سئل عن رجلين قال أحدهما القرآن كلام الله، وقال الآخر هو كلام جبريل
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: سئل عن رجلين قال أحدهما القرآن كلام الله، وقال الآخر هو كلام جبريل
الإجابة: ما تقول السادة أئمة الدين في رجلين قال أحدهما: القرآن المسموع
كلام الله.
وقال الآخر: هو كلام جبرائيل، كما قال تعالى:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، فهل أصاب أم أخطأ؟ وما الجواب عما احتج به؟ وهل هذا القول قاله أحد من الشيوخ والأئمة أم لا؟ .
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، بل القرآن كلام الله تعالى وليس كلام جبرائيل، ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم في الإسلام كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
وجبريل سمعه من الله، وسمعه محمد من جبريل، كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل:102]. وروح القدس هو جبريل، وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [الأنعام:114]، وقال تعالى:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الزمر:1]، وقال تعالى: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1- 2] فهو منزل من الله، كما قال تعالى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 193ـ 195].
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فإنه أضافه إليه؛ لأنه بلَّغه وأدَّاه لا لكونه أحدث منه شيئًا وابتداه؛ فإنه سبحانه قال في إحدى الآيتين:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:40ـ43]، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير:19ـ21]. فالرسول هنا جبريل، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فلو كانت إضافته إلى أحدهما لكونه ألف النظم العربي، وأحدث منه شيئًا غير ذلك تناقض الكلام؛ فإنه إن كان نظم أحدهما لم يكن نظم الآخر.
وأيضًا، فإنه قال:{لَقَوْلُ رَسُولٍ } ولم يقل: لقول ملك ولا نبي، ولفظ [الرسول] يشعر بأنه مبلغ له عن مرسله، لا أنه أنشأ من عنده شيئًا.
وأيضًا، فقوله:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ضمير يعود إلى القرآن، والقرآن يتناول معانيه ولفظه، ومجموع هذا ليس قولا لغير الله بإجماع المسلمين، وإطلاق القول بأن القرآن كلام جبريل أو محمد أو غيرهما من المخلوقين، كفر لم يقله أحد من أئمة المسلمين، بل عظم الله الإنكار على من يقول: إنه قول البشر، فقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } [المدثر:11-27].
فمن قال: إن القرآن قول البشر، فقد كفر، وكذلك من قال: إنه قول ملك.
وإنما يقول: إنه قول جبريل أحد رجلين:
إما رجل من الملاحدة والفلاسفة، الذين يقولون: إنه فيض فاض على نفس النبي من العقل الفعال، ويقولون: إنه جبريل. ويقولون: إن جبريل هو الخيال الذي يتمثل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه تلقاه معان مجردة، ثم إنه تشكل في نفسه حروفًا كما يتشكل في نفس النائم، كما يقول ذلك ابن عربي صاحب [الفصوص] وغيره من الملاحدة؛ ولهذا يدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فإن [المعدن] عنده هو العقل، و[الملك] هو الخيال الذي في نفسه، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال.
وهذا الكلام من أظهر الكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى، وهو مما يعلم فساده بالاضطرار من دين المسلمين.
أو رجل ينتسب إلى مذهب الأشعري، ويظن أن هذا قول الأشعري؛ بناء على أن الكلام العربي لم يتكلم الله به عنده، وإنما كلامه معنى واحد قائم بذات الرب، هو الأمر والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول، وإن كان قول ابن كلاب والقلانسي، والأشعري ونحوهم، فلم يقولوا: إن الكلام العربي كلام جبريل، ومن حكي هذا عن الأشعري نفسه فهو مجازف، وإنما قال طائفة من المنتسبين إليه كما قالت طائفة أخرى ـ: إنه نظم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المشهور عنه: أن الكلام العربي مخلوق، ولا يطلق عليه القول بأنه كلام الله، لكن إذا كان مخلوقًا، فقد يكون خلقه في الهواء، أو في جسم، لكن القول إذا كان ضعيفًا ظهر الفساد في لوازمه.
وهذا القـول أيضًا لم يقله أحــد من الصحـابة والتابعين، وأئــمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم، بل كان الشيخ أبو حامد الأسفرائيني يقول: مذهبي، ومذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسائر علماء الأمصار في القرآن مخالف لهذا القول، وكذلك أبو محمد الجويني والد أبي المعالي قال:مذهب الشافعي وأصحابه في الكلام ليس هو قول الأشعري، وعامة العقلاء يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار، فإنا نعلم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، ونعلم أن آية الكرسي ليست هي معنى آية الدَّيْن.
والله تعالى قد فرق في كتابه بين تكليمه لموسى وإيحائه إلى غيره، بقوله تعالى:{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } الى قوله:{ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:163- 164]، وقال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى:51]، ففرق بين التكليم الذي حصل لموسى، وبين الإيحاء المشترك، وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، كما قال تعالى:{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:13- 14].
والرسول إذا بلغه إلى الناس وبلغه الناس عنه كان مسموعًا سماعًا مقيدًا بواسطة المبلغ، كما قال تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، فهو مسموع مبلغ عنه بواسطة المخلوق، بخلاف سماع موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان العبد يسمع كلام الرسول من المبلغين عنه، فليس ذلك كالسماع منه، فأمر الله تعالى أعظم.
ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى ولم يقل أحد منهم: إن أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم على أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالكلام الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
وقال الآخر: هو كلام جبرائيل، كما قال تعالى:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، فهل أصاب أم أخطأ؟ وما الجواب عما احتج به؟ وهل هذا القول قاله أحد من الشيوخ والأئمة أم لا؟ .
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، بل القرآن كلام الله تعالى وليس كلام جبرائيل، ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم في الإسلام كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
وجبريل سمعه من الله، وسمعه محمد من جبريل، كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [النحل:102]. وروح القدس هو جبريل، وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [الأنعام:114]، وقال تعالى:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الزمر:1]، وقال تعالى: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1- 2] فهو منزل من الله، كما قال تعالى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 193ـ 195].
وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} فإنه أضافه إليه؛ لأنه بلَّغه وأدَّاه لا لكونه أحدث منه شيئًا وابتداه؛ فإنه سبحانه قال في إحدى الآيتين:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:40ـ43]، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير:19ـ21]. فالرسول هنا جبريل، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فلو كانت إضافته إلى أحدهما لكونه ألف النظم العربي، وأحدث منه شيئًا غير ذلك تناقض الكلام؛ فإنه إن كان نظم أحدهما لم يكن نظم الآخر.
وأيضًا، فإنه قال:{لَقَوْلُ رَسُولٍ } ولم يقل: لقول ملك ولا نبي، ولفظ [الرسول] يشعر بأنه مبلغ له عن مرسله، لا أنه أنشأ من عنده شيئًا.
وأيضًا، فقوله:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ضمير يعود إلى القرآن، والقرآن يتناول معانيه ولفظه، ومجموع هذا ليس قولا لغير الله بإجماع المسلمين، وإطلاق القول بأن القرآن كلام جبريل أو محمد أو غيرهما من المخلوقين، كفر لم يقله أحد من أئمة المسلمين، بل عظم الله الإنكار على من يقول: إنه قول البشر، فقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } [المدثر:11-27].
فمن قال: إن القرآن قول البشر، فقد كفر، وكذلك من قال: إنه قول ملك.
وإنما يقول: إنه قول جبريل أحد رجلين:
إما رجل من الملاحدة والفلاسفة، الذين يقولون: إنه فيض فاض على نفس النبي من العقل الفعال، ويقولون: إنه جبريل. ويقولون: إن جبريل هو الخيال الذي يتمثل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه تلقاه معان مجردة، ثم إنه تشكل في نفسه حروفًا كما يتشكل في نفس النائم، كما يقول ذلك ابن عربي صاحب [الفصوص] وغيره من الملاحدة؛ ولهذا يدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فإن [المعدن] عنده هو العقل، و[الملك] هو الخيال الذي في نفسه، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال.
وهذا الكلام من أظهر الكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى، وهو مما يعلم فساده بالاضطرار من دين المسلمين.
أو رجل ينتسب إلى مذهب الأشعري، ويظن أن هذا قول الأشعري؛ بناء على أن الكلام العربي لم يتكلم الله به عنده، وإنما كلامه معنى واحد قائم بذات الرب، هو الأمر والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول، وإن كان قول ابن كلاب والقلانسي، والأشعري ونحوهم، فلم يقولوا: إن الكلام العربي كلام جبريل، ومن حكي هذا عن الأشعري نفسه فهو مجازف، وإنما قال طائفة من المنتسبين إليه كما قالت طائفة أخرى ـ: إنه نظم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المشهور عنه: أن الكلام العربي مخلوق، ولا يطلق عليه القول بأنه كلام الله، لكن إذا كان مخلوقًا، فقد يكون خلقه في الهواء، أو في جسم، لكن القول إذا كان ضعيفًا ظهر الفساد في لوازمه.
وهذا القـول أيضًا لم يقله أحــد من الصحـابة والتابعين، وأئــمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم، بل كان الشيخ أبو حامد الأسفرائيني يقول: مذهبي، ومذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسائر علماء الأمصار في القرآن مخالف لهذا القول، وكذلك أبو محمد الجويني والد أبي المعالي قال:مذهب الشافعي وأصحابه في الكلام ليس هو قول الأشعري، وعامة العقلاء يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار، فإنا نعلم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، ونعلم أن آية الكرسي ليست هي معنى آية الدَّيْن.
والله تعالى قد فرق في كتابه بين تكليمه لموسى وإيحائه إلى غيره، بقوله تعالى:{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } الى قوله:{ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:163- 164]، وقال تعالى:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى:51]، ففرق بين التكليم الذي حصل لموسى، وبين الإيحاء المشترك، وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، كما قال تعالى:{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:13- 14].
والرسول إذا بلغه إلى الناس وبلغه الناس عنه كان مسموعًا سماعًا مقيدًا بواسطة المبلغ، كما قال تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، فهو مسموع مبلغ عنه بواسطة المخلوق، بخلاف سماع موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان العبد يسمع كلام الرسول من المبلغين عنه، فليس ذلك كالسماع منه، فأمر الله تعالى أعظم.
ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى ولم يقل أحد منهم: إن أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم على أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالكلام الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.