سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها
منذ 2007-10-26
السؤال: سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحاديث
لا سند لهم بها
الإجابة: سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث
لا سند لهم بها. فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة: منها أنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقالوا: نحن حزب الله الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا؟
والمسئول تعيين [أصحاب الصفة] كم هم من رجل؟ ومن كانوا من الصحابة رضي الله عنهم ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى لما عرج بنبيه صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر.
فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها.
فقال: يا رب، إنني لم أظهر على هذا السر أحداً، فأوحى الله إليه أنهم كانوا شهوداً بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار.
لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أهل المعرفة وغيرهم أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب و إلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة.
ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف الله ورسوله.
فأما الحديث الأول قوله: فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: كما قال الله سبحانه: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران:195] أي: أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: .
وأما أن يكون الخلق جزءاً من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء الله النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ و جهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر.
نعم! للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به.
وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية.
والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك.
وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوباً رقيقة، فتحدث غشياً وإغماءً.
ومنها ما يوجب الموت.
ومنها ما يخل العقل.
وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالاً مضلاً.
وإنما [الأحوال الصحيحة] مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: .
فانظر كيف قال في تمام الحديث: فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال:{وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى قوله: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} إلى قوله: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} [النساء:171-172].
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: .
وذكر في الجوع والعري مثل ذلك.
فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف بالله تتحد إرادته بإرادة الله، بحيث لا يريد إلا ما يريده الله أمراً به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة:54].
والكلام في مقامات العارفين طويل.
وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل [الحلول، والاتحاد] وكذبوا على الله ورسوله.
وكذبوا الله ورسوله، وبين العالمين بالله والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد الله رسول الله حقاً، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق.
والله قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:40].
وأما حديث عمر: أنه كان كالزنجي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم! كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم.
ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: . فبكى أبو بكر. وقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا. فجعل بعض الناس يعجب ويقول: عجباً لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبداً مطلقاً، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا به.
ومن هذا أن الصديق رضي الله عنه لما عزم على قتال مانعي الزكاة قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ؟.
فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر.وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر.
وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له، وأمثال ذلك كثير.
فأما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي.
فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من الله ما يستحقه.
وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين.
فعلى من قال هذا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين بالله وبدينه؛ وإنما هداهم الله بكتابه؛ وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من [أهل الصفة] كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أعلم بالله؛ وأعظم يقيناً من عامة أهل الصفة.
وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالاً وجهاداً؛ كما وصفهم القرآن في قوله: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
وقال في صفتهم: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273]، ولقد قتل منهم في يوم واحد يوم بئر معونة سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم موجدة، وقنت شهراً يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم: .
وأما [عددهم] فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم: وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك.
ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازياً خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأبو هريرة، و خبيب، وسلمان وغيرهم.
وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله.
وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة؟! وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة: الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف الله ورسوله وكان مسلماً حنيفاً أو كان عالما بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه معه.
وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالاً من النصارى.
والله يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم.
غير المغضوب عليهم. ولا الضالين، والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
، فهل هذا صحيح أم لا ؟ ويقرءون بينهم
أحاديث، ويزعمون أن عمر رضي الله عنه قال: كان أبو بكر ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يتحدثان بحديث أبقى بينهما كأني زنجي، لا أفقه،
فهل يصح هذا أم لا؟
ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة: منها أنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقالوا: نحن حزب الله الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا؟
والمسئول تعيين [أصحاب الصفة] كم هم من رجل؟ ومن كانوا من الصحابة رضي الله عنهم ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى لما عرج بنبيه صلى الله عليه وسلم أوحى الله إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر.
فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها.
فقال: يا رب، إنني لم أظهر على هذا السر أحداً، فأوحى الله إليه أنهم كانوا شهوداً بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار.
لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أهل المعرفة وغيرهم أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب و إلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة.
ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف الله ورسوله.
فأما الحديث الأول قوله: فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: كما قال الله سبحانه: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران:195] أي: أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: .
وأما أن يكون الخلق جزءاً من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء الله النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ و جهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر.
نعم! للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به.
وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية.
والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك.
وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوباً رقيقة، فتحدث غشياً وإغماءً.
ومنها ما يوجب الموت.
ومنها ما يخل العقل.
وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالاً مضلاً.
وإنما [الأحوال الصحيحة] مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: .
فانظر كيف قال في تمام الحديث: فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وقال:{وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى قوله: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} إلى قوله: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} [النساء:171-172].
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: .
وذكر في الجوع والعري مثل ذلك.
فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف بالله تتحد إرادته بإرادة الله، بحيث لا يريد إلا ما يريده الله أمراً به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة:54].
والكلام في مقامات العارفين طويل.
وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل [الحلول، والاتحاد] وكذبوا على الله ورسوله.
وكذبوا الله ورسوله، وبين العالمين بالله والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد الله رسول الله حقاً، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق.
والله قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور:40].
وأما حديث عمر: أنه كان كالزنجي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم! كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة رضي الله عنهم.
ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: . فبكى أبو بكر. وقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا. فجعل بعض الناس يعجب ويقول: عجباً لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبداً مطلقاً، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا به.
ومن هذا أن الصديق رضي الله عنه لما عزم على قتال مانعي الزكاة قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ؟.
فقال أبو بكر: الزكاة من حقها، والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر.وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: .
فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر.
وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له، وأمثال ذلك كثير.
فأما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي.
فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من الله ما يستحقه.
وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين.
فعلى من قال هذا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين بالله وبدينه؛ وإنما هداهم الله بكتابه؛ وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من [أهل الصفة] كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أعلم بالله؛ وأعظم يقيناً من عامة أهل الصفة.
وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالاً وجهاداً؛ كما وصفهم القرآن في قوله: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
وقال في صفتهم: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273]، ولقد قتل منهم في يوم واحد يوم بئر معونة سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم موجدة، وقنت شهراً يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم: .
وأما [عددهم] فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم: وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك.
ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازياً خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم: سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأبو هريرة، و خبيب، وسلمان وغيرهم.
وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله.
وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة؟! وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة: الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف الله ورسوله وكان مسلماً حنيفاً أو كان عالما بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه معه.
وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالاً من النصارى.
والله يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم.
غير المغضوب عليهم. ولا الضالين، والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.
- التصنيف: