فصل في الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله

منذ 2007-10-31
السؤال: فصل في الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله
الإجابة: فصــل:

‏‏ثم إن فروخ ‏[‏اللفظية النافية‏]‏، الذين يقولون بأن حروف القرآن ليست من كلام الله،تروي عن منازعيها أنهم يقولون‏:‏ القرآن ليس هو إلا الأصوات المسموعة من العبد، وإلا المداد المكتوب في الورق، وأن هذه الأصوات وهذا المداد قديمان، وهذا القول ما قاله أحد ممن يقول‏:‏ إن القرآن ليس إلا الحروف والأصوات، بل أنكروا ذلك وردوه، وكذبوا من نقل عنهم أن المداد قديم، ولكن هذا القول قد يقوله الجهال المتطرفون، كما يحكى عن أعيانهم مثل سكان بعض الجبال أن الورق والجلد والوتد وما أحاط به من الحائط كلام الله، أو ما يشبه هذا اللغو من القول الذي لا يقوله مسلم ولا عاقل‏.

‏‏ وفروخ ‏[‏اللفظية‏]‏ المثبتة الذين يقولون‏:‏ إن القرآن ليس إلا الحروف والصوت، تحكي عن منازعيها ‏:‏ أن القرآن ليس محفوظاً في القلوب‏.

‏‏ ولا متلواً بالألسن، ولا مكتوبا في المصاحف، وهذا أيضاً ليس قولاً لأولئك، بل هم متفقون على أن القرآن محفوظ في القلوب متلو بالألسنة، مكتوب في المصاحف، لكن جهالهم وغاليتهم إذا تدبروا حقيقة قول مقتصديهم أن القرآن العربي لم يتكلم الله به، وأنه ليس إلا معنى واحد قائم بالذات، وأصوات العباد ومداد المصحف يدل على ذلك المعنى، وأنه ليس لله في الأرض كلام في الحقيقة، وليس في الأرض إلا ما هو دال على كلام الله، ولم يقل إلا ما هو دال على كلام الله، وكلام الله إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهو معنى واحد لا يتعدد، ولا يتبعض، ولا يتكلم الرب بمشيئته وقدرته، إلى أمثال ذلك من حقائق قول المقتصدين أسقطوا حرمة المصحف، وربما داسوه ووطؤوه، وربما كتبوه بالعَذِرَة أو غيرها‏.

‏‏ وهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً ممن يقول الجلد والورق كلام الله؛ فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل، وهؤلاء كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، فسوف يعلمون؛ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.

‏‏‏ وأما أهل العلم بالمقالة وأهل الإيمان بالشريعة، فيعظمون المصحف ويعرفون حرمته، ويوجبون له ما أوجبته الشريعة من الأحكام؛ فإنه كان في قولهم نوع من الخطأ والبدعة، وفي مذهبهم من التجهم والضلال ما أنكروا به بعض صفات الله وبعض صفات كلامه ورسله، وجحدوا بعض ما أنزل الله على رسله، وصاروا مخانيثا للجهمية الذكور المنكرين لجميع الصفات، لكنهم مع ذلك متأولون قاصدون الحق‏.

‏‏‏ وهم مع تجهمهم هذا يقولون‏:‏ إن القرآن مكتوب في المصحف مثل ما أن الله مكتوب في المصحف، وأنه متلو بالألسن مثل ما أن الله مذكور بالألسن، ومحفوظ في القلوب مثل ما أن الله معلوم بالقلوب، وهذا القول فيه نوع من الضلال والنفاق والجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله ما فيه، وهو الذي أوقع الجهال في الاستخفاف بحرمة آيات الله وأسمائه حتى ألحدوا في أسمائه وآياته.

‏‏‏ كما أن إطلاق الأولين ‏:‏ أنه ليس للقرآن حقيقة إلا الحروف والأصوات، ولا يفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت القارئ وأن القرآن قديم أوقع الجهال منهم والكاذبين عليهم في نقلهم عنهم‏:‏ أن أصوات العباد والمداد الذي في المصحف قديم، وأن الحروف التي هي كلام الله هي المداد، وإن كانوا لم يقولوا ذلك، بل أنكروه ؛ كما فرق الله بين الكلمات والمداد في قوله‏:‏‏ {‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي‏‏} ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏، فإن هؤلاء غلطوا غلطين ‏:‏ غلطاً في مذهبهم، وغلطاً في الشريعة.

