سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام
الإجابة: سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن حسن إرادة الله تعالى لخل،
فإنإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أو لغير علة؟ فإن قيل: لا لعلة
فهو عبث تعالى الله عنه وإن قيل: لعل، فإنن قلتم: إنها لم تزل،
لزم أن يكون المعلول لم يزل، وإن قلتم: إنها محدثة، لزم أن يكون لها
علة، والتسلسل محال.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجَلِّ المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات، فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله، وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها.
وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الأمارة والعلامة؟ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا ؟
وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم، هل هو منزه عنه مع قدرته عليه؟ أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه؟
وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه، هل هي بمعنى إرادته؟ أو هي الثواب والعقاب المخلوق؟ أم هذه صفات أخص من الإرادة؟
وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن إرادة الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه.
وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها.
ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه،صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.
فالتقدير الأول: هو قول من يقول: خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري، وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس في الفقه الظاهرية كابن حزم وأمثاله.
ومن حجة هؤلاء: أنه لو خلق الخلق لعلة، لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصاً.
ومن حجتهم: ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد كما يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقال: إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه، فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل، كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديماً، كان الفعل قديماً بطريق الأولى.
فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة، لزم ألا يحدث شىء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
أحدهما: أن يكون محلاً للحوادث، فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه، فإن لم يعد إليه منها حكم، امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم، كان ذلك حادثاً فتقوم به الحوادث.
المحذور الثاني: أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين: أحدهما: أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضاً مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته، فإن كانت لغير علة، لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعله والعلة مما أحدثه، لزم تسلسل الحوادث.
الثاني: أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها؛ لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها، فالقول في ذلك الغير كالقول فيها، ويلزم التسلسل، فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
والتقدير الثاني: قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم: إن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها، لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها، وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل، فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل، إن لم يكن جميعها في الأزل فلابد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث، فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول، ويلزم التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح.
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية، ولكنهم متناقضون، فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار، وقولهم باطل من وجوه كثيرة:
منها: أن يقال: هذا القول يستلزم ألا يحدث شىء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث، ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل، وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها، ولا يجوز أن يتأخر عنها شىء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه، وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث.
وأيضاً، فلو قدر أن غيره أحدثها، فإن كان واجباً بنفسه، كان القول فيه كالقول في الواجب الأول، وأصل قولهم: إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له، فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه، فامتنع صدور الحوادث عنها، وإن كانت حادثة، كان القول فيها كالقول في غيرها.
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه، كان ممكناً مفتقراً إلى موجب يوجب به، ثم إن قيل:إنه محدث، كان من الحوادث، وإن قيل: إنه قديم، كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شىء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه، فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة، قيل: هل حدث فيه سبب يقتضى الحدوث أم لا ؟ فإن قيل: لم يحدث سبب، لزم الترجيح بلا مرجح، وإن قيل: حدث سبب، لزم التسلسل كما تقدم.
الوجه الثاني: الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة: أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة، لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح، والتسلسل عندكم جائز، فإن أصل قولهم: إن هذه الحوادث متسلسلة شيئاً بعد شىء، وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم: هي العقل الفعال، أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول، أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزاً عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم، وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل المسلـمون واليهود والنصارى فإن قيل: إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك، كان خيراً من قولكم: إنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شىء إلا بسبب حادث، فإذا قيل: إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك، لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا.
الوجه الثالث: أن يقال: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية، إما أن يكون ممكناً في العقل أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً في العقل، لزم أن الحوادث جميعها لها أول، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان ممكناً، أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفاً على حوادث قبل ذلك، كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك، فيلزم فساد حجتكم على التقديرين.
ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة، وإما ألا تثبتوا، فإن لم تثبتوا؛ بطل قولكم بإثبات العلة الغائية، وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضاً، فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته ووقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة، وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة الغائية لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول: بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضاً؛ ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، وأمثال ذلك، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأما التقدير الثالث: وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكَرَّامِيَّة والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة، وكثير من متأخريهم؛ كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال:
منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضاً كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا: الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب، وقالوا: إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل، فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم، ولا قام به فعل ولا نعت.
فقال لهم الناس: أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثاً ولم يكن محموداً على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث، فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لافي العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر.
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفي ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له، ولكونه ضاراً للفاعل منافراً له، أنه يمكن معرفته بالعقل، كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له.
والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله، ومنازعوهم لما اعتقدوا ألا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك، وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك، وإن كانوا قد يتناقضون.
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه على كل شىء قدير، ولا يقولون:ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقرون بأنه خالق كل شىء، ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه:112]، أي:لا يخاف أن يظلم، فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم، بل يثاب على ما أتي به من التوحيد، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7- 8].
وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم [عدلية] يقولون: من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته، وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلماً يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما، والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام.
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم: أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً.
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام، كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضاً فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: إنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق، وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} [إبراهيم: 28] قالوا: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا قال قائل: فقد تضرر برسالته طائفة من الناس، كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب، كان عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه نفعهم بحسب الإمكان، فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، فكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
والجواب الثاني: أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت، أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقَصَّارين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة، كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس، وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة.
وقال هؤلاء: جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر، فلابد فيه من حكمة، قال الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، و الضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالي وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا علي أحد وجوه ثلاثة: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، فإنه إذا دخل في العموم؛ أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما أشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله.
فالأول، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ونحو ذلك، ومن هذا الباب: أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع، فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك، فهو من عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" ، فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله.
وأما حذف الفاعل، فمثل قول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10]، وقوله تعالى في سورة الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ونحو ذلك.
وإضافته إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الكهف:79]، مع قوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82]، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]، وقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وأمثال ذلك.
ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، و إنما يذكر الشر في مفعولاته، كقوله:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]، وقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12-14]، فبين سبحانه أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود.
واسم [المنتقم] ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى: {إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]، والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه" ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء، وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من روي هذا الحديث أنه عن أبي هريرة، ثم عن الأعرج، ثم عن أبي الزناد، لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهم، ولكن روى عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجة، وإسناده ضعيف، يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة، وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة، فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم.
وإذا علم العبد من حيث الجملة : أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه، حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح " (4)، وفي الصحيحين عنه أنه قال ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها، كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة، ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضي.
وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء، لا يفرقون بالإرادة والمحبة والرضي، بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا: إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا: لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا: إنه لا يريده ديناً وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده.
وقد قال تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} [النساء:108] فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم، كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله، بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال، ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا: إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير.
وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله.
وقالوا: مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات، أعيانها وأفعالها، كما قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] وكما قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19-22] وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات.
وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] وقال تعالى:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:30] وقال تعالى:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14-16] ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف، وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمر بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر، واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وغلطوا في ذلك.
فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهذا حسن وصواب، لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148].
فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شراً غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون الجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال .
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء.
وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة و البغض والرضى والسخط، الذين يقولون: التوحيد هو توحيد الربوبية، و الإلهية عندهم هي القدرة على الاختراع، ولا يعرفون توحيد الإلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود.
وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيداً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد، ويقولون: إن هذا نهاية المعرفة، وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة.
وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين قال الله عنهم: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84-89]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61- 63]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ. كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:31-35]، وقال تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60-64] .
فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم، وبيده ملكوت كل شيء، بل كانوا مقرين بالقدر أيضاً فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية، وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره كانوا مشركين شراً من اليهود والنصارى.
فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين.
وهذا المقام مقام وأي مقام ! زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام، على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام.
ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي، والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبئ الكاذب، وأولياء الله وأعدائه.
ويجعل هذا غاية التحقيق، ونهاية التوحيد، وهؤلاء يدخلون في مسمى [القدرية] الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة ونحوهم، كما قال أبو بكر الخلال في [كتاب السنة]: الرد على القدرية، وقولهم إن الله أجبر العباد على المعاصي، وذكر عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا تقول، وأنكر ذلك، وقال:{يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31].
وذكر عن المروذي رجلاً قال: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي.
فرد عليه آخر فقال: إن الله جبر العباد أراد بذلك إثبات القدر فسألوا عن ذلك أحمد ابن حنبل، فأنكر عليهما جميعاً؛ على الذي قال: جبر، وعلى الذي قال: لم يجبر حتى تاب، وأمر أن يقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31].
وذكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أنكر سفيان الثوري [جبر] وقال: إن الله جبل العباد.
قال المروذى: أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس يعنى قوله .
وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال: قال الأوزاعي: أتانى رجلان فسألانى عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما، قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال: فأتانى الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال: تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا فى القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا: إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت: يا هؤلاء، إن الذين آتوكم بما آتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثاً، وإنى أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق.
وذكر عن بقية بن الوليد قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب.
وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القران والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال مطرف بن الشخير: لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير.
وقال ضمرة بن ربيعة: لم نؤمر أن نتكل على القدر، وإليه نصير.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن الخلال وغيره من أهل العلم أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى "القدرية"، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي؟! ومعلوم أنه يدخل فى ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم؛ ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة فى كلام غير واحد من السلف.
وروي فى ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد، فإلارجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم والقدري إن احتج به كان عوناً للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى.
ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والإيمان بالقدر من تمام ذلك.
فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل.
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحداً منهم أن يعيش به، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق، ولا يتعاشر عليه اثنان؛ فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد.
فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك، فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر.
ومن ادعى أن العارف إذا شهد القدر سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الكفر الذي لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع؛ فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي وإن كان من كان لابد أن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه.
وهذا حقيقة الأمر والنهي، فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع؛ فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22- 23]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وعن إبليس أنه قال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، فمن تاب أشبه أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس، والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]،" .
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وقد روى بإسناد جيد من حديث عمر رضي الله عنه.
فآدم عليه السلام إنما حج موسى؛ لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب، كما قال تعالي: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122]، وموسى ومن هو دون موسى عليه السلام يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب.
وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى؛ لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه.
وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، وقال أنس: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول ،، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، وقد قال صلى الله عليه وسلم ،، ففي أمر الله ونهيه يسارع إلى الطاعة، ويقيم الحدود على من تعدى حدود الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذٍ أو قصر مقصر في حقه، عفا عنه، ولم يؤاخذه نظراً إلى القدر.
فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم عليه السلام فإنه لا سبيل إلى لومه شرعاً لأجل التوبة ولا قدراً؛ لأجل القضاء والقدر، وأما إذا ظلم رجل رجلاً، فله أن يستوفى مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له، كما قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45].
وأما الصنف الثالث، فهم الذين لا ينظرون إلى القدر، لا في المعائب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك كله إلى العبد، وإذا أساؤوا استغفروا، وهذا حسن، لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى به عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم: دعوه، فلو قضى شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:48].
ومن هذا قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78- 79].
فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته، هؤلاء يقولون: الأفعال كلها من الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وهؤلاء يقولون: الحسنة من الله والسيئة من نفسك؛ لقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .
وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة: [فمن نفسك ؟ ] بالفتح على معنى الاستفهام، وربما قدر بعضهم تقديراً: أي أفمن نفسك؟ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى:{مَا أَصَابَكَ} فيقولون: تقدير الآية: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله قول الصدق من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه؛ فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب الذي تنصره.
وأما القرآن، فالمراد منه هنا بالحسنات والسيئات: النعم والمصائب، ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:210]، وكقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} الآية [التوبة:50- 51]، ومنه قوله تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: بالنعم والمصائب.
وهذا بخلاف قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160] وأمثال ذلك، فإن المراد بها: الطاعة والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال، بل هو مبين.
وذلك أنه إذا قال:{مَا أَصَابَكَ} وما (مسك) ونحو ذلك، كان من فعل غيرك بك كما قال:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وكما قال تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} وقال تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
وإذا قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام:160، النمل:89، والقصص:84]، كانت من فعله؛ لأنه هو الجائي بها، فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به، وسياق الآية يبين ذلك، فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء:71-73].
فأمر سبحانه بالجهاد وذم المثبطين، وذكر ما يصيب المؤمنين تارة من المصيبة فيه، وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد مصيبة فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [ آل عمران: 123]، ثم إنه سبحانه قال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} إلى قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:74-78]، فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا:هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا:هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان.
وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:130- 131]، ونظيره قوله تعالى في سورة يس:{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:16-18]، فأخبر الله تعالى أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه لهم من الله عز وجل فقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78]، والله تعالى نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سبباً للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النساء:79]، أي: ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك، وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى، ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان.
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى وفي الحديث الصحيح سيد الاستغفار أن يقول العبد .
ثم قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء:79] من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد:{فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوباً مقدراً عليك، فإن القدر ليس حجة لأحد، لا على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم، ولم يقاتل مشرك، ولم يقم حد، ولم يكف أحد عن ظلم أحد.
وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده للعالم بصريح المعقول.
المطابق لما جاء به الرسول.
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس، فإن الله ذكر عنه: أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر:39].
وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضاً لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات، ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال .
ويشبه والله أعلم أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين، والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب؛ ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيراً منهم يضع كتاباً أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون: إن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانياً؛ لأنه أثبت الصفات، وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها.
والمقصود هنا، أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء.
وهؤلاء حجة على من يحتج بالقدر، فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة لم يعذبهم بذنوبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإنه سبحانه أخبر أن الحسنة من الله، وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث لا هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا.
وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية؛ إذ كل منهما أرسل إليه الرسول، وأقدر على الفعل، وأزيحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذلك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله، كما حببه إلى المؤمنين كعلي رضي الله عنه وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكرَّه الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم.
ومن توهم عنهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد، فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم: إن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه الله بإرادة خلقها فيه، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم لا لهم؛ لأنه تعالى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، مخالف لقولهم؛ فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله سبحانه.
وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] كان مخطئاً، فإن الله ذكر هذه الآية رداً على من يقول: الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من طوائف الناس: إن الحسنة المفعولة من الله، والسيئة المفعولة من العبد.
وأيضاً، فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات: إن الله خلقه، وهو مخلوق له ومفعول له؛ فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها.
وأيضاً، فإن قوله بعد هذا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون: إن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون: إن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث.
ومما ينبغي أن يعلم: أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً.
إذا مسه الشر جزوعاً.
وإذا مسه الخير منوعاً ونحو ذلك إن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة.
قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29] وقال تعالى: {هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29- 30] وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54-56] .
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر. فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة.
والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا تكون فعلا له.
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر: بل هي فعله وليست أفعالا للعباد، بل هي كسب للعبد.
وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها.
وأن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها.
فيكون الفعل خلقاً من الله إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، وقالوا: إن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها.
ومع هذا فقد يقولون: إنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة.
وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق، فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة.
وقالوا أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة.
وأيضاً، فهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك.
والثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها ولا يكون شيء من مقدورها خارجاً عن محلها.
وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه.
وأيضا، فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل.
وأيضاً، قال لهم المنازعون: من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك؛ لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا: وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية، من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك، ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم: إذا كان الكلام مخلوقاً، كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضاً من فعل الأفعال.
وقالوا أيضاً: القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالي :{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17، والواقعة: 24]، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [ التوبة: 105]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277، يونس :9، هود :32] وأمثال ذلك.
وقالوا أيضاً: إن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره، لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها.
وفي المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه، لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل، فنقول: قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، و تارة يراد به مسمي المصدر، فيقول: فعلت هذا أفعله فعلاً، وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمي المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمي المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالي: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13]، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالي: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فإنه في أصح القولين (ما) بمعني الذي، والمراد به: ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالي :{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95- 96] أي: والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقاً للتأليف، كان خالقاً لأفعالهم.
والمقصود أن لفظ [الفعل] و[العمل] و[الصنع] أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلي المفعول، وكذلك لفظ:[التلاوة] و[القراءة] و[الكلام] و[القول] يقع على نفس مسمي المصدر وعلي ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.
والمقصود هنا أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد؛ فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعني المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق.
ثم من هؤلاء من قال: إنه ليس لله فعل يقوم به، فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه.
وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون: هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضاً مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالي بين الفعل والمفعول إذا قال: إنها فعل الله تعالي وليس لمسمي فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولي، وبعض هؤلاء قال: هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولاً بين فاعلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجَلِّ المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات، فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله، وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها.
وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الأمارة والعلامة؟ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا ؟
وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم، هل هو منزه عنه مع قدرته عليه؟ أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه؟
وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه، هل هي بمعنى إرادته؟ أو هي الثواب والعقاب المخلوق؟ أم هذه صفات أخص من الإرادة؟
وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن إرادة الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه.
وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها.
ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه،صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.
فالتقدير الأول: هو قول من يقول: خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري، وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس في الفقه الظاهرية كابن حزم وأمثاله.
ومن حجة هؤلاء: أنه لو خلق الخلق لعلة، لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصاً.
ومن حجتهم: ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد كما يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقال: إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه، فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل، كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديماً، كان الفعل قديماً بطريق الأولى.
فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة، لزم ألا يحدث شىء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
أحدهما: أن يكون محلاً للحوادث، فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه، فإن لم يعد إليه منها حكم، امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم، كان ذلك حادثاً فتقوم به الحوادث.
المحذور الثاني: أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين: أحدهما: أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضاً مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته، فإن كانت لغير علة، لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعله والعلة مما أحدثه، لزم تسلسل الحوادث.
الثاني: أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها؛ لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها، فالقول في ذلك الغير كالقول فيها، ويلزم التسلسل، فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
والتقدير الثاني: قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم: إن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها، لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها، وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل، فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل، إن لم يكن جميعها في الأزل فلابد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث، فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول، ويلزم التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح.
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية، ولكنهم متناقضون، فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، لا فاعل بالاختيار، وقولهم باطل من وجوه كثيرة:
منها: أن يقال: هذا القول يستلزم ألا يحدث شىء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث، ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل، وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها، ولا يجوز أن يتأخر عنها شىء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه، وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث.
وأيضاً، فلو قدر أن غيره أحدثها، فإن كان واجباً بنفسه، كان القول فيه كالقول في الواجب الأول، وأصل قولهم: إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له، فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه، فامتنع صدور الحوادث عنها، وإن كانت حادثة، كان القول فيها كالقول في غيرها.
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه، كان ممكناً مفتقراً إلى موجب يوجب به، ثم إن قيل:إنه محدث، كان من الحوادث، وإن قيل: إنه قديم، كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شىء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه، فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة، قيل: هل حدث فيه سبب يقتضى الحدوث أم لا ؟ فإن قيل: لم يحدث سبب، لزم الترجيح بلا مرجح، وإن قيل: حدث سبب، لزم التسلسل كما تقدم.
الوجه الثاني: الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة: أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة، لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح، والتسلسل عندكم جائز، فإن أصل قولهم: إن هذه الحوادث متسلسلة شيئاً بعد شىء، وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم: هي العقل الفعال، أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول، أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزاً عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم، وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل المسلـمون واليهود والنصارى فإن قيل: إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك، كان خيراً من قولكم: إنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شىء إلا بسبب حادث، فإذا قيل: إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك، لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا.
الوجه الثالث: أن يقال: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية، إما أن يكون ممكناً في العقل أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً في العقل، لزم أن الحوادث جميعها لها أول، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان ممكناً، أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفاً على حوادث قبل ذلك، كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك، فيلزم فساد حجتكم على التقديرين.
ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة، وإما ألا تثبتوا، فإن لم تثبتوا؛ بطل قولكم بإثبات العلة الغائية، وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضاً، فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته ووقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة، وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة الغائية لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول: بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضاً؛ ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، وأمثال ذلك، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأما التقدير الثالث: وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكَرَّامِيَّة والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة، وكثير من متأخريهم؛ كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال:
منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضاً كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا: الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب، وقالوا: إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل، فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم، ولا قام به فعل ولا نعت.
فقال لهم الناس: أنتم متناقضون في هذا القول؛ لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثاً ولم يكن محموداً على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث، فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك، إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لافي العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر.
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفي ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له، ولكونه ضاراً للفاعل منافراً له، أنه يمكن معرفته بالعقل، كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له.
والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله، ومنازعوهم لما اعتقدوا ألا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك، وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك، وإن كانوا قد يتناقضون.
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه على كل شىء قدير، ولا يقولون:ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقرون بأنه خالق كل شىء، ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً} [طه:112]، أي:لا يخاف أن يظلم، فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته، وقال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم، بل يثاب على ما أتي به من التوحيد، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7- 8].
وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم [عدلية] يقولون: من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته، وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلماً يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما، والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام.
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم: أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً.
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام، كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضاً فلا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: إنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك، والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق، وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً} [إبراهيم: 28] قالوا: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا قال قائل: فقد تضرر برسالته طائفة من الناس، كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب، كان عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه نفعهم بحسب الإمكان، فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، فكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
والجواب الثاني: أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت، أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقَصَّارين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة، كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس، وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة.
وقال هؤلاء: جميع ما يحدثه في الوجود من الضرر، فلابد فيه من حكمة، قال الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وقال: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، و الضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به؛ ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالي وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله؛ بل لا يذكر الشر إلا علي أحد وجوه ثلاثة: إما أن يدخل في عموم المخلوقات، فإنه إذا دخل في العموم؛ أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما أشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله.
فالأول، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ونحو ذلك، ومن هذا الباب: أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع، فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه، ولا الضار عن قرينه؛ لأن اقترانهما يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى وما في الوجود من غير ذلك، فهو من عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" ، فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله.
وأما حذف الفاعل، فمثل قول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10]، وقوله تعالى في سورة الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ونحو ذلك.
وإضافته إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الكهف:79]، مع قوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82]، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]، وقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وأمثال ذلك.
ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر، و إنما يذكر الشر في مفعولاته، كقوله:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]، وقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12-14]، فبين سبحانه أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود.
واسم [المنتقم] ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى: {إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]، والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم فذكر في سياقه" ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أو عن بعض شيوخه؛ ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه عن طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء، وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من روي هذا الحديث أنه عن أبي هريرة، ثم عن الأعرج، ثم عن أبي الزناد، لم يذكروا أعيان الأسماء؛ بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهم، ولكن روى عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجة، وإسناده ضعيف، يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء الحسنى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة، وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسألة، فإن نفوس بني آدم لا يزال يحوك فيها من هذه المسألة أمر عظيم.
وإذا علم العبد من حيث الجملة : أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه، حيث قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح " (4)، وفي الصحيحين عنه أنه قال ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمته فلا ينفونها، كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة، ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضي.
وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة إليه سواء، لا يفرقون بالإرادة والمحبة والرضي، بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا: إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا: لا يحبه ولا يرضاه دينا قالوا: إنه لا يريده ديناً وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده.
وقد قال تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} [النساء:108] فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه لا يوافقون المعتزلة على إنكار قدرة الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم، كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله، بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال، ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا: إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير.
وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله.
وقالوا: مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات، أعيانها وأفعالها، كما قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] وكما قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19-22] وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات.
وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] وقال تعالى:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلَالَةُ} [الأعراف:30] وقال تعالى:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14-16] ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف، وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمر بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر، واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وغلطوا في ذلك.
فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهذا حسن وصواب، لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى خرج غلاتهم إلى الإلحاد، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148].
فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث إنهم أثبتوا فاعلا لما اعتقدوه شراً غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}، فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وقد ذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم وطعامهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون الجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من أحد من المشركين؛ بل قال .
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء.
وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة و البغض والرضى والسخط، الذين يقولون: التوحيد هو توحيد الربوبية، و الإلهية عندهم هي القدرة على الاختراع، ولا يعرفون توحيد الإلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود.
وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيداً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التحقيق والفناء في التوحيد، ويقولون: إن هذا نهاية المعرفة، وإن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشاملة.
وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين قال الله عنهم: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84-89]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61- 63]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ. كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:31-35]، وقال تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60-64] .
فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم، وبيده ملكوت كل شيء، بل كانوا مقرين بالقدر أيضاً فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية، وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلما لم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره كانوا مشركين شراً من اليهود والنصارى.
فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين.
وهذا المقام مقام وأي مقام ! زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام، على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام.
ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي، والوعد والوعيد خير ممن يسوى بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبئ الكاذب، وأولياء الله وأعدائه.
ويجعل هذا غاية التحقيق، ونهاية التوحيد، وهؤلاء يدخلون في مسمى [القدرية] الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة ونحوهم، كما قال أبو بكر الخلال في [كتاب السنة]: الرد على القدرية، وقولهم إن الله أجبر العباد على المعاصي، وذكر عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا تقول، وأنكر ذلك، وقال:{يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31].
وذكر عن المروذي رجلاً قال: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي.
فرد عليه آخر فقال: إن الله جبر العباد أراد بذلك إثبات القدر فسألوا عن ذلك أحمد ابن حنبل، فأنكر عليهما جميعاً؛ على الذي قال: جبر، وعلى الذي قال: لم يجبر حتى تاب، وأمر أن يقال: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31].
وذكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أنكر سفيان الثوري [جبر] وقال: إن الله جبل العباد.
قال المروذى: أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس يعنى قوله .
وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال: قال الأوزاعي: أتانى رجلان فسألانى عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما، قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال: فأتانى الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال: تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا فى القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا: إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت: يا هؤلاء، إن الذين آتوكم بما آتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثاً، وإنى أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق.
وذكر عن بقية بن الوليد قال: سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحب.
وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القران والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال مطرف بن الشخير: لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير.
وقال ضمرة بن ربيعة: لم نؤمر أن نتكل على القدر، وإليه نصير.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن الخلال وغيره من أهل العلم أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى "القدرية"، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي؟! ومعلوم أنه يدخل فى ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم؛ ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة فى كلام غير واحد من السلف.
وروي فى ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد، فإلارجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم والقدري إن احتج به كان عوناً للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى.
ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصدق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والإيمان بالقدر من تمام ذلك.
فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل.
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحداً منهم أن يعيش به، ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق، ولا يتعاشر عليه اثنان؛ فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد.
فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك، فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر.
ومن ادعى أن العارف إذا شهد القدر سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الكفر الذي لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع؛ فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي وإن كان من كان لابد أن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه.
وهذا حقيقة الأمر والنهي، فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع؛ فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22- 23]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وعن إبليس أنه قال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، فمن تاب أشبه أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس، والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]،" .
وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وقد روى بإسناد جيد من حديث عمر رضي الله عنه.
فآدم عليه السلام إنما حج موسى؛ لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه له لأجل حق الله في الذنب، فإن آدم كان قد تاب من الذنب، كما قال تعالي: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122]، وموسى ومن هو دون موسى عليه السلام يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب.
وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر وفاجر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى؛ لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك، وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه.
وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، وقال أنس: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول ،، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، وقد قال صلى الله عليه وسلم ،، ففي أمر الله ونهيه يسارع إلى الطاعة، ويقيم الحدود على من تعدى حدود الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذٍ أو قصر مقصر في حقه، عفا عنه، ولم يؤاخذه نظراً إلى القدر.
فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم عليه السلام فإنه لا سبيل إلى لومه شرعاً لأجل التوبة ولا قدراً؛ لأجل القضاء والقدر، وأما إذا ظلم رجل رجلاً، فله أن يستوفى مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له، كما قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45].
وأما الصنف الثالث، فهم الذين لا ينظرون إلى القدر، لا في المعائب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك كله إلى العبد، وإذا أساؤوا استغفروا، وهذا حسن، لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى به عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم: دعوه، فلو قضى شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:48].
ومن هذا قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78- 79].
فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته، هؤلاء يقولون: الأفعال كلها من الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وهؤلاء يقولون: الحسنة من الله والسيئة من نفسك؛ لقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .
وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة: [فمن نفسك ؟ ] بالفتح على معنى الاستفهام، وربما قدر بعضهم تقديراً: أي أفمن نفسك؟ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى:{مَا أَصَابَكَ} فيقولون: تقدير الآية: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله قول الصدق من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه؛ فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب الذي تنصره.
وأما القرآن، فالمراد منه هنا بالحسنات والسيئات: النعم والمصائب، ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:210]، وكقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} الآية [التوبة:50- 51]، ومنه قوله تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: بالنعم والمصائب.
وهذا بخلاف قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160] وأمثال ذلك، فإن المراد بها: الطاعة والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال، بل هو مبين.
وذلك أنه إذا قال:{مَا أَصَابَكَ} وما (مسك) ونحو ذلك، كان من فعل غيرك بك كما قال:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وكما قال تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} وقال تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
وإذا قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام:160، النمل:89، والقصص:84]، كانت من فعله؛ لأنه هو الجائي بها، فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به، وسياق الآية يبين ذلك، فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء:71-73].
فأمر سبحانه بالجهاد وذم المثبطين، وذكر ما يصيب المؤمنين تارة من المصيبة فيه، وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد مصيبة فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [ آل عمران: 123]، ثم إنه سبحانه قال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} إلى قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:74-78]، فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا:هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا:هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان.
وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:130- 131]، ونظيره قوله تعالى في سورة يس:{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:16-18]، فأخبر الله تعالى أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه لهم من الله عز وجل فقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78]، والله تعالى نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سبباً للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النساء:79]، أي: ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك، وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة، فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى، ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان.
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى وفي الحديث الصحيح سيد الاستغفار أن يقول العبد .
ثم قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء:79] من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد:{فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوباً مقدراً عليك، فإن القدر ليس حجة لأحد، لا على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم، ولم يقاتل مشرك، ولم يقم حد، ولم يكف أحد عن ظلم أحد.
وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده للعالم بصريح المعقول.
المطابق لما جاء به الرسول.
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضارع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس، فإن الله ذكر عنه: أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحجر:39].
وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضاً لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات، ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال .
ويشبه والله أعلم أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين، والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب؛ ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيراً منهم يضع كتاباً أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون: إن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانياً؛ لأنه أثبت الصفات، وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها.
والمقصود هنا، أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء.
وهؤلاء حجة على من يحتج بالقدر، فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة لم يعذبهم بذنوبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإنه سبحانه أخبر أن الحسنة من الله، وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث لا هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا.
وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية؛ إذ كل منهما أرسل إليه الرسول، وأقدر على الفعل، وأزيحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذلك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله، كما حببه إلى المؤمنين كعلي رضي الله عنه وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكرَّه الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم.
ومن توهم عنهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد، فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم: إن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه الله بإرادة خلقها فيه، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم لا لهم؛ لأنه تعالى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، مخالف لقولهم؛ فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله سبحانه.
وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] كان مخطئاً، فإن الله ذكر هذه الآية رداً على من يقول: الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من طوائف الناس: إن الحسنة المفعولة من الله، والسيئة المفعولة من العبد.
وأيضاً، فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات: إن الله خلقه، وهو مخلوق له ومفعول له؛ فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها.
وأيضاً، فإن قوله بعد هذا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون: إن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون: إن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث.
ومما ينبغي أن يعلم: أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً.
إذا مسه الشر جزوعاً.
وإذا مسه الخير منوعاً ونحو ذلك إن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة.
قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29] وقال تعالى: {هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29- 30] وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54-56] .
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر. فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة.
والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا تكون فعلا له.
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر: بل هي فعله وليست أفعالا للعباد، بل هي كسب للعبد.
وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها.
وأن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها.
فيكون الفعل خلقاً من الله إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، وقالوا: إن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها.
ومع هذا فقد يقولون: إنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة.
وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق، فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة.
وقالوا أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك؛ فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة.
وأيضاً، فهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك.
والثاني: أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في محل وجودها ولا يكون شيء من مقدورها خارجاً عن محلها.
وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه.
وأيضا، فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل.
وأيضاً، قال لهم المنازعون: من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك؛ لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا: وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية، من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك، ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم: إذا كان الكلام مخلوقاً، كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضاً من فعل الأفعال.
وقالوا أيضاً: القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالي :{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17، والواقعة: 24]، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [ التوبة: 105]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277، يونس :9، هود :32] وأمثال ذلك.
وقالوا أيضاً: إن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره، لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها.
وفي المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه، لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل، فنقول: قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، و تارة يراد به مسمي المصدر، فيقول: فعلت هذا أفعله فعلاً، وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمي المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمي المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالي: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13]، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالي: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فإنه في أصح القولين (ما) بمعني الذي، والمراد به: ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالي :{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95- 96] أي: والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقاً للتأليف، كان خالقاً لأفعالهم.
والمقصود أن لفظ [الفعل] و[العمل] و[الصنع] أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلي المفعول، وكذلك لفظ:[التلاوة] و[القراءة] و[الكلام] و[القول] يقع على نفس مسمي المصدر وعلي ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقروء المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.
والمقصود هنا أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد؛ فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعني المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق.
ثم من هؤلاء من قال: إنه ليس لله فعل يقوم به، فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه.
وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون: هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضاً مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالي بين الفعل والمفعول إذا قال: إنها فعل الله تعالي وليس لمسمي فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولي، وبعض هؤلاء قال: هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولاً بين فاعلين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.