فصل في ليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ
منذ 2007-10-22
السؤال: فصل في ليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ
الإجابة: فصـــل:
وليس من شرط ولى الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 285- 286 ] .
وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284 ] قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي صلى الله علية وسلم: قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى قوله {أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قد فعلت {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: قد فعلت: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت.
وقد قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [ الأحزاب: 5].
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم من حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً أنه قال: فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجراً على اجتهاده، وجعل خطأه مغفوراً له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولى الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولى لله لئلا يكون نبياً، بل ولا يجوز لولى الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله علية وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه .
والناس في الباب [ثلاثة أصناف] طرفان وسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولى لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً، وخيار الأمور أوساطها وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده.
والواجب على الناس إتباع مع بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه يقول المخالف ويقول: هذا خالف الشرع .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: وفي حديث آخر: ، وفيه: ، وكان على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر.
ثبت هذا عنه من رواية الشعبي.
وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا، إلا كان كما يقول.
وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك.
وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم.
فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات؛ فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبى بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله علية وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غيره مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره، فإن النبي صلى الله علية وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر بعد العام القابل، وشرط لهم شروطاً فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله علية وسلم: فذهب عمر إلى أبى بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله علية وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله علية وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالاً.
وكذلك لما مات النبي صلى الله علية وسلم أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك .
وكذلك في [قتال مانعي الزكاة] قال عمر لأبى بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله علية وسلم: فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: إلا بحقها ؟ ! فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله علية وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.
ولهذا نظائر تبين تقدم أبى بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه مُحدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله علية وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم و يناظهرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضوني، فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولى لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله علية وسلم.
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبّرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردوداً، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهداً معذوراً فيما قاله، له أجر على اجتهاده. لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئاً، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]،وهذا تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102 ] قال ابن مسعود وغيره: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286 ]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ الأعراف:42]، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [ الأنعام: 152 ] .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى: {ُُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وقال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 ـ 5]، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقرة: 177 ] .
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره إتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله بإتباعهم؛ بل إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون مفرطاً في الجهل .
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبى سليمان الدارانى: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة .
وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.
أو قال: لا يقتدي به.
وقال أبو عثمان النيسابورى: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [ النور: 54 ] وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولى لله، ويظن أن ولى الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 ـ 29]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66 ـ 68 ]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 ـ 167 ] .
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31 ]، وفى المسند وصححه الترمذي عن عدى بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله علية وسلم عنها فقال: ما عبدوهم؛ فقال النبي صلى الله علية وسلم: ، ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم فلا بد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول صلى الله علية وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم، وإنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم إتباعه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [ آل عمران:81 -82]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمتي الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:60 ـ 65 ] .
وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولى الله فإنه بنى أمره على أنه ولى لله، وإن ولى الله لا يخالف في شيء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك ؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشى على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولى لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله علية وسلم وموافقته لأمره ونهيه .
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولى لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة .
مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ؛ ولا يصلى الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابساً للنجاسات معاشاً للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف، وقد قال النبي صلى الله علية وسلم: وقال عن هذه الأخلية: أي يحضرها الشيطان وقال: .
وقال: وقال: وقال: وفي رواية: .
وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلب وقال: .
وقال: وقال: .
وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156- 157] .
فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وإذ أن الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله، وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البَقْل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .
وإن كان الرجل خبيراً بحقائق الإيمان الباطنة فارقاً بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية، فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله علية وسلم قال ،، قال الترمذي حديث حسن.
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه: .
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الردىء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسى، وطليحة الأسدى، والحارث الدمشقى، وباباه الرومى، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
وليس من شرط ولى الله أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 285- 286 ] .
وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284 ] قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي صلى الله علية وسلم: قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى قوله {أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قد فعلت {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: قد فعلت: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: قد فعلت.
وقد قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [ الأحزاب: 5].
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم من حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً أنه قال: فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجراً على اجتهاده، وجعل خطأه مغفوراً له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولى الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولى لله لئلا يكون نبياً، بل ولا يجوز لولى الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله علية وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه .
والناس في الباب [ثلاثة أصناف] طرفان وسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولى لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً، وخيار الأمور أوساطها وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده.
والواجب على الناس إتباع مع بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه يقول المخالف ويقول: هذا خالف الشرع .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: وفي حديث آخر: ، وفيه: ، وكان على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر.
ثبت هذا عنه من رواية الشعبي.
وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا، إلا كان كما يقول.
وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك.
وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم.
فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات؛ فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبى بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله علية وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غيره مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره، فإن النبي صلى الله علية وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر بعد العام القابل، وشرط لهم شروطاً فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله علية وسلم: فذهب عمر إلى أبى بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله علية وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله علية وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالاً.
وكذلك لما مات النبي صلى الله علية وسلم أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك .
وكذلك في [قتال مانعي الزكاة] قال عمر لأبى بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله علية وسلم: فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: إلا بحقها ؟ ! فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله علية وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.
ولهذا نظائر تبين تقدم أبى بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه مُحدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله علية وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم و يناظهرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضوني، فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولى لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله علية وسلم.
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبّرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردوداً، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهداً معذوراً فيما قاله، له أجر على اجتهاده. لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئاً، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]،وهذا تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102 ] قال ابن مسعود وغيره: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286 ]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ الأعراف:42]، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [ الأنعام: 152 ] .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى: {ُُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وقال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 ـ 5]، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقرة: 177 ] .
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره إتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله بإتباعهم؛ بل إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون مفرطاً في الجهل .
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبى سليمان الدارانى: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة .
وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.
أو قال: لا يقتدي به.
وقال أبو عثمان النيسابورى: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [ النور: 54 ] وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولى لله، ويظن أن ولى الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 ـ 29]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66 ـ 68 ]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 ـ 167 ] .
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31 ]، وفى المسند وصححه الترمذي عن عدى بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله علية وسلم عنها فقال: ما عبدوهم؛ فقال النبي صلى الله علية وسلم: ، ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم فلا بد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول صلى الله علية وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم، وإنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم إتباعه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [ آل عمران:81 -82]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمتي الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء:60 ـ 65 ] .
وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولى الله فإنه بنى أمره على أنه ولى لله، وإن ولى الله لا يخالف في شيء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك ؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشى على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولى لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله علية وسلم وموافقته لأمره ونهيه .
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولى لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة .
مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ؛ ولا يصلى الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابساً للنجاسات معاشاً للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف، وقد قال النبي صلى الله علية وسلم: وقال عن هذه الأخلية: أي يحضرها الشيطان وقال: .
وقال: وقال: وقال: وفي رواية: .
وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلب وقال: .
وقال: وقال: .
وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156- 157] .
فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وإذ أن الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله، وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البَقْل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .
وإن كان الرجل خبيراً بحقائق الإيمان الباطنة فارقاً بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية، فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله علية وسلم قال ،، قال الترمذي حديث حسن.
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه: .
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الردىء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسى، وطليحة الأسدى، والحارث الدمشقى، وباباه الرومى، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
- التصنيف: