فصل في التكليف الشرعي
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصل في التكليف الشرعي
الإجابة: فَصْـــل:
الأمر والنهي، الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائماً والصوم، وغير ذلك على من يعجز عنه.
سواء قيل: يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في الشريعة، بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم، والقدرة تخفيفاً عنه، وضبطاً لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكناً، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه، ولأن العقل يظهر في الناس شيئاً فشيئاً، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زاداً وراحلة عند جمهور العلماء، مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفاً عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء، وإن كان فعلها ممكناً.
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع، فقد يوجب اللّه في شريعة ما يشق، ويحرم ما يشق تحريمه، كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}[البقرة: 286]، وكما قال اللّه تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النساء: 28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الأعرابي ، وقال لمعاذ وأبي موسى ، وقال ، وقال ، وقال ، وقال ، وقال ، وروى عنه أنه قال .
وأما كون الإنسان مريداً لما أمر به، أو كارهاً له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أمر عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه.
والإرادة: هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 18- 19]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} [القصص: 83]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية [هود: 15]، وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، ونظائره كثيرة.
فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة، وكلام العلماء والعارفين، وليس الغرض هنا تقريرها.
وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطاً بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول: كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة، وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك، أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السكر يقتضي ذلك، بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم، كالإغماء لمرض، أو خوف، أو سكر بشرب غير محرم، مثل أن يجرع الخمر مكرهاً، فإن هذا لا إثم عليه.
وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد، وعند من يقول: يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي، ولا إثم عليهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال .
وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه، حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال اللّه تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 173].
فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات، بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي، وأحمد أنه لا يترخص.
فالأحوال التي ترد على العباد، وأهل المعرفة والزهاد، ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه، حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز، أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره، فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات، وقد يوجب وقوعه في محرمات.
فهؤلاء يقال فيهم: إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم، فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات، ويفعلونه من المحرمات، ولا يجوز أيضاً إتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم، ولا نذمهم على ذلك، بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من الأقوال والأعمال، ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع، كما يقال في المجتهد المخطئ سواء، بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس، حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم، استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
مثال الأول: من يسمع القرآن على الوجه المشروع، فهاج له وجد يحبه، أو مخافة أو رجاء، فضعف عن حمله حتى مات، أو صعق، أو صاح صياحاً عظيماً، أو اضطرب اضطراباً كثيراً، فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة، أو تعدي على بعض الناس، فإن هذا معذور في ذلك، فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين، الذين حصل لهم الجنون، مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة، إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم، وإما لضعف قلوبهم عن حمله، وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط، وإما لعارض من الجن، فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي، حيث سئل عنهم، فقال: هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولاً وأحوالاً، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجوداً في التابعين ومن بعدهم، لا سيما في عباد البصريين، فإن فيهم من مات من سماع القرآن، كزرارة بن أوفى، وأبي جهير الضرير و غيرهما.
وأما الصحابة، فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق، ومن هؤلاء أيضاً من غلب عليه الذكر للّه، والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه، كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه، فيقول أحدهم في هذه الحال.
أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه.
ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة، حتى قال: أبسط سجادتي على جهنم.
فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله، وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعاً: فلا إثم عليه.
ومثال الثاني: ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع، فإنه قد ينشد أشعاراً فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع، ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطاً، وزوال عقل، حتى يقتل بعضهم بعضاً، إما ظاهراً وإما باطناً بالهمة والقلوب، ويوجب أيضاً من ترك واجبات الشريعة، ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما اللّه به عليم.
وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالاً قوية قاهرة، يترك بها الواجبات، ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار، إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال.
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه، وعقله قال: كنت مغلوباً، وورد علي وارد فعل بي هذا، والحكم للوارد، وهذه حال كثير من خفراء العدو، وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة، ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال، ويقول: إنه مغلوب في ذلك، وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك، وأنه خوطب بذلك الفعل.
فيقال: أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر اللّه ونهيه، وزوال قدرتك حتى صرت مضطراً إلى تلك الأفعال، وإن كنت صادقاً في ذلك، فسببه تفريطك وعدوانك أولاً، حتى صرت في حال المجانين والسكارى، فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها، والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل؛ إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب، فإن هذا سكر الأجسام، وهذا سكر النفوس، وهذا سكر الأرواح، فإذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً في دين الإسلام.
ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر، كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور؛ ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال.
وأما قولك: إنك خوطبت بذلك، وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟ فالأولى مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} [الجمعة: 2]، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25].
والثانية مثل قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]، وقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5]، وقوله: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} [مريم: 83] فإن ذكرت أنه من الجهة الأولى، فباطل، بخلاف الكتاب والسنة.
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح، لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود، وسائر من أطاع الأوامر الكونية، وتبع الإرادة القدرية، وأعرض عن الأوامر الشرعية، ولم يقف عند الإرادة الدينية.
فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جداً، فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع، وانقسام أهلها إلى معذور وموزور، كانقسامها إلى مسطور على صاحبه، ومغفور، بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو، ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار، فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء، وأحوال المشايخ والفقراء، تشترك في هذه القاعدة الشريفة، وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله، بل ولا للصلاح، بل ولا للإيمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر، ومنافق، وفاسق، وعاصي، وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ففرق بين ولاية اللّه وبين الأحوال، كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك، وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء، وبين جنس الكلام، فبين هذين النوعين خصوص وعموم، فقد يكون الرجل ولياً للّه له حال تأثير وكشف، وقد يكون ولياً ليس له تلك الحال بكمالها، وقد يكون له شيء من هذه الأحوال، وليس ولياً للّه، كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً، وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً، وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء، وقد يكون عالماً ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء، وقد يكون عالماً متكلماً بكلام الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
الأمر والنهي، الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائماً والصوم، وغير ذلك على من يعجز عنه.
سواء قيل: يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في الشريعة، بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم، والقدرة تخفيفاً عنه، وضبطاً لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكناً، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه، ولأن العقل يظهر في الناس شيئاً فشيئاً، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زاداً وراحلة عند جمهور العلماء، مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفاً عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء، وإن كان فعلها ممكناً.
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع، فقد يوجب اللّه في شريعة ما يشق، ويحرم ما يشق تحريمه، كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}[البقرة: 286]، وكما قال اللّه تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النساء: 28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الأعرابي ، وقال لمعاذ وأبي موسى ، وقال ، وقال ، وقال ، وقال ، وقال ، وروى عنه أنه قال .
وأما كون الإنسان مريداً لما أمر به، أو كارهاً له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أمر عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه.
والإرادة: هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء: 18- 19]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} [القصص: 83]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية [هود: 15]، وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، ونظائره كثيرة.
فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة، وكلام العلماء والعارفين، وليس الغرض هنا تقريرها.
وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطاً بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول: كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة، وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك، أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السكر يقتضي ذلك، بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم، كالإغماء لمرض، أو خوف، أو سكر بشرب غير محرم، مثل أن يجرع الخمر مكرهاً، فإن هذا لا إثم عليه.
وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد، وعند من يقول: يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي، ولا إثم عليهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال .
وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه، حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال اللّه تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 173].
فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات، بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي، وأحمد أنه لا يترخص.
فالأحوال التي ترد على العباد، وأهل المعرفة والزهاد، ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه، حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز، أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره، فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات، وقد يوجب وقوعه في محرمات.
فهؤلاء يقال فيهم: إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم، فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات، ويفعلونه من المحرمات، ولا يجوز أيضاً إتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم، ولا نذمهم على ذلك، بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من الأقوال والأعمال، ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع، كما يقال في المجتهد المخطئ سواء، بل المجتهد المخطئ نوع مـن هذا الجنس، حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم، استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
مثال الأول: من يسمع القرآن على الوجه المشروع، فهاج له وجد يحبه، أو مخافة أو رجاء، فضعف عن حمله حتى مات، أو صعق، أو صاح صياحاً عظيماً، أو اضطرب اضطراباً كثيراً، فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة، أو تعدي على بعض الناس، فإن هذا معذور في ذلك، فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين، الذين حصل لهم الجنون، مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة، إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم، وإما لضعف قلوبهم عن حمله، وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط، وإما لعارض من الجن، فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي، حيث سئل عنهم، فقال: هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولاً وأحوالاً، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجوداً في التابعين ومن بعدهم، لا سيما في عباد البصريين، فإن فيهم من مات من سماع القرآن، كزرارة بن أوفى، وأبي جهير الضرير و غيرهما.
وأما الصحابة، فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق، ومن هؤلاء أيضاً من غلب عليه الذكر للّه، والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه، كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه، فيقول أحدهم في هذه الحال.
أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه.
ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة، حتى قال: أبسط سجادتي على جهنم.
فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله، وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعاً: فلا إثم عليه.
ومثال الثاني: ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع، فإنه قد ينشد أشعاراً فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع، ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطاً، وزوال عقل، حتى يقتل بعضهم بعضاً، إما ظاهراً وإما باطناً بالهمة والقلوب، ويوجب أيضاً من ترك واجبات الشريعة، ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما اللّه به عليم.
وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالاً قوية قاهرة، يترك بها الواجبات، ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار، إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال.
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه، وعقله قال: كنت مغلوباً، وورد علي وارد فعل بي هذا، والحكم للوارد، وهذه حال كثير من خفراء العدو، وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة، ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال، ويقول: إنه مغلوب في ذلك، وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك، وأنه خوطب بذلك الفعل.
فيقال: أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر اللّه ونهيه، وزوال قدرتك حتى صرت مضطراً إلى تلك الأفعال، وإن كنت صادقاً في ذلك، فسببه تفريطك وعدوانك أولاً، حتى صرت في حال المجانين والسكارى، فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها، والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل؛ إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب، فإن هذا سكر الأجسام، وهذا سكر النفوس، وهذا سكر الأرواح، فإذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً في دين الإسلام.
ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر، كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور؛ ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال.
وأما قولك: إنك خوطبت بذلك، وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟ فالأولى مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} [الجمعة: 2]، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25].
والثانية مثل قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16]، وقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5]، وقوله: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} [مريم: 83] فإن ذكرت أنه من الجهة الأولى، فباطل، بخلاف الكتاب والسنة.
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح، لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود، وسائر من أطاع الأوامر الكونية، وتبع الإرادة القدرية، وأعرض عن الأوامر الشرعية، ولم يقف عند الإرادة الدينية.
فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جداً، فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع، وانقسام أهلها إلى معذور وموزور، كانقسامها إلى مسطور على صاحبه، ومغفور، بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو، ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار، فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء، وأحوال المشايخ والفقراء، تشترك في هذه القاعدة الشريفة، وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله، بل ولا للصلاح، بل ولا للإيمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر، ومنافق، وفاسق، وعاصي، وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ففرق بين ولاية اللّه وبين الأحوال، كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك، وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء، وبين جنس الكلام، فبين هذين النوعين خصوص وعموم، فقد يكون الرجل ولياً للّه له حال تأثير وكشف، وقد يكون ولياً ليس له تلك الحال بكمالها، وقد يكون له شيء من هذه الأحوال، وليس ولياً للّه، كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً، وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً، وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء، وقد يكون عالماً ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء، وقد يكون عالماً متكلماً بكلام الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.