سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم
ابن تيمية
- التصنيفات: فتاوى وأحكام -
السؤال: سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم
الإجابة: سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيميةة قدس الله روحه عما قاله أبو حامد
الغزالي في كتابه المعروف بـ [منهاج العابدين] في زاد الآخرة من
العقبة الرابعة: وهي العوارض، بعد كلام تقدم في التوكل بأن الرزق
مضمون قال: فإن قيل: هل يلزم العبد طلب الرزق بحال، فاعلم أن
الرزق المضمون، هو الغذاء والقوام، فلا يمكن طلبه إذ هو شيء من فعل
الله بالعبد كالحياة والموت، لا يقدر العبد على تحصيله ولا
دفعه.
وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله.
وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، المراد به العلم والثواب وقيل: بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر، فيكون بمعنى الإباحة، لا بمعنى الإيجاب والإلزام.
فإن قيل: لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب؟ قيل: لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب؟ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له؟ فلا يصح تكليفه، فتأمل راشدًا فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد.
فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره؟ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله.
فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد؟ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم.
والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله.
والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8- 9]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2- 3]، والتقوى تجمع فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.
ويروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" .
ولهذا قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط.
يقول: إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال .
والمقصود: أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض.
وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه.
كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول . وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [نوح: 3].
وكذلك قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وأمثال ذلك.
وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقول شعيب: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله فضلاً أن يكون من خواص أوليائه المتقين إلا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل.
وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله.
وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة، هي من القدر، فقيل له .
فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، وفي سنن أبي داود: أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم .
وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس.
وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في "كتاب التوكل" وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حكى لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال، بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب.
وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله.
وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام.
ومن هذا الباب: الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة.
وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول: هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ؟ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فـلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ.
ولو قال القائل: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال: أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.
وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله.
وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، المراد به العلم والثواب وقيل: بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر، فيكون بمعنى الإباحة، لا بمعنى الإيجاب والإلزام.
فإن قيل: لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب؟ قيل: لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب؟ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له؟ فلا يصح تكليفه، فتأمل راشدًا فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد.
فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره؟ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله.
فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد؟ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم.
والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله.
والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8- 9]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2- 3]، والتقوى تجمع فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.
ويروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" .
ولهذا قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط.
يقول: إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال .
والمقصود: أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضى ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضى الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض.
وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه.
كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول . وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [نوح: 3].
وكذلك قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وأمثال ذلك.
وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقول شعيب: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله فضلاً أن يكون من خواص أوليائه المتقين إلا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل.
وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله.
وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة، هي من القدر، فقيل له .
فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، وفي سنن أبي داود: أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم .
وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس.
وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في "كتاب التوكل" وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حكى لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال، بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب.
وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله.
وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام.
ومن هذا الباب: الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة.
وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول: هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ؟ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فـلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ.
ولو قال القائل: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال: أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثامن.