سُئل عن أفعال العباد: هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان؟
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: سُئل عن أفعال العباد: هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان؟
الإجابة: سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد
السلام بن تيمية رحمه الله:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في أفعال العباد: هل هي قديمة، أم مخلوقة حين خلق الإنسان؟ وما الحجة على من يقول: إن سائر أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السموات والأرض؟ وفيمن لم يستثن في الأفعال الماضية، كقول القائل: هذه نخلة أو شجرة زيتون قطعاً، لم يقل شيء إلا ويسترجع فيه المشيئة، ويسأل البسط في ذلك.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص علي ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله وبعده، حتي قال بعضهم: من قال: إن أفعال العباد غير مخلوقة، فهو بمنزلة من قال: إن السماء والأرض غير مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد العطار: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة.
وكان السلف قد أظهروا ذلك لما أظهرت القدرية، أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وزعموا أن العبد يحدثها أو يخلقها دون الله، فبين السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها.
ثم لما أظهر طائفة من المنتسبين إلى السنة، أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، وأنكر الإمام أحمد ذلك وبدع من قاله، ثم لما مات قام بعده صاحبه أبو بكر المروذي، فصنف في ذلك مصنفاً، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب [السنة] وذكر مسألة أبي طالب لما أنكر عليه أحمد القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق، والجهمية أول من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، ورواه عنه ابناه صالح وعبد الله، وحنبل ابن عمه، والمروزي وفوران وغيرهم من أجلاء أصحابه.
وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال: إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفاً، كما أنهم بدعوا وجهموا من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، أو أن حروف القرآن مخلوقة.
أو قالوا: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فرد الأئمة هذه البدعة كما ذكرنا ذلك مبسوطاً في غير هذا الموضع.
ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين، أن أفعال العباد قديمة.
وإنما رأيت هذا قولا لبعض المتأخرين بأرض العجم، وأرض مصر.
من المنتسبين إلى مذهب الشافعي أو أحمد، فرأيت بعض المصريين يقولون: إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات، ولكن مرادنا الثواب الذي يكون عليها، كما جاء في الحديث .
واحتجوا على ذلك بأن الأفعال من القدر، والقدر سر الله وصفة من صفاته، وصفاته قديمة.
واحتجوا بأن الشرائع غير مخلوقة؛ لأنها أمر الله وكلامه، والأفعال هي الشرائع، فتكون قديمة، وهذا قول في غاية الفساد، وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق. فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد.
ولما احتج الجهمية على الإمام أحمد، وغيره من أهل السنة على أن القرآن مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك قالوا: ومن يأتي ويذهب لا يكون إلا مخلوقاً، أجابهم الإمام أحمد بأن الله تعالى قد وصف نفسه بالمجيء والإتيان، بقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]، ومع هذا فلم يكن هذا دليلاً على أنه مخلوق بالاتفاق، بل قد يقول القائل: جاء أمره، وهكذا تقوله المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق ويتأولون هذه الآية علي أن المراد بمجيئه مجيء أمره، فلم لا يجوز أن يتأول مجيء القرآن على مجيء ثوابه؟ ويكون المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران بمجيء ثوابها، وثوابها مخلوق.
وقد ذكر هذا المعنى غير واحد، وبينوا أن المراد بقوله أي ثوابهما، ليجيبوا الجهمية الذين احتجوا بمجيء القرآن وإتيانه على أنه مخلوق، فلو كان الثواب أيضاً الذي يجيء في صورة غمامة أو صورة شاب غير مخلوق، لم يكن فرق بين القرآن والثواب، ولا كان حاجة إلى أن يقولوا: يجيء ثوابه، ولا كان جوابهم للجهمية صحيح، بل كانت الجهمية تقول: أنتم تقولون؛ إنه غير مخلوق، وأن ثوابه غير مخلوق، فلا ينفعكم هذا الجواب.
فعلم أن أئمة السنة مع الجهمية كانوا متفقين على أن ثواب قراءة القرآن مخلوق، فكيف يكون ثواب سائر الأعمال، وهذا بين، فإن الثواب والعقاب هو ما وعد الله به عباده، وأوعدهم به فالثواب هو الجنة بما فيها، والعقاب هو النار بما فيها، والجنة بما فيها مخلوق والنار بما فيها مخلوق، وقد ذكر الإمام أحمد هذه الحجة، فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فقال:
باب: ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت فادعوا أن القرآن مخلوق، فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء بمعني أنه قد جاء: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فله كذا وكذا)، ألا ترون من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يجيئه، بل يجيء ثوابه؛ لأنا نقرأ القرآن فنقول لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال.
فبين أحمد أن الثواب هو الذي يجيء، وهو المخلوق من العمل، فكيف بعقوبة الأعمال الذي تتغير من حال إلى حال، فإذا كان هذا ثواب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهو ثواب القرآن، فكيف ثواب غيره!!.
وأما احتجاج المحتج، بأن الأفعال قدر الله فيقال له: لفظ القدر يراد به التقدير، ويراد به المقدر.
فإن أردت أن أفعال العباد نفس تقدير الله الذي هو علمه وكلامه ومشيئته ونحو ذلك من صفاته، فهذا غلط وباطل، فإن أفعال العباد ليست شيئا من صفات الله تعالى وإن أردت أنها مقدرة قدرها الله تعالى، فهذا حق، فإنها مقدرة كما أن سائر المخلوقات مقدرة، وقد ثبت في الصحيح، أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل تلك المقدورات مخلوقة.
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق .
فالرزق والأجل قدره كما قدر عمله، ومعلوم أن الرزق الذي يأكله مخلوق مع أنه مقدر.
فكذلك عمله، وكذلك سعادته وشقاؤه، وسعادته وشقاؤه هي ثواب العمل وعقابه، وكل ذلك مقدر، كما أن الرزق مقدر، والمقدر مخلوق.
وأما قولهم: إن الأعمال هي الشرائع، والشرائع غير مخلوقة، فيقال لهم أيضاً: لفظ الشرع يراد به كلام الله الذي شرع به الدين، ويراد به الأعمال المشروعة، فإن هذه الألفاظ يراد بها المصدر، ويراد بها المفعول، كلفظ الخلق ونحوه.
فإن قلتم: إن أعمال العباد هي الشرع الذي هو كلام الله، فهذا باطل ظاهر البطلان.
وإن أردتم أن الأعمال هي المشروعة بأمر الله بها فهذا حق، لكن أمر الله غير مخلوق، وأما المأمور به المكون بأمر الله أو الممتثل بأمر الله، فإنه مخلوق، كما أن العبد المأمور مخلوق.
ولفظ الأمر يراد به المصدر، والمفعول، فالمفعول مخلوق، كما قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38].
فهنا المراد به المأمور به، ليس المراد به أمره الذي هو كلامه، وهذه الآية التي احتج بها هؤلاء تضمنت الشرع، وهو الأمر والقدر، وقد ضل في هذا الموضع فريقان:
الجهمية الذين يقولون: كلام الله مخلوق، ويحتجون بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} ويقولون: ما كان مقدوراً فهو مخلوق.
وهؤلاء الحلولية الضالون، الذين يجعلون فعل العباد قديماً بأنه أمر الله وقدره، وأمره وقدره، غير مخلوق.
ومثار الشبهة أن اسم القدر، والأمر، والشرع، يراد به المصدر ويراد به المفعول ففي قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [ الأحزاب: 38 ]، المراد به المأمور به المقدور، وهذا مخلوق، وأما في قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5]، فأمره كلامه إذ لم ينزل إلينا الأفعال التي أمرنا بها وإنما أنزل القرآن، وهذا كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فهذا الأمر هو كلامه.
فإذا احتج الجهمي الذي يؤول أمره إلى أن يجعله حالاً في المخلوقات بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} قيل له: المراد به المأمور به، كما في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وكما يقال عن الحوادث التي يحدثها الله: هذا أمر عظيم، وإذا احتج الحلولي الذي يجعل صفات الرب تقارن ذاته، وتحل في المخلوقات بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}، وقال الأفعال قدره وأمره، وأمره غير مخلوق، وقدره غير مخلوق، قيل له: أمره وقدره الذي هو صفته كمشيئته وكلامه غير مخلوق، فأما أمره الذي هو قدر مقدور فمخلوق، فالمقدور مخلوق، والمأمور به مخلوق، وإن سميا أمراً وقدراً.
ثم يقال لهؤلاء الضالين: هب أن المأمور به يسمى أمراً وشرعاً، فالمنهي عنه ليس هو مأموراً به ولا مشروعاً، وإنما هو مخالفة للأمر والشرع، وهو منهي عنه، فكيف سميتم الكفر، والفسوق، والعصيان شرائع، وليست من الشرائع؟! ولكن هي مما نهت عنه الشريعة، ولما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، هل دخل في هذه الشريعة الكفر، والفسوق، والعصيان؟! وهل أمر الرسول باتباع ذلك وباجتنابه واتقائه؟!.
وأما قول السائل: ما الحجة على من يقول: إن أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السماوات والأرض ؟ فيقال له: من قال هذا القول فقد أحسن وأصاب وليس عليه حجة، بل هذا الكلام حجة على نقيض مطلوبه، فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو عنه صلى الله عليه وسلم قال فقدر أعمالهم وأرزاقهم وصورهم وألوانهم، وكل ذلك مخلوق، فدل ذلك على أن الأعمال من المقدورات المخلوقة، وهل يقول عاقل: إن عمل العبد كان موجوداً قبل وجوده، وعمل العبد حركته التي نشأت عنه، فكيف يكون ذلك موجوداً قبله.
ومن فسر كلامه وقال: إنا لم نرد الحركة، ولكن أردنا ثوابها، فيقال له: كل ما سوى الله فهو مخلوق، وكلامه وصفاته ليست خارجة عن مسماه، بل كلامه داخل في مسمى اسمه، ولو قال قائل: ما سوى الله وصفاته فهو مخلوق، ليزيل هذه الشبهة، كان قد قصد معنى صحيحاً، وكذلك إذ قال كما قال من قال من السلف: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهؤلاء استثنوا القرآن لئلا يتوهم المستمع أن القرآن المنزل مخلوق.
فإن الجهمية كانوا يقولون للناس: القرآن هو الله أو غير الله، فيجيبهم من لا يفهم مقصودهم بأنه غير الله، فيقولون: كل ما سوى الله مخلوق، فقال من قال من السلف هذه العبارة؛ لئلا يظن من لم يعرف مقاصد الجهمية أن القرآن مخلوق؛ لظنه أن ذلك يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إن ذلك لا يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إلا القرآن فإنه ليس بمخلوق، وإن أدخله من أدخله في قول القائل وما سوى الله مخلوق، فلما كان لفظ الغير والسوي فيهما اشتراك، فصفة الشيء تدخل تارة في لفظ الغير والسوي، وتارة لا تدخل، والمخاطب ممن يفهم دخول القرآن في لفظ السوي، استثناه السلف.
فأما أفعال العباد، فلم يستثنها أحد من عموم المخلوقات، إلا القدرية الذين يقولون: إن الله لم يخلقها من المعتزلة ونحوهم.
لكن هؤلاء يقولون: إنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن، إلا هؤلاء الحلولية، وما علمت أحداً من المتقدمين قال: إن أفعال العباد من الخير أو الشر قديمة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة إلا عن بعض متأخري المصريين، وبلغني نحو ذلك عن بعض متأخري الأعاجم ورأيت بعض شيوخ هؤلاء من الشاميين توقفوا عنها، فقالوا: نقول: هي مقضية مقدرة، ولا نقول: مخلوقة ولا غير مخلوقة، وبعض الناس فرق بأن أفعال الخير من الإيمان، وكلام السلف في الإيمان مذكور في غير هذا الموضع.
وهذه الأقوال الثلاثة، بقدمها أو قدم أفعال الخير، والتوقف في ذلك أقوال فاسدة باطلة لم يقلها أحد من الأئمة المشهورين، ولا يقولها من يتصور ما يقول، وإنما أوقع هؤلاء فيها ما ظنوه في مسألة اللفظ بالقرآن، ومسألة التلاوة والمتلو، ومسألة الإيمان.
