القائلون بالتخليد

منذ 2007-09-24
السؤال: القائلون بالتخليد
الإجابة: وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين‏:‏ إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب‏.‏

ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه‏.‏

وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن رجلاً كان يسمى حماراً وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به مرة فقال رجل‏:‏ لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله‏".

‏‏ فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محباً للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطاً عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ذكر الخوارج فقال "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏"‏‏‏.

‏‏ وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.

‏‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق‏"‏‏‏.

‏‏ ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره‏:‏ إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها‏.

‏‏ ومعنى قولهم‏:‏ إن البدعة لا يتاب منها‏:‏ أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‏.

‏‏ فما دام يرى فعله حسناً وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب‏.

‏‏ ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏.‏ وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً‏.‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66ـ 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏.‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15- 16‏]‏‏.‏

وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‏.‏

وكذلك من أعرض عن إتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً‏}‏‏‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109-110‏]‏‏.‏ وهذا استفهام نفي وإنكار، أي‏:‏ وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ ‏[‏إنها‏]‏ بالكسر تكون جزماً بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها‏.

‏‏ وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقاً‏.‏ وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّاباً‏"‏‏، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏.‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏‏‏[‏الانفطار‏:‏ 13، 14‏]‏؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا‏:‏ قل لمن لا يصدق‏:‏ لا يتبعني‏.‏ ويقولون‏:‏ الصدق سيف اللّه في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره‏:‏ ما صدق اللّّه عبدٌ إلا صنع له‏.

‏‏ وأمثال هذا كثير‏.‏

والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن المظهرين للإسلام ينقسمون إلى‏:‏ مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14- 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}‏‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.

‏‏ فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ‏}‏‏‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ ما بعث اللّّه نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم اللّه من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً‏.‏

والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏النمل‏:‏ 6‏]‏، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها‏.

‏‏ وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ونحو ذلك في القرآن كثير‏.

‏‏ ومما ينبغي أن يعرف‏:‏ أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحـديث الصحـيح "كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏"‏‏‏.‏

ويقال‏:‏ حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك‏.

‏‏ ولهذا يريدون بالصادق‏:‏ الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذباً في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ‏}‏‏ الآيتين ‏[‏النساء‏:‏ 142- 143‏]‏‏.

‏‏ وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو‏:‏ الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ‏}‏‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏‏.‏

فمن لم يستسلم للّه فقد استكبر، ومن استسلم للّّه ولغيرة فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر‏.‏

ويستعمل لازماً ومتعدياً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏‏.}‏‏ وأمثال ذلك في القرآن كثير‏.‏

ولهذا كان رأس الإسلام ‏[‏شهادة أن لا إله إلا اللّه‏]‏، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏.‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏}‏‏‏[‏آل عمران‏:‏ 18- 19‏]‏‏.

‏‏ وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة‏:‏ هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها‏.‏

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده "الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب‏"‏‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم "الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏"‏‏، وعن أبي هريرة قال‏:‏ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.
  • 0
  • 0
  • 2,913

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً