التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها

ابن تيمية

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها
الإجابة: والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر اللّه عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم اللّه تعالى، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي‏}‏‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله اللّه تعالى إلى قوم لوط‏.

‏‏ وقد قال تعالى في قصة شعيب‏:‏ ‏{‏‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏.‏ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏‏‏[‏الأعراف‏:‏ 88-89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏.‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏‏‏[‏إبراهيم‏:‏ 13- 14‏]‏‏.

‏‏ وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين‏.

‏‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 73‏]‏‏.

‏‏ وقد أخبر اللّه سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه أو من آخر ما نزل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ‏.‏ ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً‏}‏‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏، وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده "سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي‏"‏ يتأول القرآن‏"‏‏‏.

‏‏ وقد أنزل اللّه عليه قبل ذلك‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏"‏‏، وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مـرة‏"‏‏، وفي السنن عن ابن عـمر أنه قال‏:‏ كـنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول "رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور‏"‏‏ مائة مرة‏.

‏‏ وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول"اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني‏.‏ أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير‏"‏‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‏ " يا رسول اللّه، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ‏؟‏ قال‏:‏ ‏‏أقول‏:‏ اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد‏"‏‏‏.

‏‏ وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت"‏‏، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده "اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره‏"‏‏‏.‏

وفي السنن عن على، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد اللّه وقال‏:‏ ‏‏{‏‏سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏.‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13- 14‏]‏ ثم كبره وحمده ثم قال"سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏‏، ثم ضحك ‏!‏ وقال‏:‏ ‏‏إن الرب يعجب من عبده إذا قال‏:‏ اغفـر لي، فإنه لا يغفـر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا‏"‏‏‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ‏.‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏‏[‏الفتح‏:‏ 1- 2‏]‏، وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة "أن المسيح يقول‏:‏ اذهبوا إلى محمد عبد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏"‏‏، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له‏ "أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏أفلا أكون عبداً شكورا‏"‏‏‏.

‏‏ ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة‏.

‏‏ لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب‏.‏ وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه‏.

‏‏ كتأويلهم قوله‏:‏ ‏{‏‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن آدم قد تاب اللّه عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلاً عن عام الحديبية الذي أنزل اللّه فيه هذه السورة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ِوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏.‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏ 121-122‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏، وقد ذكر أنه قال‏:‏ ‏{‏‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.

‏‏ والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضاً، ومن قال‏:‏ إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن اللّه لا يجعل الذنب ذنباً لمن لم يفعله فإنه هو القائل‏:‏ ‏{‏‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم أو أمته أو غيرهما‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏، ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ المراد‏:‏ ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال"أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة‏.‏ أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا‏" وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوباً له‏.‏

فإن قال‏:‏ إن اللّه لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل‏:‏ وهو أيضاً لم يغفر ذنوب جميع أمته‏.

‏‏ الوجه الرابع‏:‏ أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏ فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنباً له‏.

‏‏ الوجه الخامس‏:‏ أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول اللّه هذا لك فما لنا‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله‏:‏ ‏{‏‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏ مختص به دون أمته‏.

‏‏ الوجه السادس‏:‏ أن اللّه لم يغفر ذنوب جميع أمته، بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا اللّه، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل‏.‏

فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول، لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.