وقد أوضحنا مذاهب الناس في مسألة القرآن، وبينا القول الحق والوسط الذي كان عليه السلف، والأئمة الموافق للمنقول والمعقول، وبينا انحراف المنحرفين من المثبتة والنفاة في غير هذا الموضع.
وقد آل الأمر بطائفة ممن يجعلون بعض صفات العبد قديماً، إلى أن جعلوا الروح التي فيه قديمة، وقالوا: بقدم النور القائم بالشمس والقمر، ونحو ذلك من المقالات، التي بينا فسادها ومخالفتها للسلف والأئمة في غير هذا الموضع.
وهؤلاء يشتركون في القول بحلول بعض صفات الخالق في المخلوق، وأما الجهمية الذين هم شر من هؤلاء، فيؤول الأمر بهم إلى أن يجعلوا الخالق نفسه يحل في المخلوقات كلها، أو يجعلونه عين وجود المخلوقات، وكان قد اجتمع شيخ هؤلاء الحلولية الجهمية بشيوخ أولئك الحلولية الصفاتية.
وبسبب هذه البدع وأمثالها، وغيرها من مخالفة الشريعة جرى ما جرى من المصائب على الأئمة.
والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا القول بالحلول وشبهوا هؤلاء بالنصارى، وقال فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية قال: فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان له خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقى أناساً من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا.
قالوا: فهل سمعت كلامه ؟ قال: لا.
قالوا: فشممت له رائحة ؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة، مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى ابن مريم هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء، وينهي عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم.
قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا.
قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا.
قال: فوجدت له حساً أو مجساً ؟ قال: لا.
قال: فكذلك الله لا ترى له وجهاً ولا تسمع له صوتاً، ولا تشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، وتكلم في الرد عليهم إلى أن قال:
ثم إن الجهم ادعى أمراً آخر فقال: إنا وجدنا آية من كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ فقال: قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، وعيسى مخلوق.
فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن، عيسى تجري عليه ألفاظ، لا تجري على القرآن؛ لأنه يسميه مولوداً وطفلا وصبياً، وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد.
ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟!.
ولكن المعنى في قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمٍَ} [النساء: 171]، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن، ولكن كان بكن، فالكن من الله قول، وليس الكن من الله مخلوقاً.
وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله، وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة.
وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله.
كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان.
وليس عيسى هو الكلمة.
وأما قول الله وروح منه. يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13].
يقول: من أمره، و تفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله وسماء الله.
وبين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، فضلاً عن أعمالهم فقال:
بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى، فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.
فقلنا: فهل يجوز لمكون غير الله، أن يقول: يا موسى، أنا ربك أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فمن زعم أن ذلك غير الله، فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئاً كان يقول ذلك المكون: يا موسى إن الله رب العالمين، لا يجوز له أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، وقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، فهذا منصوص القرآن.
فأما ما قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وبسط الكلام عليهم إلى أن قال:
قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة.
بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق، وذكر تمام كلامه.
فقد بين أن كلام الآدميين مخلوق خلقه الله، وذلك أبلغ من نصه على أن أفعال العباد مخلوقة، مع نصه على الأمرين.
وقال: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟! فيقول: نعم، فقل له: حين خلق خلقه، خلقه في نفسه أو خارجاً عن نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحدة منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضاً كفراً حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر ردىء. وإن قال: خلقهم خارجَا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة.
فقد بين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، ونص في غير موضع على أن أفعالهم مخلوقة، والنص على كلامهم أبلغ، فإن الشبه فيه أظهر.
فمن قال: إن كلام الآدميين، أو أفعالهم قديمة، فهو مبتدع مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في أفعال العباد: هل هي قديمة، أم مخلوقة حين خلق الإنسان؟ وما الحجة على من يقول: إن سائر أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السموات والأرض؟ وفيمن لم يستثن في الأفعال الماضية، كقول القائل: هذه نخلة أو شجرة زيتون قطعاً، لم يقل شيء إلا ويسترجع فيه المشيئة، ويسأل البسط في ذلك.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، أفعال العباد مخلوقة باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كما نص علي ذلك سائر أئمة الإسلام، الإمام أحمد ومن قبله وبعده، حتي قال بعضهم: من قال: إن أفعال العباد غير مخلوقة، فهو بمنزلة من قال: إن السماء والأرض غير مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد العطار: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة.
وكان السلف قد أظهروا ذلك لما أظهرت القدرية، أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وزعموا أن العبد يحدثها أو يخلقها دون الله، فبين السلف والأئمة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها.
ثم لما أظهر طائفة من المنتسبين إلى السنة، أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، وأنكر الإمام أحمد ذلك وبدع من قاله، ثم لما مات قام بعده صاحبه أبو بكر المروذي، فصنف في ذلك مصنفاً، ذكره أبو بكر الخلال في كتاب [السنة] وذكر مسألة أبي طالب لما أنكر عليه أحمد القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق، والجهمية أول من قال اللفظ بالقرآن مخلوق، ورواه عنه ابناه صالح وعبد الله، وحنبل ابن عمه، والمروزي وفوران وغيرهم من أجلاء أصحابه.
وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال: إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفاً، كما أنهم بدعوا وجهموا من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، أو أن حروف القرآن مخلوقة.
أو قالوا: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فرد الأئمة هذه البدعة كما ذكرنا ذلك مبسوطاً في غير هذا الموضع.
ولم يقل قط أحد لا من أصحاب أحمد المعروفين، ولا من غيرهم من العلماء المعروفين، أن أفعال العباد قديمة.
وإنما رأيت هذا قولا لبعض المتأخرين بأرض العجم، وأرض مصر.
من المنتسبين إلى مذهب الشافعي أو أحمد، فرأيت بعض المصريين يقولون: إن أفعال العباد من خير وشر قديمة، ويقولون: ليس مرادنا بالأفعال نفس الحركات، ولكن مرادنا الثواب الذي يكون عليها، كما جاء في الحديث .
واحتجوا على ذلك بأن الأفعال من القدر، والقدر سر الله وصفة من صفاته، وصفاته قديمة.
واحتجوا بأن الشرائع غير مخلوقة؛ لأنها أمر الله وكلامه، والأفعال هي الشرائع، فتكون قديمة، وهذا قول في غاية الفساد، وهو مخالف لنصوص أئمة الإسلام كلهم، وأحدهم الإمام أحمد، فإنه نص هو وغيره من الأئمة على أن الثواب الذي يعطيه الله على قراءة القرآن مخلوق. فكيف بالثواب الذي يعطيه على سائر أعمال العباد.
ولما احتج الجهمية على الإمام أحمد، وغيره من أهل السنة على أن القرآن مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك قالوا: ومن يأتي ويذهب لا يكون إلا مخلوقاً، أجابهم الإمام أحمد بأن الله تعالى قد وصف نفسه بالمجيء والإتيان، بقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]، ومع هذا فلم يكن هذا دليلاً على أنه مخلوق بالاتفاق، بل قد يقول القائل: جاء أمره، وهكذا تقوله المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق ويتأولون هذه الآية علي أن المراد بمجيئه مجيء أمره، فلم لا يجوز أن يتأول مجيء القرآن على مجيء ثوابه؟ ويكون المراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران بمجيء ثوابها، وثوابها مخلوق.
وقد ذكر هذا المعنى غير واحد، وبينوا أن المراد بقوله أي ثوابهما، ليجيبوا الجهمية الذين احتجوا بمجيء القرآن وإتيانه على أنه مخلوق، فلو كان الثواب أيضاً الذي يجيء في صورة غمامة أو صورة شاب غير مخلوق، لم يكن فرق بين القرآن والثواب، ولا كان حاجة إلى أن يقولوا: يجيء ثوابه، ولا كان جوابهم للجهمية صحيح، بل كانت الجهمية تقول: أنتم تقولون؛ إنه غير مخلوق، وأن ثوابه غير مخلوق، فلا ينفعكم هذا الجواب.
فعلم أن أئمة السنة مع الجهمية كانوا متفقين على أن ثواب قراءة القرآن مخلوق، فكيف يكون ثواب سائر الأعمال، وهذا بين، فإن الثواب والعقاب هو ما وعد الله به عباده، وأوعدهم به فالثواب هو الجنة بما فيها، والعقاب هو النار بما فيها، والجنة بما فيها مخلوق والنار بما فيها مخلوق، وقد ذكر الإمام أحمد هذه الحجة، فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فقال:
باب: ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت فادعوا أن القرآن مخلوق، فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء بمعني أنه قد جاء: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فله كذا وكذا)، ألا ترون من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يجيئه، بل يجيء ثوابه؛ لأنا نقرأ القرآن فنقول لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال.
فبين أحمد أن الثواب هو الذي يجيء، وهو المخلوق من العمل، فكيف بعقوبة الأعمال الذي تتغير من حال إلى حال، فإذا كان هذا ثواب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهو ثواب القرآن، فكيف ثواب غيره!!.
وأما احتجاج المحتج، بأن الأفعال قدر الله فيقال له: لفظ القدر يراد به التقدير، ويراد به المقدر.
فإن أردت أن أفعال العباد نفس تقدير الله الذي هو علمه وكلامه ومشيئته ونحو ذلك من صفاته، فهذا غلط وباطل، فإن أفعال العباد ليست شيئا من صفات الله تعالى وإن أردت أنها مقدرة قدرها الله تعالى، فهذا حق، فإنها مقدرة كما أن سائر المخلوقات مقدرة، وقد ثبت في الصحيح، أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل تلك المقدورات مخلوقة.
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق .
فالرزق والأجل قدره كما قدر عمله، ومعلوم أن الرزق الذي يأكله مخلوق مع أنه مقدر.
فكذلك عمله، وكذلك سعادته وشقاؤه، وسعادته وشقاؤه هي ثواب العمل وعقابه، وكل ذلك مقدر، كما أن الرزق مقدر، والمقدر مخلوق.
وأما قولهم: إن الأعمال هي الشرائع، والشرائع غير مخلوقة، فيقال لهم أيضاً: لفظ الشرع يراد به كلام الله الذي شرع به الدين، ويراد به الأعمال المشروعة، فإن هذه الألفاظ يراد بها المصدر، ويراد بها المفعول، كلفظ الخلق ونحوه.
فإن قلتم: إن أعمال العباد هي الشرع الذي هو كلام الله، فهذا باطل ظاهر البطلان.
وإن أردتم أن الأعمال هي المشروعة بأمر الله بها فهذا حق، لكن أمر الله غير مخلوق، وأما المأمور به المكون بأمر الله أو الممتثل بأمر الله، فإنه مخلوق، كما أن العبد المأمور مخلوق.
ولفظ الأمر يراد به المصدر، والمفعول، فالمفعول مخلوق، كما قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38].
فهنا المراد به المأمور به، ليس المراد به أمره الذي هو كلامه، وهذه الآية التي احتج بها هؤلاء تضمنت الشرع، وهو الأمر والقدر، وقد ضل في هذا الموضع فريقان:
الجهمية الذين يقولون: كلام الله مخلوق، ويحتجون بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} ويقولون: ما كان مقدوراً فهو مخلوق.
وهؤلاء الحلولية الضالون، الذين يجعلون فعل العباد قديماً بأنه أمر الله وقدره، وأمره وقدره، غير مخلوق.
ومثار الشبهة أن اسم القدر، والأمر، والشرع، يراد به المصدر ويراد به المفعول ففي قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [ الأحزاب: 38 ]، المراد به المأمور به المقدور، وهذا مخلوق، وأما في قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5]، فأمره كلامه إذ لم ينزل إلينا الأفعال التي أمرنا بها وإنما أنزل القرآن، وهذا كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فهذا الأمر هو كلامه.
فإذا احتج الجهمي الذي يؤول أمره إلى أن يجعله حالاً في المخلوقات بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} قيل له: المراد به المأمور به، كما في قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وكما يقال عن الحوادث التي يحدثها الله: هذا أمر عظيم، وإذا احتج الحلولي الذي يجعل صفات الرب تقارن ذاته، وتحل في المخلوقات بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}، وقال الأفعال قدره وأمره، وأمره غير مخلوق، وقدره غير مخلوق، قيل له: أمره وقدره الذي هو صفته كمشيئته وكلامه غير مخلوق، فأما أمره الذي هو قدر مقدور فمخلوق، فالمقدور مخلوق، والمأمور به مخلوق، وإن سميا أمراً وقدراً.
ثم يقال لهؤلاء الضالين: هب أن المأمور به يسمى أمراً وشرعاً، فالمنهي عنه ليس هو مأموراً به ولا مشروعاً، وإنما هو مخالفة للأمر والشرع، وهو منهي عنه، فكيف سميتم الكفر، والفسوق، والعصيان شرائع، وليست من الشرائع؟! ولكن هي مما نهت عنه الشريعة، ولما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، هل دخل في هذه الشريعة الكفر، والفسوق، والعصيان؟! وهل أمر الرسول باتباع ذلك وباجتنابه واتقائه؟!.
وأما قول السائل: ما الحجة على من يقول: إن أفعال العباد من الحركات، وغيرها من القدر الذي قدر قبل خلق السماوات والأرض ؟ فيقال له: من قال هذا القول فقد أحسن وأصاب وليس عليه حجة، بل هذا الكلام حجة على نقيض مطلوبه، فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو عنه صلى الله عليه وسلم قال فقدر أعمالهم وأرزاقهم وصورهم وألوانهم، وكل ذلك مخلوق، فدل ذلك على أن الأعمال من المقدورات المخلوقة، وهل يقول عاقل: إن عمل العبد كان موجوداً قبل وجوده، وعمل العبد حركته التي نشأت عنه، فكيف يكون ذلك موجوداً قبله.
ومن فسر كلامه وقال: إنا لم نرد الحركة، ولكن أردنا ثوابها، فيقال له: كل ما سوى الله فهو مخلوق، وكلامه وصفاته ليست خارجة عن مسماه، بل كلامه داخل في مسمى اسمه، ولو قال قائل: ما سوى الله وصفاته فهو مخلوق، ليزيل هذه الشبهة، كان قد قصد معنى صحيحاً، وكذلك إذ قال كما قال من قال من السلف: الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فهؤلاء استثنوا القرآن لئلا يتوهم المستمع أن القرآن المنزل مخلوق.
فإن الجهمية كانوا يقولون للناس: القرآن هو الله أو غير الله، فيجيبهم من لا يفهم مقصودهم بأنه غير الله، فيقولون: كل ما سوى الله مخلوق، فقال من قال من السلف هذه العبارة؛ لئلا يظن من لم يعرف مقاصد الجهمية أن القرآن مخلوق؛ لظنه أن ذلك يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إن ذلك لا يدخل في عموم قوله: وما سوى الله مخلوق، فقالوا: إلا القرآن فإنه ليس بمخلوق، وإن أدخله من أدخله في قول القائل وما سوى الله مخلوق، فلما كان لفظ الغير والسوي فيهما اشتراك، فصفة الشيء تدخل تارة في لفظ الغير والسوي، وتارة لا تدخل، والمخاطب ممن يفهم دخول القرآن في لفظ السوي، استثناه السلف.
فأما أفعال العباد، فلم يستثنها أحد من عموم المخلوقات، إلا القدرية الذين يقولون: إن الله لم يخلقها من المعتزلة ونحوهم.
لكن هؤلاء يقولون: إنها محدثة كائنة بعد أن لم تكن، إلا هؤلاء الحلولية، وما علمت أحداً من المتقدمين قال: إن أفعال العباد من الخير أو الشر قديمة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة إلا عن بعض متأخري المصريين، وبلغني نحو ذلك عن بعض متأخري الأعاجم ورأيت بعض شيوخ هؤلاء من الشاميين توقفوا عنها، فقالوا: نقول: هي مقضية مقدرة، ولا نقول: مخلوقة ولا غير مخلوقة، وبعض الناس فرق بأن أفعال الخير من الإيمان، وكلام السلف في الإيمان مذكور في غير هذا الموضع.
وهذه الأقوال الثلاثة، بقدمها أو قدم أفعال الخير، والتوقف في ذلك أقوال فاسدة باطلة لم يقلها أحد من الأئمة المشهورين، ولا يقولها من يتصور ما يقول، وإنما أوقع هؤلاء فيها ما ظنوه في مسألة اللفظ بالقرآن، ومسألة التلاوة والمتلو، ومسألة الإيمان.
وقد أوضحنا مذاهب الناس في مسألة القرآن، وبينا القول الحق والوسط الذي كان عليه السلف، والأئمة الموافق للمنقول والمعقول، وبينا انحراف المنحرفين من المثبتة والنفاة في غير هذا الموضع.
وقد آل الأمر بطائفة ممن يجعلون بعض صفات العبد قديماً، إلى أن جعلوا الروح التي فيه قديمة، وقالوا: بقدم النور القائم بالشمس والقمر، ونحو ذلك من المقالات، التي بينا فسادها ومخالفتها للسلف والأئمة في غير هذا الموضع.
وهؤلاء يشتركون في القول بحلول بعض صفات الخالق في المخلوق، وأما الجهمية الذين هم شر من هؤلاء، فيؤول الأمر بهم إلى أن يجعلوا الخالق نفسه يحل في المخلوقات كلها، أو يجعلونه عين وجود المخلوقات، وكان قد اجتمع شيخ هؤلاء الحلولية الجهمية بشيوخ أولئك الحلولية الصفاتية.
وبسبب هذه البدع وأمثالها، وغيرها من مخالفة الشريعة جرى ما جرى من المصائب على الأئمة.
والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا القول بالحلول وشبهوا هؤلاء بالنصارى، وقال فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية قال: فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله، أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان له خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقى أناساً من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا.
قالوا: فهل سمعت كلامه ؟ قال: لا.
قالوا: فشممت له رائحة ؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا.
قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة، مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى ابن مريم هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء، وينهي عما يشاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم.
قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا.
قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا.
قال: فوجدت له حساً أو مجساً ؟ قال: لا.
قال: فكذلك الله لا ترى له وجهاً ولا تسمع له صوتاً، ولا تشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، وتكلم في الرد عليهم إلى أن قال:
ثم إن الجهم ادعى أمراً آخر فقال: إنا وجدنا آية من كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ فقال: قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، وعيسى مخلوق.
فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن، عيسى تجري عليه ألفاظ، لا تجري على القرآن؛ لأنه يسميه مولوداً وطفلا وصبياً، وغلاما يأكل ويشرب وهو مخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد.
ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟!.
ولكن المعنى في قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمٍَ} [النساء: 171]، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو الكن، ولكن كان بكن، فالكن من الله قول، وليس الكن من الله مخلوقاً.
وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله، وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة.
وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله.
كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان.
وليس عيسى هو الكلمة.
وأما قول الله وروح منه. يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13].
يقول: من أمره، و تفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله وسماء الله.
وبين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، فضلاً عن أعمالهم فقال:
بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى، فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.
فقلنا: فهل يجوز لمكون غير الله، أن يقول: يا موسى، أنا ربك أو يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فمن زعم أن ذلك غير الله، فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئاً كان يقول ذلك المكون: يا موسى إن الله رب العالمين، لا يجوز له أن يقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، وقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، فهذا منصوص القرآن.
فأما ما قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وبسط الكلام عليهم إلى أن قال:
قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق، قلنا: وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة.
بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق، وذكر تمام كلامه.
فقد بين أن كلام الآدميين مخلوق خلقه الله، وذلك أبلغ من نصه على أن أفعال العباد مخلوقة، مع نصه على الأمرين.
وقال: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله، حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟! فيقول: نعم، فقل له: حين خلق خلقه، خلقه في نفسه أو خارجاً عن نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحدة منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضاً كفراً حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر ردىء. وإن قال: خلقهم خارجَا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة.
فقد بين أحمد أن كلام الآدميين مخلوق، ونص في غير موضع على أن أفعالهم مخلوقة، والنص على كلامهم أبلغ، فإن الشبه فيه أظهر.
فمن قال: إن كلام الآدميين، أو أفعالهم قديمة، فهو مبتدع مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.