‏‏‏ أما الغلط في تصوير مذهبهم، فكان الواجب أن يقولوا ‏:‏ إن القرآن في المصحف مثل ما أن العلم والمعاني في الورق، فكما يقال‏:‏ العلم في هذا الكتاب يقال‏:‏ الكلام في هذا الكتاب؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها.

‏‏ وأما الغلط في الشريعة، فيقال لهم ‏:‏ إن القرآن في المصاحف مثل ما أن اسم الله في المصاحف ؛ فإن القرآن كلام ؛ فهو محفوظ بالقلوب كما يحفظ الكلام بالقلوب، وهو مذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة، وهو مكتوب في المصاحف والأوراق كما أن الكلام يكتب في المصاحف والأوراق، والكلام الذي هو اللفظ يطابق المعنى ويدل عليه، والمعنى يطابق الحقائق الموجودة‏.

‏‏‏ فمن قال‏:‏ إن القرآن محفوظ كما أن الله معلوم، وهو متلو كما أن الله مذكور، ومكتوب كما أن الرسول مكتوب فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين‏:‏ فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والمسلمون يعلمون الفرق بين قوله تعالى‏:‏{‏‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ‏.‏ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏ ‏} ‏[‏الواقعة‏:‏77- 78‏]‏ وبين قوله تعالى ‏:{‏‏ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏‏} [‏الشعراء‏:‏196‏]‏؛ فإن القرآن لم ينزل على أحد قبل محمد؛ لا لفظه، ولا جميع معانيه، ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه، كما أنزل ذكر محمد والخبر عنه، فذكر القرآن في زبر الأولين كما أن ذكر محمد في زبر الأولين، وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل‏.‏ فالله ورسوله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسن، مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا، مذكور لهم، مكتوب عندهم، وإنما ذاك ذكره والخبر عنه، وأما نحن فنفس القرآن أنزل إلينا، ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا، كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون وهو في الصحف المطهرة‏.

‏‏ ولهذا يجب الفرق بين قوله تعالى‏:‏{ ‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏‏} ‏[‏القمر‏:‏52‏]‏، وبين قوله تعالى‏:‏{ ‏‏وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ‏‏} ‏[‏الطور ‏:‏ 2- 3‏]‏ ؛ فإن الأعمال في الزبر كالرسول وكالقرآن في زبر الأولين، وأما الكتاب المسطور في الرق المنشور، فهو كما يكتب الكلام نفسه والصحيفة، فأين هذا من هذا‏؟‏ وذلك أن كل شيء فله أربع مراتب في الوجود‏:‏ وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان‏:‏ وجود عيني، وعلمي، و لفظي، ورسمي؛ ولهذا كان أول ما أنزل الله من القرآن ‏:‏{ ‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏ ‏} ‏[‏العلق‏:‏1‏]‏، وذكر فيها أنه سبحانه معطي الوجودين فقال‏:{‏ ‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏‏} ‏[‏العلق ‏:‏1- 2‏]‏،فهذا الوجود العيني، ثم قال‏:‏{ ‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏ ‏} ‏[‏العلق‏:‏3 ـ 5‏]‏، فذكر أنه أعطي الوجود العلمي الذهني، وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه مستلزم لتعليم اللفظ والعبارة، وتعليم اللفظ والعبارة مستلزم لتعليم المعنى، فدل بذكره آخر المراتب على أولها؛ لأنه لو ذكر أولها أو أطلق التعليم لم يدل ذلك على العموم والاستغراق‏.

‏‏‏ وإذا كان كذلك فالقرآن كلام، والكلام له المرتبة الثالثة، ليس بينه وبين الورق مرتبة أخرى متوسطة، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال الله تعالى ‏:‏‏{ ‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏ ‏} ‏[‏الواقعة‏:‏77- 78‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{ ‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏‏} ‏[‏البروج‏:‏21-22‏]‏ وقال‏:‏‏ {‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏ ‏} ‏[‏البينة‏:‏2- 3‏]‏ وقال‏:‏ {‏‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ‏.‏ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ‏ ‏} [‏عبس ‏:‏ 11ـ 14‏]‏‏.

‏‏‏ وقال‏:‏ {‏‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ‏ ‏} ‏[‏الأنعام‏:‏7‏]‏‏.

‏‏ وقد يقال‏:‏ إنه مكتوب فيها، كما يطلق القول أنه فيها، كما قال تعالى‏:{ ‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ‏ ‏} ‏[‏الطور‏:‏1ـ 3‏]‏، وأما الرب سبحانه أو رسوله أو غير ذلك من الأعيان فإنما في الصحف اسمه، وهو من الكلام ؛ ولهذا قال‏:{‏‏‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ‏‏} ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏، وإنما في التوراة كتابته وذكره وصفته واسمه وهي المرتبة الرابعة منه، فكيف يجوز تشبيه كون القرآن أو الكلام في الصحف أو الورق بكون الله أو رسوله أو السماء أو الأرض في الصحف أو الورق‏؟‏‏!‏ ولو قال قائل‏:‏ الله أو رسوله في الصحف أو الورق لأنكر ذلك، إلا مع قرائن تبين المراد، كما في قوله‏{ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏‏} ‏[‏القمر‏:‏52‏]‏، وفي قوله{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏‏} [‏الشعراء‏:‏196‏]‏، فإن المراد بذلك ذكره وكتابته‏.

و ‏[‏الزبر‏]‏ جمع زبور، الزبور فعول بمعنى مفعول،أي ‏:‏ مزبور، أي ‏:‏ مكتوب، فلفظ الزبور يدل على الكتابة، وهذا مثل ما في الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله، متى كنت نبياً وفي رواية‏:‏ متى كتبت نبياً‏؟‏ قال‏ ‏‏" و آدم بين الروح والجسد‏" رواه أحمد‏‏.

‏‏ ‏ فهذا الكون هو كتابته وتقديره وهو المرتبة الرابعة، كما تقدم‏.

فإن هذه المرتبة تتقدم وجود المخلوقات عند الله، وعند من شاء من خلقه، وإن كانت قد تتأخر أيضاً فإن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله‏:‏‏ {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏‏} ‏[‏الجاثية‏:‏29‏]‏ ‏:‏ إن الله يأمر الملائكة بأن تنسخ من اللوح المحفوظ ما كتبه من القدر ويأمر الحفظة أن تكتب أعمال بني آدم، فتقابل بين النسختين فتكونان سواء‏.‏

ثم يقول ابن عباس‏:‏ ألستم قوماً عرباً‏؟‏ وهل تكون النسخة إلا من أصل ‏؟‏ والتقدير والكتابة تكون تفصيلا بعد جملة‏.‏

فالله تعالى لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة‏.

‏ ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره، كما يظهر لهم ذلك من كل مولود، كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏‏" جمَع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نُطْفَة، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏‏" وفي طريق آخر وفي رواية‏‏" ‏ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏ ‏" ‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أن الملك يؤمر بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، بعد خلق جسد ابن آدم وقبل نفخ الروح فيه‏.‏

فكان ما كتبه الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم- بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس، كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن العِرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏‏‏"‏إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته‏ ‏" وهذا وأمثاله من وجود الأعيان في الصحف‏.‏

وأما وجود الكلام في الصحف فنوع آخر؛ ولهذا حكى ابن قتيبة من مذهب أهل الحديث والسنة ‏:‏ أن القرآن في المصحف حقيقة لا مجازاً، كما يقوله بعض المتكلمة، وإحدى ‏[‏الجهميات‏]‏ التي أنكرها أحمد، وأعظمها قول من زعم أن القرآن ليس في الصدور ولا في المصاحف، وأن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى، كما حكى له ذلك عن موسى بن عقبة الصوري أحد كتبة الحديث إذ ذاك ؛ ليس هو صاحب المغازي ؛ فإن ذلك قديم من أصحاب التابعين فأعظم ذلك أحمد، وذكر النصوص والآثار الواردة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ‏‏‏"‏‏استذكروا القرآن فلهو أشد تَفَصِّياً من صدور الرجال من النََّعَم من عُقُلِها‏‏" ‏، ومثل قوله‏‏‏‏"‏الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب‏‏" ‏ وغير ذلك‏.‏ وليس الغرض هنا إلا التنبيه اللطيف‏.‏

ومن قال‏:‏ إن هذا شبه قول النصارى، فلم يعرف قول النصارى، ولا قول المسلمين، أو علم وجحد، وذلك أن النصارى تقول‏:‏ إن الكلمة وهي جوهر إله عندهم ورب معبود تدرع الناسوت واتحد به كاتحاد الماء واللبن، أو حل فيه حلول الماء في الظرف، أو اختلط به اختلاط النار والحديد، والمسلمون لا يقولون‏:‏ إن القرآن جوهر قائم بنفسه معبود، وإنما هو كلام الله الذي تكلم به، ولا يقولون‏:‏ اتحد بالبشر.‏

وأما إطلاق حلوله في المصاحف والصدور، فكثير من المنتسبين إلى السنة الخراسانيين وغيرهم يطلق ذلك، ومنهم من العراقيين وغيرهم من ينفي ذلك ويقول‏:‏ هو فيه على وجه الظهور لا على وجه الحلول، ومنهم من لا يثبته ولا ينفيه، بل يقول‏:‏القرآن في القلوب والمصاحف،لا يقال‏:‏ هو حال ولا غير حال؛ لما في النفي والإثبات من إيهام معنى فاسد، وكما يقول ذلك طوائف من الشاميين وغيرهم، ولا نزاع بينهم أن كلام الله لا يفارق ذات الله، وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته، بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره، فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه وينتقل إلى غيره‏؟‏ ولهذا قال الإمام أحمد‏:‏ كلام الله من الله، ليس ببائن منه، وقد جاء في الأحاديث والآثار‏‏"‏أنه منه بدأ، ومنه خرج‏‏" ومعنى ذلك‏:‏ أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره، ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه‏.‏ فقد قال سبحانه في حق المخلوقين‏:‏ ‏‏{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً‏‏} ‏‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله هو معنى تبليغه، كما قال‏:‏ {‏‏وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏‏} ‏‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏، وقال تعالى‏:‏{ ‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ‏‏} ‏‏[‏الأحزاب‏:‏39‏]‏، وقال تعالى‏:‏{ ‏‏لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ‏‏‏} [‏الجن‏:‏28‏]‏،وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏‏"‏‏نَضَّرَ الله امرأ سمع منا حديثاً فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏‏‏" ‏، وقال‏‏‏‏"‏‏بَلِّغوا عني ولو آية‏‏‏" ‏‏.‏

‏ والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف والعَرَض بالجوهر، بحيث تصير صفة له، ولا هو فيه كما يكون الجسم في الحيز الذي انتقل إليه من حيز آخر، ولا هو فيه كمجرد الدليل المحض بمنزلة العالم الذي هو دليل على الصانع، بل هو قسم آخر معقول بنفسه، ولا يجب أن يكون لكل موجود نظير يطابقه من كل وجه، بل الناس بفطرهم يفهمون معنى كلام المتكلم في الصحيفة، ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء، بل ما في الصحيفة مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق للخارج، وقد يعلم ما في نفسه بأدلة طبعية، وبحركات إرادية لم يقصد بها الدلالة، ولا يقول أحد‏:‏ إن ذلك الكلام للمتكلم مثل كلامه المسموع منه، فلو كان الكلام إنما سمى بذلك لمجرد الدلالة لشاركه كل دليل‏.‏

‏ وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ذلك‏.‏

ولو كان ما في المصحف وجب احترامه لمجرد الدلالة، وجب احترام كل دليل، بل الدال على الصانع وصفاته أعظم من الدال على كلامه، وليست له حرمة كحرمة المصحف، والدال على المعنى القائم بنفس الإنسان قد يعلم تارة بغير اختياره، وقد يعلم بأصوات طبعية، كالبكاء، وقد يعلم بحركات لم يقصد بها الدلالة، وقد يعلم بحركات يقصد بها الدلالة كالإشارة، وقد يعلم باللفظ الذي تقصد به الدلالة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
  • 0
  • 0
  • 13,712

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً