فصل في اشتباه الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: فصل في اشتباه الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية
القدرية
الإجابة: فصــل:
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء: 116]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة: 165].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت" فأنزل الله تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الفرقان: 68- 70].
وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 83] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال: {كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا} وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر.
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائماً، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثاً ويقول: كما ثبـت ذلك في الحـديث الصـحيح عـنه، وقـد قـال تعـالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [ آل عمران: 17]، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار.
وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل : 20] وكذلك قال في الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 198- 199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة: 117- 118] وهي آخر ما نزل من القرآن.
وقد قيل: إن آخر سورة نزلت قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة النصر]، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: يتأول القرآن.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: .
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: .
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: .
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب: 72- 73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم.
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وهذا لا ينافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [ الحاقة : 24] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[ آل عمران: 133- 135]
. ومن ظن أن [القدر] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}قال الله تعالى رداً عليهم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 148- 149].
ولو كان [القدر] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعاً لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحداً ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيراً وبين من يفعل معه شراً، وهذا ممتنع طبعاً وعقلا وشرعاً، وقد قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص: 28] ، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم: 35]، وقال تعالى: {امْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 21]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، أي: غلبه بالحجة.
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان:
[طائفة] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر.
و[طائفة] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا. ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل.
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23].
والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر : 55] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر.
و[الصبر] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و[الرضا] قد قيل: إنه واجب، وقيل: هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: .
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه.
وكثير من الناس يتكلم بلسان [الحقيقة]، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته.
ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقاً لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [الشريعة] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر.
وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ.
هذا إذا كان عالماً عادلاً و إلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار.
وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق.
وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين.
فلفظ [الشرع، والشريعة] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقاً إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً.
فلم يتابعه باطناً وظاهراً فهو كافر.
ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطاً من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر إتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم إتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو ولياً، ولهذا قال الخضر لموسى: (أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.
الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله.
قال: ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم.
وإلا فلا تقتلهم.
رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفاً شرع الله. وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالماً وقد يكون عادلا، وقد يكون صواباً وقد يكون خطاً، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه: كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس إتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم إتباع من يتكلم بغير علم.
وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء: 116]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة: 165].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت" فأنزل الله تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الفرقان: 68- 70].
وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 83] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال: {كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا} وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر.
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائماً، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثاً ويقول: كما ثبـت ذلك في الحـديث الصـحيح عـنه، وقـد قـال تعـالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [ آل عمران: 17]، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار.
وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل : 20] وكذلك قال في الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 198- 199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة: 117- 118] وهي آخر ما نزل من القرآن.
وقد قيل: إن آخر سورة نزلت قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة النصر]، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: يتأول القرآن.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: .
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: .
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: .
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}[الأحزاب: 72- 73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم.
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وهذا لا ينافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [ الحاقة : 24] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[ آل عمران: 133- 135]
. ومن ظن أن [القدر] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}قال الله تعالى رداً عليهم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 148- 149].
ولو كان [القدر] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعاً لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحداً ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيراً وبين من يفعل معه شراً، وهذا ممتنع طبعاً وعقلا وشرعاً، وقد قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص: 28] ، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم: 35]، وقال تعالى: {امْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 21]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، أي: غلبه بالحجة.
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان:
[طائفة] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر.
و[طائفة] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا. ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل.
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23].
والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر : 55] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر.
و[الصبر] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و[الرضا] قد قيل: إنه واجب، وقيل: هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: .
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: .
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه.
وكثير من الناس يتكلم بلسان [الحقيقة]، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته.
ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقاً لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [الشريعة] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر.
وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ.
هذا إذا كان عالماً عادلاً و إلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار.
وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق.
وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين.
فلفظ [الشرع، والشريعة] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقاً إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً.
فلم يتابعه باطناً وظاهراً فهو كافر.
ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطاً من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر إتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم إتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو ولياً، ولهذا قال الخضر لموسى: (أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.
الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله.
قال: ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم.
وإلا فلا تقتلهم.
رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفاً شرع الله. وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالماً وقد يكون عادلا، وقد يكون صواباً وقد يكون خطاً، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه: كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس إتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم إتباع من يتكلم بغير علم.
وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.