فصل في تزكية النفس
ابن تيمية
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
السؤال: فصل في تزكية النفس
الإجابة: فَصْل:
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، و{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال.
وقال الفراء والزجاج: قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه.
وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع.
وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى.
أما اللفظ فقوله: من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد على {مّن} فإذا قيل: قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على{مّن}،، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال: قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه.
وأما إذا كان المعنى: قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على {مّن} فإن الضمير على هذا يعود على اللّه، وليس هو {مّن} وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على {مّن} لا ضمير الفاعل، ولا المفعول.
فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز.
نعم، لو قيل: قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب. وهو لم يقل: قد أفلحت نفس زكاها. فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، فالجملة صلة لـ {مّن} لا صفة لها.
ولا قال أيضًا: قد أفلحـت النفس التي زكـاها، فإنـه لـو قيـل ذلك، وجعـل في {زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا: التقدير {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هي النفس التي زكاها، وقالوا: في زكى ضمير المفعول يعود على {مَنْ} وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل: {قّدً أّفًلّح} ولم يقل: قد أفلحت، قيل لهم: هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن. .. على أن المراد لنا، وكذا قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، ونحو ذلك.
وأما هنا فليس في لفظ {مَنْ}، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير{زَكَّاهَا} إلى نفس وإلى {مَنْ}، مع أن لفظ {مَنْ} لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني؟! فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور.
ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب.
والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول: من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه؟! ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم.
كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى} الآية [النور: 21]، فهذا مناسب.
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى.
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} الآية [النور: 30]، وقال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}[النور: 28]، وقال: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]، وقال: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس: 7].
وأصل الزكاة الزيادة في الخير.
ومنه يقال: زكا الزرع، وزكا المال إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتى يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها.
قال الزجاج:{دّسَّاهّا} جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء: دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة: أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان.
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، و{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال.
وقال الفراء والزجاج: قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه.
وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع.
وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى.
أما اللفظ فقوله: من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد على {مّن} فإذا قيل: قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على{مّن}،، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال: قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه.
وأما إذا كان المعنى: قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على {مّن} فإن الضمير على هذا يعود على اللّه، وليس هو {مّن} وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على {مّن} لا ضمير الفاعل، ولا المفعول.
فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز.
نعم، لو قيل: قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب. وهو لم يقل: قد أفلحت نفس زكاها. فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، فالجملة صلة لـ {مّن} لا صفة لها.
ولا قال أيضًا: قد أفلحـت النفس التي زكـاها، فإنـه لـو قيـل ذلك، وجعـل في {زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا: التقدير {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} هي النفس التي زكاها، وقالوا: في زكى ضمير المفعول يعود على {مَنْ} وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل: {قّدً أّفًلّح} ولم يقل: قد أفلحت، قيل لهم: هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن. .. على أن المراد لنا، وكذا قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، ونحو ذلك.
وأما هنا فليس في لفظ {مَنْ}، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير{زَكَّاهَا} إلى نفس وإلى {مَنْ}، مع أن لفظ {مَنْ} لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني؟! فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور.
ولبسط هذا موضع آخر.
والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب.
والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول: من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه؟! ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم.
كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى} الآية [النور: 21]، فهذا مناسب.
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى.
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} الآية [النور: 30]، وقال: {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}[النور: 28]، وقال: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]، وقال: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس: 7].
وأصل الزكاة الزيادة في الخير.
ومنه يقال: زكا الزرع، وزكا المال إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتى يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها.
قال الزجاج:{دّسَّاهّا} جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء: دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة: أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان.
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال