هل أتِّبع المذهب الشافعي أم الحنبلي في صلاة الظهر؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الصلاة -
السؤال: في بدلتنا قوم يدعون أنهم شافعية ويصلون الظهر بعد صلاة الجمعة،
وعندنا قوم يدعون أنه حنابلة ينكرون عليهم هذه الصلاة ويقولون أن
الفرض هو صلاة الجمعة فقط، فأي المذهبين أتبع؟
الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
ثم أما بعد:
فإن ما يفعله المسلمون في (سوريا وغيرها) من صلاة الظهر بعد الجمعة لا دليل عليه، وهو خلاف السنة، ولا ينبغي العمل به؛ وإن كان هو مذهب متأخّرة الشافعية -رحمهم الله- ويحتجّون بمقولة: "الجمعة لمن سبق"، وهو من كلام لبعض علمائهم.
والأصل أن المسألة مبنيةٌ على جواز تعدّد الجمعة في المصر الواحد؛ فيقولون: "يجب على المتأخّر صلاة الظهر، وإذا شكّ في تعيين الأسبق، وجب الإعادة على الجميع، وإذا عُلم اتفاقهم في تكبيرة الإحرام؛ فالواجب إعادة الجمعة على الجميع، إذا بقي وقتٌ يسع للإعادة، ومن سبق بالإعادة صحّت جمعته، ووجب على الآخرين الظّهر"، وقال بهذا القول -أيضاً- بعض الحنفيّة، على وجه الاحتياط، لا على سبيل الوجوب، كما في: "ردّ المحتار" لابن عابدين.
ولا شكّ أن كلّ هذا لم يقم عليه دليلٌ من كتابٍ ولا سنّةٍ، ولا إجماعٍ ولا قياسٍ صحيح؛ فإن الأصل في الجمعة أن تكون في مسجدٍ واحد، ولا يجوز تعدّد الجمعة لغير حاجة، والذي عليه المذاهب الأربعة -الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة- وغيرهم: أنه يجوز أن تتعدّد الجمع إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
قال الكاساني -الحنفيّ- في "بدائع الصنائع": "الجمعة تجوز في موضعين في ظاهر الرواية، وعليه الاعتماد، أنه تجوز في موضعين، ولا تجوز في أكثر من ذلك ... ولأنّ الحرج يندفع عند كثرة الزحام بموضعين غالباً، فلا يجوز أكثر من ذلك، وما روي عن محمد من الإطلاق في ثلاثة مواضع؛ محمولٌ على موضع الحاجة والضرورة".أ.هـ.
ولكنّ مُعتمَدَ مذهب الحنفيّة هو ما ذكره ابن عابدين -رحمه الله- في (ردّ المحتار)؛ حيث قال: "وتؤدّى في مصرٍ واحدٍ بمواضع كثيرةٍ، مطلقاً على المذهب، وعليه الفتوى"، وبيّن -رحمه الله-: أن ما في: "البدائع" قولٌ مرجوحٌ في المذهب، وإن كان غير ضعيف".أ.هـ.
قال الدّرديريّ -المالكي- في: "الشرح الكبير": "والجمعة للعتيق؛ أي: ما أقيمت فيه أوّلاً، ولو تأخّر بناؤه، وإن تأخّر العتيق أداءً؛ بأن أقيمت فيهما، وفرغوا من صلاتها في الجديد قبل جماعة العتيق؛ فهي في الجديد باطلة، ومحلّ بطلانها في الجديد ما لم يهجر العتيق، وما لم يحكم حاكمٌ بصحّتها في الجديد، تبعاً لحكمه بصحّة عتق عبدٍ معيّن - مثلاً - علّق على صحّة الجمعة فيه، وما لم يحتاجوا للجديد لضيق العتيق، وعدم إمكان توسعته".أ.هـ.
وقال النووي -الشافعيّ- في "المجموع": "والصّحيح هو الوجه الأول، وهو الجواز في موضعين وأكثر، بحسب الحاجة وعسر الاجتماع؛ قال إمام الحرمين: طرق الأصحاب متّفقةٌ على جواز الزيادة على جمعةٍ ببغداد، واختلفوا في تعليله"، ثم قال: "وهذا الوجه هو الصحيح، وبه قال أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق المروزىّ، قال الرافعيّ: واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً، وممّن رجّحه: ابن كجٍّ، والحناطي، والقاضي أبو الطيب في كتابه: "المجرّد"، والرّوياني، والغزالي .. وآخرون. قال الماوردي: وهو اختيار المزنيّ، ودليله قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ} [الحج: 78]".أ.هـ.
وقال المرداويّ -الحنبلي- في "الإنصاف": "لا يجوز إقامتها في أكثر من موضعٍ واحدٍ، إذا لم يكن حاجةٌ، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب".أ.هـ.
وقال البهوتي -الحنبلي- في "كشّاف القناع": "ولا يكره لمن فاتته الجمعة صلاة ظهرٍ جماعةً، وكذا لو تعدّدت الجمعة".أ.هـ.
وبالجملة: فمذهب المالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة، والرواية الرّاجحة عند الحنفيّة: جواز إقامة أكثر من جمعةٍ عند الحاجة، وقد سبق ذكر نصوص الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة، ومما سبق يتبين أنه: إن دعت الحاجة إلى الصلاة في مسجدين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر؛ فلا بأس بذلك للحاجة.
وعليه: فمادام القول بجواز أكثر من جمعة عند الحاجة هو المعتمد والأقوى في مذاهب أهل العلم المعتمدة؛ فلا معنى لإعادة الظّهر بعدها؛ فهو من الأمور المبتدعة، ومن المقرّر في الشريعة الإسلامية: "إن كلّ عبادةٍ لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أمر بها، ولا أقرّها؛ فهي من البدع المنكرة"، قال العلامة (رشيد رضا) في مجلة "المنار": "الذي أعتقده: أن ما يفعله من يسمّون أنفسهم (شافعيّة) من صلاة الجمعة في مساجد الأمصار، وإتباعها فيها بصلاة الظهر، يقيمونها جماعةً بعدها، زاعمين أن الله أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقتٍ واحدٍ هو بدعةٌ. وقولهم: "الجمعة لمن سبق" ليس بحديثٍ نبويٍّ يجب العمل به؛ وإنما هو عبارةٌ اجتهاديةٌ من فقه الشافعيّة، مبنيّةٌ على عدم جواز تعدّد الجمعة إذا أمكن التّجميع في مسجدٍ واحد، فإن خالفوا وعدّدوا؛ صحّت جمعة من سبق منهم، وكانت جمعة الآخرين باطلة، فإن جهل السابق؛ وجب على جميع المسلمين صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وهذا ما يفعلونه الآن في جميع مساجد مصر وغيرها، معتقدين أن هذا مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- وأن الواجب على كل من يوصف بأنه (شافعيٌّ) أن يفعله، وإلا كان عاصياً لله تعالى!! وإن هذا لحوابٌ كبير، لو كان الشافعيّ حيّاً لأنكره وتبرّأ منه، وإن كان يعتقد أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ واجبٌ؛ فهذا الاعتقاد لا يستلزم ما ذكر. وفي هذه المسألة مباحثٌ اجتهاديةٌ، منها: أنه لا يقوم دليلٌ شرعيٌّ على أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ شرطٌ لصحّة الجمعة، قلّ الناس أو كثروا، وإن عسر ذلك عليهم، بأن كانوا في مدينة كـ (القاهرة)، يزيد أهلها على ألف ألف نسمة، ومساحتها عدّة أميال، وأما (تجميع) المسلمين في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه؛ فقد كان واجباً قطعاً؛ بحيث تعدّ جمعة من خالفه باطلةٌ من أصلها، لا يجوز الشّروع فيها مطلقاً؛ فقد كانت جمعته -صلى الله عليه وسلم- بمن معه هي الصحيحة وحدها، وإن فرضنا أنها تأخّرت. وكذلك حكم (التّجميع) مع خلفائه وغيرهم من أئمة المسلمين. فإذا جمّع الإمام بالمسلمين في مسجدٍ واحد، لإمكان ذلك بدون عسرٍ ولا مشقّةٍ شديدة؛ وجب اتّباعه والتّجميع معه، وحرم مخالفته بالتّجميع في مسجدٍ آخر بدون إذنه؛ لأنه شقاقٌ بين المسلمين، ومعصيةٌ للإمام الواجب اتّباعه في الطاعة.
وأما إذا كبرت الأمصار، وأذن الأئمة بتعدّد المساجد، وتعدّد التّجميع فيها؛ فلا يعدّ المعدّدون مشاقّين ولا مفرّقين بين المسلمين، ولا عاصين لأئمتهم؛ بل متّبعين لهم في مسألةٍ اجتهاديةٍ تجب طاعتهم فيها؛ إذ لا دليل -قطعيّ- على أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ فرضٌ مطلوبٌ لذاته، وأنه شرطٌ لانعقاد صلاة الجمعة، والشّرط أخصّ من الواجب المطلق؛ فلا يثبت إلا بدليلٍ خاصٍّ. ومنها: أن اليسر في الدين ورفع الحرج منه، قاعدتان أساسيّتان من قواعده، ثابتتان بنصّ القرآن القطعي؛ فلا مجال فيها لاجتهاد أحد، وهي تقتضي وجوب تعدّد الجمعة لا جوازه فقط؛ ومن المأثور عن الإمام الشافعي قوله -بناءً على هذه القاعدة-: "إذا ضاق الأمر؛ اتّسع!!"، ومنها: أن من شروط صحّة الصلاة: (صحّة النيّة)، ومن شروطها (الجزم بالمنويّ)، فمن كان يشكّ في صحة جمعته؛ لا تنعقد بإحرامه بها، ويكون عاصياً لله تعالى بشروعه فيها؛ لأنها عبادةٌ فاسدةٌ. فإن قيل: إن الأصل عند أهل كلّ مسجدٍ من مساجد الجمعة أن جمعتهم صحيحة؛ لعدم علمهم بسبق أحدٍ لهم في جمعتهم؛ وإنما تجب صلاة الظهر بعدها (احتياطاً)؛ لاحتمال سبق غيرهم لهم. قلنا: إن احتمال سبق غيرهم كافٍ في حصول الشكّ المبطل لصحّة النيّة، وقد يرتقي في بعض المساجد إلى الظنّ الرّاجح لأهلها بسبق غيرهم، فقد علم بالاختبار والتجارب: أن بعض أئمة الجمعة يطيلون الخطبة، وبعضهم يقصّرونها، حتى إن أهل هذه ينصرفون من صلاتهم، ويمرون بالأخرى؛ فيرون أنهم لم يشرعوا فيها بالصلاة أو لم ينتهوا منها! ومن المصلّين من يتحرّى هذه، ومنهم من يتحرّى تلك! ومنها: أن من علم أنه يمكنه السّبق - والحال ما ذكر؛ وجب عليه، وذلك بأن يؤذّن المؤذّن عند الزّوال بدون تطويل، ويلقي الإمام خطبةً مختصرةً، يقتصر فيها على الأركان الواجبة؛ من حمد الله تعالى، والشّهادتين، والأمر بالتقوى، وقراءة آية أو آيتين؛ كقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً} [الأحزاب : 70] وما بعدها، والدعاء للمؤمنين في الثانية بالمغفرة، ثم يصلي؛ فيقرأ في الركعة الأولى سورة (العصر) أو (الكوثر)، وفي الثانية (الإخلاص)! ولم يقل أحدٌ بوجوب مثل هذا، ولا فعله أحدٌ!!
ومنها: أن الاحتياط في مسألةٍ اجتهاديةٍ كهذه لا يصحّ أن يكون بإيجاب الجمع بين فريضتين من شعائر الإسلام جهراً في المساجد بصفةٍ دائمةٍ، فإن مثل هذا لا يثبت في الدّين إلا بنصٍّ قطعيّ الرواية والدلالة، لا يصحّ فيه الخلاف بالاجتهاد، والمعروف عن جمهور من يسمّون أنفسهم (شافعيّة) أنهم يعتقدون أن الله تعالى فرض عليهم يوم الجمعة، في هذه الأمصار المتعددة المساجد، أن يصلوا فيها فريضتين، كلّ منهما صحيحة؛ لأنهم شافعية!! أخشى أن يكون هذا من الافتراء على الله، والقول عليه بغير علم؛ فإن المسائل الاجتهادية لا تسمّى علماً بإجماع المجتهدين.
ومنها: أن هؤلاء الذين يدّعون التعبّد بمذهب الإمام الشافعي؛ قلّما يوجد في دارسي كتب هذا المذهب منهم من يعرفه، وإنما هم عوامٌّ، والعاميّ لا مذهب له، وهم كغيرهم، قلّما يحفظون من فروع المذاهب إلا ما فيه الخلاف بينهم وتفريق كلمتهم، ولا شيء أضرّ على المسلمين بعد الكفر من الشّقاق والتفرّق، ولو كانت لهم دولةٌ إسلاميةٌ؛ لأزالت هذا الشّقاق بما يجمع الكلمة، ولو في الشعائر الظاهرة فقط.
وأرى أن إزالة هذا التفرّق ممكنٌ بسرعة إذا اقتنع به جمهور علماء الشافعيّة، على أنه سيزول بانتشار أنصار السّنة، والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم فاعلون إن شاء الله تعالى".أ.هـ، هذا؛ والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع الآلوكة.
فإن ما يفعله المسلمون في (سوريا وغيرها) من صلاة الظهر بعد الجمعة لا دليل عليه، وهو خلاف السنة، ولا ينبغي العمل به؛ وإن كان هو مذهب متأخّرة الشافعية -رحمهم الله- ويحتجّون بمقولة: "الجمعة لمن سبق"، وهو من كلام لبعض علمائهم.
والأصل أن المسألة مبنيةٌ على جواز تعدّد الجمعة في المصر الواحد؛ فيقولون: "يجب على المتأخّر صلاة الظهر، وإذا شكّ في تعيين الأسبق، وجب الإعادة على الجميع، وإذا عُلم اتفاقهم في تكبيرة الإحرام؛ فالواجب إعادة الجمعة على الجميع، إذا بقي وقتٌ يسع للإعادة، ومن سبق بالإعادة صحّت جمعته، ووجب على الآخرين الظّهر"، وقال بهذا القول -أيضاً- بعض الحنفيّة، على وجه الاحتياط، لا على سبيل الوجوب، كما في: "ردّ المحتار" لابن عابدين.
ولا شكّ أن كلّ هذا لم يقم عليه دليلٌ من كتابٍ ولا سنّةٍ، ولا إجماعٍ ولا قياسٍ صحيح؛ فإن الأصل في الجمعة أن تكون في مسجدٍ واحد، ولا يجوز تعدّد الجمعة لغير حاجة، والذي عليه المذاهب الأربعة -الحنفيّة، والمالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة- وغيرهم: أنه يجوز أن تتعدّد الجمع إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
قال الكاساني -الحنفيّ- في "بدائع الصنائع": "الجمعة تجوز في موضعين في ظاهر الرواية، وعليه الاعتماد، أنه تجوز في موضعين، ولا تجوز في أكثر من ذلك ... ولأنّ الحرج يندفع عند كثرة الزحام بموضعين غالباً، فلا يجوز أكثر من ذلك، وما روي عن محمد من الإطلاق في ثلاثة مواضع؛ محمولٌ على موضع الحاجة والضرورة".أ.هـ.
ولكنّ مُعتمَدَ مذهب الحنفيّة هو ما ذكره ابن عابدين -رحمه الله- في (ردّ المحتار)؛ حيث قال: "وتؤدّى في مصرٍ واحدٍ بمواضع كثيرةٍ، مطلقاً على المذهب، وعليه الفتوى"، وبيّن -رحمه الله-: أن ما في: "البدائع" قولٌ مرجوحٌ في المذهب، وإن كان غير ضعيف".أ.هـ.
قال الدّرديريّ -المالكي- في: "الشرح الكبير": "والجمعة للعتيق؛ أي: ما أقيمت فيه أوّلاً، ولو تأخّر بناؤه، وإن تأخّر العتيق أداءً؛ بأن أقيمت فيهما، وفرغوا من صلاتها في الجديد قبل جماعة العتيق؛ فهي في الجديد باطلة، ومحلّ بطلانها في الجديد ما لم يهجر العتيق، وما لم يحكم حاكمٌ بصحّتها في الجديد، تبعاً لحكمه بصحّة عتق عبدٍ معيّن - مثلاً - علّق على صحّة الجمعة فيه، وما لم يحتاجوا للجديد لضيق العتيق، وعدم إمكان توسعته".أ.هـ.
وقال النووي -الشافعيّ- في "المجموع": "والصّحيح هو الوجه الأول، وهو الجواز في موضعين وأكثر، بحسب الحاجة وعسر الاجتماع؛ قال إمام الحرمين: طرق الأصحاب متّفقةٌ على جواز الزيادة على جمعةٍ ببغداد، واختلفوا في تعليله"، ثم قال: "وهذا الوجه هو الصحيح، وبه قال أبو العباس بن سريج، وأبو إسحاق المروزىّ، قال الرافعيّ: واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً، وممّن رجّحه: ابن كجٍّ، والحناطي، والقاضي أبو الطيب في كتابه: "المجرّد"، والرّوياني، والغزالي .. وآخرون. قال الماوردي: وهو اختيار المزنيّ، ودليله قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ} [الحج: 78]".أ.هـ.
وقال المرداويّ -الحنبلي- في "الإنصاف": "لا يجوز إقامتها في أكثر من موضعٍ واحدٍ، إذا لم يكن حاجةٌ، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب".أ.هـ.
وقال البهوتي -الحنبلي- في "كشّاف القناع": "ولا يكره لمن فاتته الجمعة صلاة ظهرٍ جماعةً، وكذا لو تعدّدت الجمعة".أ.هـ.
وبالجملة: فمذهب المالكيّة، والشافعيّة، والحنابلة، والرواية الرّاجحة عند الحنفيّة: جواز إقامة أكثر من جمعةٍ عند الحاجة، وقد سبق ذكر نصوص الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة، ومما سبق يتبين أنه: إن دعت الحاجة إلى الصلاة في مسجدين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر؛ فلا بأس بذلك للحاجة.
وعليه: فمادام القول بجواز أكثر من جمعة عند الحاجة هو المعتمد والأقوى في مذاهب أهل العلم المعتمدة؛ فلا معنى لإعادة الظّهر بعدها؛ فهو من الأمور المبتدعة، ومن المقرّر في الشريعة الإسلامية: "إن كلّ عبادةٍ لم يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أمر بها، ولا أقرّها؛ فهي من البدع المنكرة"، قال العلامة (رشيد رضا) في مجلة "المنار": "الذي أعتقده: أن ما يفعله من يسمّون أنفسهم (شافعيّة) من صلاة الجمعة في مساجد الأمصار، وإتباعها فيها بصلاة الظهر، يقيمونها جماعةً بعدها، زاعمين أن الله أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقتٍ واحدٍ هو بدعةٌ. وقولهم: "الجمعة لمن سبق" ليس بحديثٍ نبويٍّ يجب العمل به؛ وإنما هو عبارةٌ اجتهاديةٌ من فقه الشافعيّة، مبنيّةٌ على عدم جواز تعدّد الجمعة إذا أمكن التّجميع في مسجدٍ واحد، فإن خالفوا وعدّدوا؛ صحّت جمعة من سبق منهم، وكانت جمعة الآخرين باطلة، فإن جهل السابق؛ وجب على جميع المسلمين صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وهذا ما يفعلونه الآن في جميع مساجد مصر وغيرها، معتقدين أن هذا مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- وأن الواجب على كل من يوصف بأنه (شافعيٌّ) أن يفعله، وإلا كان عاصياً لله تعالى!! وإن هذا لحوابٌ كبير، لو كان الشافعيّ حيّاً لأنكره وتبرّأ منه، وإن كان يعتقد أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ واجبٌ؛ فهذا الاعتقاد لا يستلزم ما ذكر. وفي هذه المسألة مباحثٌ اجتهاديةٌ، منها: أنه لا يقوم دليلٌ شرعيٌّ على أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ شرطٌ لصحّة الجمعة، قلّ الناس أو كثروا، وإن عسر ذلك عليهم، بأن كانوا في مدينة كـ (القاهرة)، يزيد أهلها على ألف ألف نسمة، ومساحتها عدّة أميال، وأما (تجميع) المسلمين في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه؛ فقد كان واجباً قطعاً؛ بحيث تعدّ جمعة من خالفه باطلةٌ من أصلها، لا يجوز الشّروع فيها مطلقاً؛ فقد كانت جمعته -صلى الله عليه وسلم- بمن معه هي الصحيحة وحدها، وإن فرضنا أنها تأخّرت. وكذلك حكم (التّجميع) مع خلفائه وغيرهم من أئمة المسلمين. فإذا جمّع الإمام بالمسلمين في مسجدٍ واحد، لإمكان ذلك بدون عسرٍ ولا مشقّةٍ شديدة؛ وجب اتّباعه والتّجميع معه، وحرم مخالفته بالتّجميع في مسجدٍ آخر بدون إذنه؛ لأنه شقاقٌ بين المسلمين، ومعصيةٌ للإمام الواجب اتّباعه في الطاعة.
وأما إذا كبرت الأمصار، وأذن الأئمة بتعدّد المساجد، وتعدّد التّجميع فيها؛ فلا يعدّ المعدّدون مشاقّين ولا مفرّقين بين المسلمين، ولا عاصين لأئمتهم؛ بل متّبعين لهم في مسألةٍ اجتهاديةٍ تجب طاعتهم فيها؛ إذ لا دليل -قطعيّ- على أن التّجميع في مسجدٍ واحدٍ فرضٌ مطلوبٌ لذاته، وأنه شرطٌ لانعقاد صلاة الجمعة، والشّرط أخصّ من الواجب المطلق؛ فلا يثبت إلا بدليلٍ خاصٍّ. ومنها: أن اليسر في الدين ورفع الحرج منه، قاعدتان أساسيّتان من قواعده، ثابتتان بنصّ القرآن القطعي؛ فلا مجال فيها لاجتهاد أحد، وهي تقتضي وجوب تعدّد الجمعة لا جوازه فقط؛ ومن المأثور عن الإمام الشافعي قوله -بناءً على هذه القاعدة-: "إذا ضاق الأمر؛ اتّسع!!"، ومنها: أن من شروط صحّة الصلاة: (صحّة النيّة)، ومن شروطها (الجزم بالمنويّ)، فمن كان يشكّ في صحة جمعته؛ لا تنعقد بإحرامه بها، ويكون عاصياً لله تعالى بشروعه فيها؛ لأنها عبادةٌ فاسدةٌ. فإن قيل: إن الأصل عند أهل كلّ مسجدٍ من مساجد الجمعة أن جمعتهم صحيحة؛ لعدم علمهم بسبق أحدٍ لهم في جمعتهم؛ وإنما تجب صلاة الظهر بعدها (احتياطاً)؛ لاحتمال سبق غيرهم لهم. قلنا: إن احتمال سبق غيرهم كافٍ في حصول الشكّ المبطل لصحّة النيّة، وقد يرتقي في بعض المساجد إلى الظنّ الرّاجح لأهلها بسبق غيرهم، فقد علم بالاختبار والتجارب: أن بعض أئمة الجمعة يطيلون الخطبة، وبعضهم يقصّرونها، حتى إن أهل هذه ينصرفون من صلاتهم، ويمرون بالأخرى؛ فيرون أنهم لم يشرعوا فيها بالصلاة أو لم ينتهوا منها! ومن المصلّين من يتحرّى هذه، ومنهم من يتحرّى تلك! ومنها: أن من علم أنه يمكنه السّبق - والحال ما ذكر؛ وجب عليه، وذلك بأن يؤذّن المؤذّن عند الزّوال بدون تطويل، ويلقي الإمام خطبةً مختصرةً، يقتصر فيها على الأركان الواجبة؛ من حمد الله تعالى، والشّهادتين، والأمر بالتقوى، وقراءة آية أو آيتين؛ كقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً} [الأحزاب : 70] وما بعدها، والدعاء للمؤمنين في الثانية بالمغفرة، ثم يصلي؛ فيقرأ في الركعة الأولى سورة (العصر) أو (الكوثر)، وفي الثانية (الإخلاص)! ولم يقل أحدٌ بوجوب مثل هذا، ولا فعله أحدٌ!!
ومنها: أن الاحتياط في مسألةٍ اجتهاديةٍ كهذه لا يصحّ أن يكون بإيجاب الجمع بين فريضتين من شعائر الإسلام جهراً في المساجد بصفةٍ دائمةٍ، فإن مثل هذا لا يثبت في الدّين إلا بنصٍّ قطعيّ الرواية والدلالة، لا يصحّ فيه الخلاف بالاجتهاد، والمعروف عن جمهور من يسمّون أنفسهم (شافعيّة) أنهم يعتقدون أن الله تعالى فرض عليهم يوم الجمعة، في هذه الأمصار المتعددة المساجد، أن يصلوا فيها فريضتين، كلّ منهما صحيحة؛ لأنهم شافعية!! أخشى أن يكون هذا من الافتراء على الله، والقول عليه بغير علم؛ فإن المسائل الاجتهادية لا تسمّى علماً بإجماع المجتهدين.
ومنها: أن هؤلاء الذين يدّعون التعبّد بمذهب الإمام الشافعي؛ قلّما يوجد في دارسي كتب هذا المذهب منهم من يعرفه، وإنما هم عوامٌّ، والعاميّ لا مذهب له، وهم كغيرهم، قلّما يحفظون من فروع المذاهب إلا ما فيه الخلاف بينهم وتفريق كلمتهم، ولا شيء أضرّ على المسلمين بعد الكفر من الشّقاق والتفرّق، ولو كانت لهم دولةٌ إسلاميةٌ؛ لأزالت هذا الشّقاق بما يجمع الكلمة، ولو في الشعائر الظاهرة فقط.
وأرى أن إزالة هذا التفرّق ممكنٌ بسرعة إذا اقتنع به جمهور علماء الشافعيّة، على أنه سيزول بانتشار أنصار السّنة، والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم فاعلون إن شاء الله تعالى".أ.هـ، هذا؛ والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن موقع الآلوكة.