تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة

منذ 2007-01-20
السؤال: تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة
الإجابة: وإن كان أصل مقصوده عبادة غير اللّه، لم تكن الطيبات مباحة له؛ فإن اللّه أباحها للمؤمنين من عباده، بل الكفار وأهل الجرائم والذنوب وأهل الشهوات، يحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، فلم يذكروه ولم يعبدوه بها، ويقال لهم‏:‏ ‏{‏‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏20‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏ ‏[‏التكاثر‏:‏8‏]‏ أي‏:‏ عن شكره، والكافر لم يشكر على النعيم الذي أنعم اللّه عليه به فيعاقبه على ذلك، واللّه إنما أباحها للمؤمنين، وأمرهم معها بالشكر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏172‏]‏‏.

‏وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏ ‏‏ "إن اللّه ليرضى عن العبد يأكل الأكْلَةَ فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَةَ فيحمده عليها‏"‏‏‏.‏

وفي سنن ابن ماجه وغيره‏ "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر‏"‏‏‏.

‏‏ وكذلك قال للرسل‏:‏‏{‏‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً‏}‏‏‏[‏المؤمنون‏:‏51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏1‏]‏، وقال الخليل‏:‏ ‏{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏‏ قال الله تعالى‏:‏‏{‏‏وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏126‏]‏‏.

‏‏ فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة، واللّه إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه اللّه من الصيد وهو محرم، والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه ولهذا ميز سبحانه وتعالى بين خطاب الناس مطلقاً وخطاب المؤمنين فقال‏:‏‏{‏‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏168‏- 170‏]‏، فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين‏:‏ أن يكون طيباً، وأن يكون حلالاً، ثم قال‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏172- 173‏]‏‏.

‏‏ فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل، وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره، فما سواه لم يكن محرماً على المؤمنين، و مع هذا فلم يكن أحله بخطابه، بل كان عفواً، كما في الحديث عن سلمان موقوفاً ومرفوعاً‏ ‏‏‏"الحلال ما أحله اللّه في كتابه، والحرام ما حرمه اللّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه‏"‏‏‏.‏

وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ‏‏إن اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها "‏‏‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏145‏]‏‏.‏نفى التحريم عن غير المذكور،فيكون الباقي مسكوتاً عن تحريمه عفواً، والتحليل إنما يكون بخطاب؛ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا ‏:‏‏{‏‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏4-5‏]‏، ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات،وقبل هذا لم يكن محرماً عليهم إلا ما استثناه‏.

‏‏ وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلَب من الطير، ولم يكن هذا نسخاً للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك، ولكن سكت عن تحريمه، فكان تحريمه ابتداء شرع‏.

‏‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، وغيرهم‏ "‏‏لا أَلْفيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول‏:‏ بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه‏".

‏‏ وفي لفظ "ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر، ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع‏"‏‏‏.

‏‏ فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب، وأن اللّه حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخاً للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط، إنما أحل الطيبات، وهذه ليست من الطيبات، وقال‏:‏‏{‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏172‏]‏‏.

‏فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها، لا مأذونا في أكلها‏.

‏‏ وأما الكفار، فلم يأذن اللّه لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئاً، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏168‏]‏‏.

‏‏ فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالاً، وهو المأذون فيه من جهة اللّه ورسوله، و اللّه لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا؛ ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكاً شرعياً؛ لأن الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفاً في الأموال، إلا بشرط الإيمان، فكانت أموالهم على الإباحة، فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهراً يستحلونه في دينهم، وأخذوها منهم، صار هؤلاء فيها كما كان أولئك‏.

‏‏ والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها،ملكوها شرعاً؛ لأن اللّه أباح لهم الغنائم، ولم يبحها لغيرهم‏.

‏‏ ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم، ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا بمنزلة استيلائه على المباحات، ولهذا سمي اللّه ما عاد من أموالهم إلى المسلمين‏[‏ فيئاً‏]‏؛ لأن اللّه أفاءه إلى مستحقه؛ أي‏:‏ رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه، ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه؛ وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته‏.

‏‏ ولفظ الفيء قد يتناول الغنيمة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين "ليس لي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم‏"‏‏، لكنه لما قال تعالى‏:‏‏{‏‏وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ‏}‏‏ ‏[‏الحشر‏:‏6‏]‏، صار لفظ ‏[‏الفيء‏]‏ إذا أطلق في عرف الفقهاء، فهو‏:‏ ما أخذ من مال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والإيجاف نوع من التحريك‏.‏

وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏وفي بُضْع أحدكم صدقة‏‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر‏؟‏ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر‏"‏‏‏.

‏‏ وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته‏"‏‏‏.

‏‏ رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما‏.‏

فأخبر أن اللّه يحب إتيان رخصه، كما يكره فعل معصيته‏.‏

وبعض الفقهاء يرويه "كما يحب أن تؤتى عزائمه‏"‏‏‏.‏

وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها اللّه لحاجة العباد إليها، والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها، لأن الكريم يحب قبول إحسانه وفضله؛ كما قال في حديث القصر "‏‏صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏"‏‏‏.‏

ولأنه بها تتم عبادته وطاعته، وما لا يحتاج إليه الإنسان من قول وعمل، بل يفعله عبثاً، فهذا عليه لا له، كما في الحديث "كل كلام ابن ادم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر أو ذكر اللّّه‏"‏‏‏.

‏‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "‏‏من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت‏"‏‏‏.

‏‏ فأمر المؤمن بأحد أمرين‏:‏ إما قول الخير أو الصُّمَات؛ ولهذا كان قول الخير خيراً من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خيراً من قوله؛ ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏‏‏[‏ق‏:‏18‏]‏‏.

‏‏ وقد اختلف أهل التفسير‏:‏ هل يكتب جميع أقواله‏؟‏ فقال مجاهد وغيره‏:‏ يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر‏.

‏‏ والقرآن يدل على أنهما يكتبان الجميع؛ فإنه قال‏:‏‏{‏‏مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًل‏}‏‏ نكرة في الشرط مؤكدة بحرف‏[‏من‏]‏؛ فهذا يعم كل قوله‏.

‏‏ وأيضاً، فكونه يؤجر على قول معين أو يؤزر، يحتاج إلى أن يعرف الكاتب ما أمر به وما نهى عنه، فلابد في إثبات معرفة الكاتب به إلى نقل‏.

‏‏ وأيضاً فهو مأمور، إما بقول الخير، وإما بالصُّمات‏.

‏‏ فإذا عدل عما أمر به من الصُّمَات إلى فضول القول الذي ليس بخير، كان هذا عليه، فإنه يكون مكروهاً، والمكروه ينقصه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏ "‏‏من حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنِيه"‏‏‏.‏

فإذا خاض فيما لا يعنيه، نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه، إذ ليس من شرط ما هو عليه، أن يكونه مستحقاً لعذاب جهنم وغضب اللّه، بل نقص قدره ودرجته عليه‏.

‏‏ ولهذا قال تعالى‏:‏‏{‏‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏‏.

‏‏ فما يعمل أحد إلا عليه أو له، فإن كان مما أمر به، كان له‏.‏

وإلا كان عليه ولو أنه ينقص قدره‏.‏

والنفس طبعها الحركة لا تسكن قط، لكن قد عفا اللّه عما حدث به المؤمنون أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، فإذا عملوا به دخل في الأمر والنهي‏.‏

فإذا كان اللّه قد كره إلى المؤمنين جميع المعاصي، وهو قد حبب إليهم الإيمان الذي يقتضي جميع الطاعات، إذا لم يعارضه ضد باتفاق الناس، فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع، هل يستلزم الطاعة‏؟‏ فإنه وإن كان يدعو إلى الطاعة، فله معارض من النفس والشيطان، فإذا كان قد كره إلى المؤمنين المعارض، كان المقتضى للطاعة سالماً عن هذا المعارض‏.‏

وأيضاً، فإذا كرهوا جميع السيئات لم يبق إلا حسنات أو مباحات، والمباحات لم تبح إلا لأهل الإيمان الذين يستعينون بها على الطاعات، وإلا فاللّه لم يبح قط لأحد شيئاً أن يستعين به على كفر، ولا فسوق، ولا عصيان؛ ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم عاصر الخمر ومعتصرها، كما لعن شاربها‏.

‏‏ والعاصريعصر عنباً يصير عصيراً يمكن أن ينتفع به في المباح، لكن لما علم أن قصد العاصر أن يجعلها خمراً، لم يكن له أن يعينه بما جنسه مباح على معصية اللّه، بل لعنه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأن اللّه لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به في المعصية‏.‏

فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات‏.

‏‏ فيلزم من انتفاء السيئات أنهم لا يفعلون إلا الحسنات؛ ولهذا كان من ترك المعاصي كلها، فلابد أن يشتغل بطاعة اللّه‏.‏

وفي الحديث الصحيح "كُلُّ الناس يَغْدُوا، فبائع نَفْسَه فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا‏" فالمؤمن لابد أن يحب الحسنات، ولابد أن يبغض السيئات، ولابد أن يسره فعل الحسنة، ويسوؤه فعل السيئة، و متى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان، والمؤمن قد تصدر منه السيئة فيتوب منها، أو يأتي بحسنات تمحوها، أو يبتلى ببلاء يكفرها عنه ولكن لابد أن يكون كارهاً لها؛ فإن اللّه أخبر أنه حَبَّبَ إلى المؤمنين الإيمان، وكَرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن لم يكره الثلاثة لم يكن منهم‏.‏

ولكن محمد ابن نصر يقول‏:‏ الفاسق يكرهها تديناً، فيقال‏:‏ إن أريد بذلك أنه يعتقد أن دينه حرمها، وهو يحب دينه، وهذه من جملته، فهو يكرهها‏.

‏‏ وإن كان يحب دينه مجملاً، وليس في قلبه كراهة لها، كان قد عدم من الإيمان بقدر ذلك، كما في الحديث الصحيح‏ ‏‏"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
  • 1
  • 1
  • 13,504

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً