعلى كل حال فإننا سواء جعلناها مما يستثنى، أن مما لا يستثنى فإن الإنسان فيها يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع وأن يتحرى الصواب ويعمل به.
ولكن ها هنا مسألة، وهي: إنه يجب أن نعرف أن استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة، وإما إلى جهتها، فإن كان الإنسان قريباً من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عن الكعبة لأنها هي الأصل، وأما إذا كان بعيداً لا يمكنه مشاهدة الكعبة، فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة، وكلما بعد الإنسان عن مكة كانت الجهة في حقه أوسع، لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل المدينة: " "، وذكر أهل العلم أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر، والجهات معروف أنها أربع: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقاً أو غرباً كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً صارت القبلة في حقه ما بين الشرق والغرب، لأن الواجب استقبال الجهة، فلو فُرض أن الإنسان كان شرقاً من مكة واستقبل الشمال فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه، وكذلك لو كان من أهل الشمال واستقبل الغرب فإن صلاته لا تصح، لأنه جعل القبلة عن يساره، ولو استقبل الشرق فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه.
وقد يسر الله لعباده في هذا الوقت وسائل تبين القبلة بدقه ومجربة، فينبغي للإنسان أن يصطحب هذه الوسائل معه في السفر لأنها تدله على القبلة إذا كان في حال لا يتمكن فيها من معرفة القبلة، وكذلك ينبغي لمن أراد إنشاء مسجد أن يتبع ما تقتضيه هذه الوسائل المجرية والتي عرف صوابها.
ومن شروط الصلاة: النية، والنية محلها القلب، واشتراط النية إنما يذكر من أجل التعيين والتخصيص، أما من حيث الإطلاق فإنه لا يمكن لأحد عاقل مختار أن يقوم فيتوضأ ثم يذهب ويصلي لا يمكن أن يفعل ذلك إلا وقد نوى الصلاة، لكن الكلام على التعيين، فالتعيين لابد منه في النية، فينوي الظهر ظهراً، والعصر عصراً، والمغرب مغرباً، والعشاء عشاءً، والفجر فجراً، ولا تكفي نية الصلاة المطلقة، لأن نية الصلاة المطلقة أعم من نية الصلاة المعينة، فمن نوى الأعم لم يكن ناوياً للأخص، ومن نوى الأخص كان ناوياً الأعم لدخوله فيه ولهذا نقول: إذا انتقل الإنسان من مطلق إلى معين، أو من معين إلى معين بقيت نية الإطلاق، وإن كان من معين إلى معين بطل الأول ولم ينعقد الثاني، وإن انتقل من معين إلى مطلق بطل المعين وصح المطلق، لأن المعين متضمن للإطلاق فإذا ألغي التعيين بقي الإطلاق، ونوضح ذلك بالأمثلة:
رجل يصلي ناوياً نفلاً مطلقاً، ثم أراد أن يقلب النية في أثناء الصلاة إلى نفل معين، أراد أن يجعل هذا النفل المطلق راتبة فهنا نقول: لا تصح الراتبة، لأن الراتبة لابد أن تكون منوية من قبل تكبيرة الإحرام وإلا لم تكن راتبة، لأن الجزء الأول الذي خلا من نية الراتبة وقع بغير نية الراتبة.
لكن لو كان يصلي راتبة ثم نواها نفلاً مطلقاً وألغى نية التعيين صح ذلك، وذلك لأن الصلاة المعينة تتضمن نية التعيين، ونية الإطلاق فإذا ألغى نية التعيين بقيت نية الإطلاق.
مثال آخر: رجل دخل بنية العصر ثم ذكر أثناء الصلاة أنه لم يصلِّ الظهر، فيحول نيته من العصر إلى الظهر فهنا لا تصح لا صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، أما صلاة العصر فلا تصح لأنه قطعها، وأما صلاة الظهر فلا تصح لأنه لم ينوها من أولها، لكن إذا كان جاهلاً صارت هذه الصلاة في حقه نفلاً، لأنه لما ألغى التعيين بقي الإطلاق.
مثال ثالث: صلى بنية الراتبة ثم بدا له في أثنائها أن يجعلها نفلاً مطلقاً صح، لأن نية الراتبة تتضمن الإطلاق والتعيين، فإذا ألغى التعيين بقي الإطلاق.
والخلاصة: أنني أقول إن النية المطلقة في العبادات لا أظن أحداً لا ينويها أبداً، وإذ ما من شخص يقوم فيفعل إلا وقد نوى، لكن الذي لا بد منه هو نية التعيين والتخصيص.
ومن المسائل التي تدخل في النية: نية الإمامة بعد أن كان منفرداً أو الائتمام بعد أن كان منفرداً، وهذا فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا بأس به، فنية الإمام بعد أن كان منفرداً مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة وهو منفرد ثم يأتي رجل آخر يدخل معه ليصيرا جماعة فلا بأس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي من الليل وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائماً، ثم قام ابن عباس فتوضأ ودخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، لو شرع الإنسان يصلي وحده ثم جاء آخر فدخل معه ليجعله إماماً له فلا بأس، فيكون الأول إماماً والثاني مأموماً، وكذلك بالعكس لو أن أحداً شرع في الصلاة منفرداً ثم جاء جماعة فصلوا جماعة فانضم إليهم فقد انتقل من انفراد إلى ائتمام وهذا أيضاً لا بأس به، لأن الانتقال هنا ليس إبطالاً للنية الأولى ولكنه انتقال من وصف إلى وصف فلا حرج فيه.
فهذه الشروط التي ذكرناها أهم الشروط التي ينبغي الكلام عليها وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والتمييز والعقل لكن هذه شروط في كل عبادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني عشر - باب النية.
شروط الصلاة ما يتوقف عليه صحة الصلاة من أمور خارجة عن ماهيتها، لأن الشرط في اللغة العلامة، كما قال الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي علاماتها، والشرط في الشرع في اصطلاح أهل الأصول: ما يلزم عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.
وأهم شروط الصلاة الوقت، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}، ولهذا تسقط كثير من الواجبات مراعاة للوقت، وينبغي بل يجب على الإنسان أن يحافظ على أن تكون الصلاة في وقتها.
وأوقات الصلاة ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة في سنته، أما في الكتاب العزيز فقد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}، فقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي زوالها، وقوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي انتصاف الليل، لأن أقوى غسق في الليل نصفه، وهذا الوقت من نصف النهار إلى نصف الليل يشتمل على أوقات أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وهذه الأوقات كلها متتالية ليس بينها فاصل، فوقت الظهر: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء كطوله، ووقت العصر: من هذا الوقت إلى اصفرار الشمس الوقت الاختياري، وإلى غروب الشمس الوقت الاضطراري، ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق، وهو الحمرة التي تكون في الأفق بعد غروب الشمس، ووقت العشاء: من هذا الوقت إلى منتصف الليل هذه هي الأوقات الأربعة المتصلة بعضها ببعض، وأما من نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة فريضة، ووقت صلاة الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ولهذا فضله الله تعالى عما قبله فقال: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}، والسنة جاءت مبينة لهذا على ما وصفته آنفاً.
هذه الأوقات التي فرضها الله تعالى على عباده، فلا يجوز للإنسان أن يقدم الصلاة عن وقتها، ولا يجوز أن يؤخرها عن وقتها.
فإن قدمها عن وقتها ولو بقدر تكبيرة الإحرام لم تصح، لأنه يجب أن تكون الصلاة في نفس الوقت، لأن الوقت ظرف فلابد أن يكون المظروف داخله، ومن أخر الصلاة عن وقتها فإن كان لعذر من نوم، أو نسيان أو نحوه فإنه يصليها إذا زال العذر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " " ثم تلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.
وإن لم يكن له عذر فإن صلاته لا تصح ولو صلى ألف مرة، فإذا ترك الإنسان الصلاة فلم يصلها في وقتها فإنها لا تنفعه، ولا تبرأ به ذمته إذا كان تركه إياها لغير عذر ولو صلاها آلاف المرات، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " "، ومن ترك الصلاة حتى خرج وقتها لغير عذر فقد صلاها على غير أمر الله ورسوله فتكون مردودة عليه، لكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن وسع لهم فيما إذا كان لهم عذر يشق عليهم أن يصلوا الصلاة في وقتها، رخص لهم في الجمع بين الظهر والعصر، أن بين المغرب والعشاء، فإذا شق على الإنسان أن يصلي كل صلاة في وقتها من الصلاتين المجموعتين فإنه يجوز أن يجمع بينهما إما جمع تقديم، وإما جمع تأخير على حسب ما يتيسر له، لقوله الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، وسئل ابن عباس لماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ففي هذا دليل على أن الإنسان إذا لحقه مشقة بترك الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء فإنه يجوز له أن يجمع بينهما.
ومن شروط الصلاة أيضاً: ستر العورة، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله في الثوب: " "، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: " "، وهذا يدل على أنه يجب الإنسان أن يكون متستراً في حال الصلاة، وقد نقل ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على ذلك، وأن من صلى عرياناً مع قدرته على السترة فإن صلاته لا تصح.
وفي هذا المجال قسَّم العلماء العورة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مغلظة.
القسم الثاني: مخففة.
القسم الثالث: متوسطة.
فالمغلظة: عورة المرأة الحرة البالغة، قالوا: إن جميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها واختلفوا في الكفين والقدمين.
والمخففة: عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر سنين، فإن عورته الفرجان، القبل والدبر، فلا يجب عليه أن يستر فخذه لأنه صغير.
والمتوسطة: ما عدا ذلك، قالوا: فالواجب فيها ستر ما بين السرة والركبة، فيدخل في ذلك الرجل البالغ عشراً فما فوق، ويدخل في ذلك المرأة التي لم تبلغ، ويدخل في ذلك الأمة والمملوكة، ومع هذا فإننا نقول للمشروع في حق كل إنسان أن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يلبس اللباس الكامل، لكن لو فرض أنه كان هناك خرق في ثوبه على ما يكون داخلاً ضمن العورة فإنه حينئذ يناقش فيه هل تصح صلاته أو لا تصح؟ إذ أنه يفرق بين اليسير والكثير، ويفرق بين ما كان على حذاء العورة المغلظة كالفرجين، وما كان متطرفاً، كالذي يكون في طرف الفخذ وما أشبه ذلك، أن يكون في الظهر من فوق الآليتين، أو في البطن من دون السرة وفوق السوأة، المهم أن كل مكان له حظه من تغليظ العورة.
ثم إن المرأة إذا كان حولها رجالٌ غير محارم فإنه يجب عليها أن تستر وجهها ولو في الصلاة، لأن المرأة لا يجوز لها كشف وجهها عند غير محارمها.
ومن المناسب التنبيه على مسألة يفعلها بعض الناس في أيام الصيف: يلبس سراويل قصيرة، ثم يلبس فوقها ثوباً شفافاً يصف البشرة ويصلي، فهذا لا تصح صلاته، لأن السراويل القصيرة التي لا تستر ما بين السرة والركبة إذا لبس فوقها ثوباً خفيفاً يصف البشرة فإنه لم يكن ساتراً لعورته التي يجب عليه أن يسترها في الصلاة، ومعنا قولنا: (يصف البشرة) أي يبين من وراءه لون الجلد هل هو أحمر، أو أسود، أو بين ذلك.
ومن شروط الصلاة: الطهارة، وهي نوعان: طهارة من الحدث، وطهارة من النجس.
والحدث نوعان: حدث أكبر وهو ما يوجب الغسل، وحدث أصغر: وهو ما يوجب الوضوء.
ومن المهم هنا أن نبين أن الطهارة من الحدث شرط، وهو من باب الأوامر التي يطلب فعلها، لا التي يطلب اجتنابها والقاعدة المعروفة عند أهل العلم: (أن ترك المأمور لا يعذر فيه بالنسيان والجهل)، وبناء على ذلك لو أن أحداً من الناس صلى بغير وضوء ناسياً فإنه يجب عليه أن يعيد صلاته بعد أن يتوضاً، لأنه أخلَّ بشرط إيجابي مأمور بفعله، وصلاته بغير وضوء ناسياً ليس فيها إثم، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} لكنها صلاة غير صحيحة فلا تبرأ بها الذمة، فيكون مطالباً بها، ولا فرق في هذا بين أن يكون الإنسان منفرداً، أو مأموماً، أو إماماً فكل من صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من حدث أكبر ناسياً فإنه يجب عليه إعادة الصلاة بعد الطهارة متى ذكر، حتى وإن كان إماماً، إلا أنه إذا كان إماماً وذكر في أثناء الصلاة فإنه ينصرف ويأمر من خلفه أن يتموا الصلاة، فيقول لأحدهم: تقدم أتم الصلاة بهم، فإن لم يفعل أي لم يعين من يتم الصلاة بهم، قدموا واحداً منهم يتم بهم، فإن لم يفعلوا أتمَّ كل واحد لنفسه، ولا يلزمهم أن يستأنفوا الصلاة من جديد، ولا أن يعيدوا الصلاة لو لم يعلموا إلا بعد ذلك، لأنهم معذورون، حيث إنهم لا يعلمون حال إمامهم، وكذلك لو صلى بغير وضوء جاهلاً فلو قدم إليه طعام فيه لحم إبل، وأكل من لحم الإبل وهو لا يدري أنه لحم إبل، ثم قام فصلى ثم علم بعد ذلك أنه لحم إبل فإنه يجب عليه أن يتوضأ ويعيد صلاته، ولا إثم عليه حين صلى وقد انتفض وضوءه وهو لا يدري بانتقاضه، لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.
ولا يخفى أيضاً أننا إذا قلنا أنه صلى بغير وضوء، أو بغير غسل من الجنابة أنه كان معذوراً لا يتمكن من استعمال الماء فإنه يتيمم بدلاً عنه، فالتيمم عند تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء، فإذا قدر أن هذا الرجل لم يجد الماء وتيمم وصلى فصلاته صحيحة ولو بقي أشهراً لي عنده ماء، أن بقي أشهراً مريضاً لا يستطيع أن يستعمل الماء فإن صلاته بالتيمم صحيحة، فالتيمم يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله، وإذا قلنا: إنه يقوم مقامه عند تعذر استعماله، فإنه إذا تطهر بالتيمم بقي على طهارته حتى تنتقض الطهارة، حتى لو خرج الوقت وهو على تيممه فإنه لا يلزمه إعادة التيمم للصلاة الثانية، لأن التيمم مطهر كما قال الله تعالى في سورة المائدة لما ذكر التيمم قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: " ".
أما النوع الثاني من الطهارة: فهو الطهارة من النجاسة، ومواضعها ثلاثة: البدن، والثوب، والبقعة، فلابد أن يتنزه الإنسان عن النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته، ودليل ذلك في البدن: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: " "، وأما الثوب فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحائض إذا أصاب الحيض ثوبها أن تغسله ثم تصلي فيه، ففيه دليل على وجوب تطهير الثوب من النجاسة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أتى بصبي لم يأكل الطعام فوضعه في حجره فبال عليه فدعا بماء فأتبعه إياه، وأما البقعة ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه.
إذن لابد أن يتجنب الإنسان النجاسة في بدنه، وثوبه، وبقعته التي يصلى عليها، فإن صلى وبدنه نجس أي قد أصابته نجاسة لم يغسلها أو ثوبه نجس، أن بقعته نجسه فصلاته غير صحيحة عند جمهور العلماء لكن لو لم يعلم بهذه النجاسة، أن علم بها ثم نسي أن يغسلها حتى تمت صلاته فإن صلاته صحيحة ولا يلزمه أن يعيد، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ذاب يوم فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم، قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: " "، ولو كانت الصلاة تبطل باستصحاب النجاسة حال الجهل لا ستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة.
إذن اجتناب النجاسة في البدن، والثوب، والبقعة شرط لصحة الصلاة، لكن إذا لم يتجنب الإنسان النجاسة جاهلاً، أو ناسياً فإن صلاته صحيحه سواء علم بها قبل الصلاة ثم نسي أن يغلسها، أو لم يعلم بها إلا بعد الصلاة.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا صلى بغير وضوء ناسياً أن جاهلاً، حيث أمرنا من صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً بالإعادة، ولم نأمر الذي صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً بالإعادة؟
قلنا: الفرق بينهما أن الوضوء أو الغسل من باب فعل المأمور، واجتناب النجاسة من باب ترك المحظور، وترك المأمور لا يُعذر فيه بالجهل والنسيان بخلاف فعل المحظور.
ومن شروط الصلاة: استقبال القبلة، لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، فاستقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ومن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة غير صحيحة، ولا مبرئة لذمته إلا في أحوال أربع:
الحال الأولى: إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، مثل أن يكون مريضاً ووجهه إلى غير القبلة، ولا يتمكن من الانصراف إلى القبلة فإن صلاته تصح على أي جهة كان، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهذا الرجل لا يستطيع أن يتحول إلى القبلة لا بنفسه ولا بغيره.
الحال الثانية: إذا كان خائفاً من عدو وكان هارباً واتجاهه إلى غير القبلة، ففي هذه الحال يسقط عنه استقبال القبلة، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}، ومعلوم أن الخائف قد يكون اتجاهه إلى القبلة، وقد يكون اتجاهه إلى غير القبلة فإذا رخص الله له في الصلاة راجلاً أو راكباً فمقتضى ذلك أن يرخص له في الاتجاه إلى غير القبلة إذا يخاف على نفسه إذا اتجه للقبلة.
الحال الثالثة: إذا كان في سفر أراد أن يُصلي النافلة فإنه يصلي حيث كانت جهة سفره، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في السفر على راحلته حيث كان وجهه، إلا أنه لا يصلي عليها المكتوبة، ففي النافلة يصلي المسافر حيث كان وجهه بخلاف الفريضة، فإن الفريضة يجب عليه أن يستقبل القبلة فيها في السفر كما يجب عليه ذلك في الحضر.
الحال الرابعة: إذا كان قد اشتبهت عليه القبلة فلا يدري أي الجهات تكون القبلة، ففي هذه الحال يتحرى بقدر ما يستطيع ويتجه حيث غلب على ظنه أن تلك الجهة هي القبلة ولا إعادة عليه لو تبين له فيما بعد أنه مصل إلى غير القبلة.
وقد يقول قائل: إن هذه الحال لا وجه لاستثنائها لأننا نلزمه أن يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة ولا يضره إذا لم يوافق القبلة، لأن هذا منتهى قدرته واستطاعته وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}.
وعلى كل حال فإننا سواء جعلناها مما يستثنى، أن مما لا يستثنى فإن الإنسان فيها يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع وأن يتحرى الصواب ويعمل به.
ولكن ها هنا مسألة، وهي: إنه يجب أن نعرف أن استقبال القبلة يكون إما إلى عين القبلة وهي الكعبة، وإما إلى جهتها، فإن كان الإنسان قريباً من الكعبة يمكنه مشاهدتها ففرضه أن يستقبل عن الكعبة لأنها هي الأصل، وأما إذا كان بعيداً لا يمكنه مشاهدة الكعبة، فإن الواجب عليه أن يستقبل الجهة، وكلما بعد الإنسان عن مكة كانت الجهة في حقه أوسع، لأن الدائرة كلما تباعدت اتسعت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل المدينة: " "، وذكر أهل العلم أن الانحراف اليسير في الجهة لا يضر، والجهات معروف أنها أربع: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، فإذا كان الإنسان عن الكعبة شرقاً أو غرباً كانت القبلة في حقه ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً صارت القبلة في حقه ما بين الشرق والغرب، لأن الواجب استقبال الجهة، فلو فُرض أن الإنسان كان شرقاً من مكة واستقبل الشمال فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه، وكذلك لو كان من أهل الشمال واستقبل الغرب فإن صلاته لا تصح، لأنه جعل القبلة عن يساره، ولو استقبل الشرق فإن ذلك لا يصح، لأنه جعل القبلة عن يمينه.
وقد يسر الله لعباده في هذا الوقت وسائل تبين القبلة بدقه ومجربة، فينبغي للإنسان أن يصطحب هذه الوسائل معه في السفر لأنها تدله على القبلة إذا كان في حال لا يتمكن فيها من معرفة القبلة، وكذلك ينبغي لمن أراد إنشاء مسجد أن يتبع ما تقتضيه هذه الوسائل المجرية والتي عرف صوابها.
ومن شروط الصلاة: النية، والنية محلها القلب، واشتراط النية إنما يذكر من أجل التعيين والتخصيص، أما من حيث الإطلاق فإنه لا يمكن لأحد عاقل مختار أن يقوم فيتوضأ ثم يذهب ويصلي لا يمكن أن يفعل ذلك إلا وقد نوى الصلاة، لكن الكلام على التعيين، فالتعيين لابد منه في النية، فينوي الظهر ظهراً، والعصر عصراً، والمغرب مغرباً، والعشاء عشاءً، والفجر فجراً، ولا تكفي نية الصلاة المطلقة، لأن نية الصلاة المطلقة أعم من نية الصلاة المعينة، فمن نوى الأعم لم يكن ناوياً للأخص، ومن نوى الأخص كان ناوياً الأعم لدخوله فيه ولهذا نقول: إذا انتقل الإنسان من مطلق إلى معين، أو من معين إلى معين بقيت نية الإطلاق، وإن كان من معين إلى معين بطل الأول ولم ينعقد الثاني، وإن انتقل من معين إلى مطلق بطل المعين وصح المطلق، لأن المعين متضمن للإطلاق فإذا ألغي التعيين بقي الإطلاق، ونوضح ذلك بالأمثلة:
رجل يصلي ناوياً نفلاً مطلقاً، ثم أراد أن يقلب النية في أثناء الصلاة إلى نفل معين، أراد أن يجعل هذا النفل المطلق راتبة فهنا نقول: لا تصح الراتبة، لأن الراتبة لابد أن تكون منوية من قبل تكبيرة الإحرام وإلا لم تكن راتبة، لأن الجزء الأول الذي خلا من نية الراتبة وقع بغير نية الراتبة.
لكن لو كان يصلي راتبة ثم نواها نفلاً مطلقاً وألغى نية التعيين صح ذلك، وذلك لأن الصلاة المعينة تتضمن نية التعيين، ونية الإطلاق فإذا ألغى نية التعيين بقيت نية الإطلاق.
مثال آخر: رجل دخل بنية العصر ثم ذكر أثناء الصلاة أنه لم يصلِّ الظهر، فيحول نيته من العصر إلى الظهر فهنا لا تصح لا صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، أما صلاة العصر فلا تصح لأنه قطعها، وأما صلاة الظهر فلا تصح لأنه لم ينوها من أولها، لكن إذا كان جاهلاً صارت هذه الصلاة في حقه نفلاً، لأنه لما ألغى التعيين بقي الإطلاق.
مثال ثالث: صلى بنية الراتبة ثم بدا له في أثنائها أن يجعلها نفلاً مطلقاً صح، لأن نية الراتبة تتضمن الإطلاق والتعيين، فإذا ألغى التعيين بقي الإطلاق.
والخلاصة: أنني أقول إن النية المطلقة في العبادات لا أظن أحداً لا ينويها أبداً، وإذ ما من شخص يقوم فيفعل إلا وقد نوى، لكن الذي لا بد منه هو نية التعيين والتخصيص.
ومن المسائل التي تدخل في النية: نية الإمامة بعد أن كان منفرداً أو الائتمام بعد أن كان منفرداً، وهذا فيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا بأس به، فنية الإمام بعد أن كان منفرداً مثل أن يشرع الإنسان في الصلاة وهو منفرد ثم يأتي رجل آخر يدخل معه ليصيرا جماعة فلا بأس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي من الليل وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائماً، ثم قام ابن عباس فتوضأ ودخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل، لو شرع الإنسان يصلي وحده ثم جاء آخر فدخل معه ليجعله إماماً له فلا بأس، فيكون الأول إماماً والثاني مأموماً، وكذلك بالعكس لو أن أحداً شرع في الصلاة منفرداً ثم جاء جماعة فصلوا جماعة فانضم إليهم فقد انتقل من انفراد إلى ائتمام وهذا أيضاً لا بأس به، لأن الانتقال هنا ليس إبطالاً للنية الأولى ولكنه انتقال من وصف إلى وصف فلا حرج فيه.
فهذه الشروط التي ذكرناها أهم الشروط التي ينبغي الكلام عليها وإلا فهناك شروط أخرى كالإسلام والتمييز والعقل لكن هذه شروط في كل عبادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني عشر - باب النية.