فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم
الإجابة: فصــل:
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق:حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها.
وبه إلى الترمذي، قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: مافي القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا.
وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش؛ قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحْتَجْ أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب قال: حدثنا طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله؛ ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولي ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المُسَيَّب، وأبى العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا، فيحكيها أقوالا وليس كذلك.
فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشىء بعينه،والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن،فليتفطن اللبيب لذلك،واللّه الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة؛ فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام.
حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان،عـن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وبه إلى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثني حبان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي قال: حدثنا أبو عمران الجَوْنِي، عن جُنْدُب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل ابن أبي حزم.
وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم.
وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم: أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم.
وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم. فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به.
فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، واللّه أعلم.
وهكذا سمى اللّه تعالى القَذَفَة كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور:13] فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به .
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد اللّه بن مُرَّة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تُقلّني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب اللّه ما لم أعلم؟!. وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام: حدثنا محمود بن يزيد،عن العَوَّام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31] فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم؟ منقطع وقال أبو عبيد أيضًا: حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فقال:هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال:إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب،قال:حدثنا حماد بن زيد،عن ثابت، عن أنس؛ قال: كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه.
وهذا كله محمول على أنهما رضي اللّه عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى:{ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:27 ـ 30].
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
إسناده صحيح.
وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال: سأل رجل ابن عباس عن: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فقال له ابن عباس فما:{ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4] فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما اللّه في كتابه، اللّه أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب اللّه ما لا يعلم.
وقال ابن جرير:حدثني يعقوب يعني ابن إبراهيم حدثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد اللّه، فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحَرّج عليك إن كنت مُسْلِمًا لما قمتَ عني، أو قال: أن تجالسني.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؛ أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا.
وقال الليث عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال:لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء يعني عكرمة.
وقال ابن شوْذَب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عَبْدَة الضَّبِيّ، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد اللّه بن عمر؛ قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد اللّه، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد اللّه بن صالح عن الليث عن هشام بن عُرْوَة قال: ما سمعت أبي تأوَّل آية من كتاب الله قط.
وقال أيوب وابن عَوْن وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق اللّّه وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبيد اللّه بن مسلم بن يسار، عن أبيه؛ قال: إذا حدثت عن اللّه فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا هُشَيْم، عن مغيرة، عن إبراهيم؛ قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال شعبة عن عبد اللّه ابن أبي السَّفْر؛ قال: قال الشعبي: واللّه ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن اللّه.
وقال أبو عبيد:حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي،عن مسروق؛ قال: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به.
فأما من تكلم بما يعلم مـن ذلك لغة وشرعًا فـلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى:{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران:187]، ولما جاء في الحديث المروي من طرق .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنَا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان عن أبي الزِّنَاد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثالث عشر.
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق:حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها.
وبه إلى الترمذي، قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: مافي القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا.
وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش؛ قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحْتَجْ أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب قال: حدثنا طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله؛ ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولي ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المُسَيَّب، وأبى العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا، فيحكيها أقوالا وليس كذلك.
فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشىء بعينه،والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن،فليتفطن اللبيب لذلك،واللّه الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة؛ فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام.
حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان،عـن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وبه إلى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثني حبان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي قال: حدثنا أبو عمران الجَوْنِي، عن جُنْدُب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل ابن أبي حزم.
وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم.
وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم: أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم.
وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم. فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به.
فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، واللّه أعلم.
وهكذا سمى اللّه تعالى القَذَفَة كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور:13] فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به .
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد اللّه بن مُرَّة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تُقلّني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب اللّه ما لم أعلم؟!. وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام: حدثنا محمود بن يزيد،عن العَوَّام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي؛ أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31] فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم؟ منقطع وقال أبو عبيد أيضًا: حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس؛ أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فقال:هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال:إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب،قال:حدثنا حماد بن زيد،عن ثابت، عن أنس؛ قال: كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه.
وهذا كله محمول على أنهما رضي اللّه عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى:{ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:27 ـ 30].
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
إسناده صحيح.
وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة؛ قال: سأل رجل ابن عباس عن: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فقال له ابن عباس فما:{ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4] فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما اللّه في كتابه، اللّه أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب اللّه ما لا يعلم.
وقال ابن جرير:حدثني يعقوب يعني ابن إبراهيم حدثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد اللّه، فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحَرّج عليك إن كنت مُسْلِمًا لما قمتَ عني، أو قال: أن تجالسني.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؛ أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا.
وقال الليث عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال:لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء يعني عكرمة.
وقال ابن شوْذَب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عَبْدَة الضَّبِيّ، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد اللّه بن عمر؛ قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد اللّه، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد اللّه بن صالح عن الليث عن هشام بن عُرْوَة قال: ما سمعت أبي تأوَّل آية من كتاب الله قط.
وقال أيوب وابن عَوْن وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق اللّّه وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبيد اللّه بن مسلم بن يسار، عن أبيه؛ قال: إذا حدثت عن اللّه فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا هُشَيْم، عن مغيرة، عن إبراهيم؛ قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال شعبة عن عبد اللّه ابن أبي السَّفْر؛ قال: قال الشعبي: واللّه ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن اللّه.
وقال أبو عبيد:حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي،عن مسروق؛ قال: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به.
فأما من تكلم بما يعلم مـن ذلك لغة وشرعًا فـلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى:{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران:187]، ولما جاء في الحديث المروي من طرق .
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشَّار، حدثنَا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان عن أبي الزِّنَاد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا اللّه، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثالث عشر.