فَصـل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية
منذ 2008-01-18
السؤال: فَصـل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية
الإجابة:
فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية الحبية الشهوية، وترك المنهى عنه صادر عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف صادر عن المحبة والإرادة،والنهى عن المنكر صادر عن البغض والكراهة،وكذلك الترغيب فى المعروف والترهيب عن المنكر، والحض على هذا والزجر عن هذا؛ولهذا لا تكف النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية،وبذلك يقوم العدل والقسط فى الحكم والقسم وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبية الشهوية، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم ، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجود فاسد، إذ قد حصلا معا وهما متقابلان فى الترجيح، فربما يختار بعض النفوس هذا ويختار بعضها هذا، وهذا عند التكافؤ، وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم.
لكن لما كان المقتضى لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجوداً، وبتقدير وجودهما يحصل النصر كالرزق مع الخوف، صار يعظم فى الشرع والطبع دفع المكروه .
أما فى الشرع فبالتقوى، فإن اسمها فى الكتاب والسنة والإجماع عظيم، والعاقبة لأهلها والثواب لهم، وأما فى الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق؛ وذاك واللّه أعلم لأن النصر بلا رزق ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة، وفى هذا نظر فقد يقال: هما متقابلان فإن أهل النصر يحبون أهل الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظم.
وقد يقال: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضاً وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هى أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض، وأما الرازق فلا معارض له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظم.
وقد يقابل هذا بأن يقال: وفوات المحبوب مكروه أيضاًوالمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا نسلم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب فى الأصل أقوى، لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادم تابع له، وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضى، وترجيح المانع على المقتضى غير حق، بل المقتضى أقوى بالقول المطلق، فإنه لابد منه فى الوجود.
وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارض، فالمقتضى والمحبة هو الأصل والعمدة فى الحق الموجود والحق المقصود،وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع.
ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش " .
ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته، وأما الشر ففى الأفعال، كقوله:{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49- 50]، وقوله {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98].
يبقى أن يقال: فلم عظمت التقوى؟ فيقال: إنها هى تحفظ الفطرة وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛ ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً، كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار ، وأصل الدين: هو عبادة اللّه الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس.
وهذه المحبة التي هى أصل الدين: انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبة الأنداد.
ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية الحبية الشهوية، وترك المنهى عنه صادر عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف صادر عن المحبة والإرادة،والنهى عن المنكر صادر عن البغض والكراهة،وكذلك الترغيب فى المعروف والترهيب عن المنكر، والحض على هذا والزجر عن هذا؛ولهذا لا تكف النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية،وبذلك يقوم العدل والقسط فى الحكم والقسم وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبية الشهوية، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم ، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجود فاسد، إذ قد حصلا معا وهما متقابلان فى الترجيح، فربما يختار بعض النفوس هذا ويختار بعضها هذا، وهذا عند التكافؤ، وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم.
لكن لما كان المقتضى لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجوداً، وبتقدير وجودهما يحصل النصر كالرزق مع الخوف، صار يعظم فى الشرع والطبع دفع المكروه .
أما فى الشرع فبالتقوى، فإن اسمها فى الكتاب والسنة والإجماع عظيم، والعاقبة لأهلها والثواب لهم، وأما فى الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق؛ وذاك واللّه أعلم لأن النصر بلا رزق ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة، وفى هذا نظر فقد يقال: هما متقابلان فإن أهل النصر يحبون أهل الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظم.
وقد يقال: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضاً وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هى أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض، وأما الرازق فلا معارض له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظم.
وقد يقابل هذا بأن يقال: وفوات المحبوب مكروه أيضاًوالمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا نسلم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب فى الأصل أقوى، لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادم تابع له، وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضى، وترجيح المانع على المقتضى غير حق، بل المقتضى أقوى بالقول المطلق، فإنه لابد منه فى الوجود.
وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارض، فالمقتضى والمحبة هو الأصل والعمدة فى الحق الموجود والحق المقصود،وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع.
ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش " .
ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته، وأما الشر ففى الأفعال، كقوله:{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49- 50]، وقوله {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 98].
يبقى أن يقال: فلم عظمت التقوى؟ فيقال: إنها هى تحفظ الفطرة وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛ ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً، كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار ، وأصل الدين: هو عبادة اللّه الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس.
وهذه المحبة التي هى أصل الدين: انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبة الأنداد.
ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
- التصنيف: