فصـل في تعظيم الفاحشة بالباطل
منذ 2008-01-19
السؤال: فصـل في تعظيم الفاحشة بالباطل
الإجابة:
وكما عظم الله الفاحشة عظم ذكرها بالباطل وهو القذف، فقال بعد ذلك:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} [النور: 4]، ثم ذكر رمي الرجل امرأته، وما أمر فيه من التلاعن، ثم ذكر قصة أهل الإفك، وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف المكذوب عليه، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين؛ لأن دليله كذب ظاهر، ثم أخبر أنه قول بلا حجة، فقال: {للَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به.
وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]، فهذا بيان لسبب العذاب، وهو تلقي الباطل بالألسنة والقول بالأفواه، وهما نوعان محرمان: القول بالباطل، والقول بلا علم.
ثم قال سبحانه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف.
ففي الأول قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، ويقول النبي صلي الله عليه وسلم ، وكذا قوله:{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لعائشة .
فهذا يقتضي جواز بعض الظن كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الوازع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر.
وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن أن يقول الإنسان ما ليس له به علم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والله تعالى جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ما لم يجعله في شيء من المعاصي؛ لأنه جعل فيها الرجم،وقد رجم هو تعالى قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط، وجعل العقوبة على القذف بها ثمانين جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد، ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين عند كثير منهم، كما قال على: لا أوتي بأحد يفَضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذي، وإذا هذي افتري، وحد الشرب ثمانون، وحد المفتري ثمانون.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [النور: 19].
وهذا ذم لمن يحب ذلك، وذلك يكون بالقلب فقط ويكون مع ذلك باللسان والجوارح، وهو ذم لمن يتكلم بالفاحشة أو يخبر بها محبة لوقوعها في المؤمنين؛ إما حسدًا أو بغضًا، وإما محبة للفاحشة وإرادة لها، وكلاهما محبة للفاحشة وبغضًا للذين آمنوا، فكل من أحب فعلها ذكرها.
وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها، وكذلك ذكرها غيبة محرمة سواء كان بنظم أو نثر، وكذلك التشبه بمن يفعلها منهي عنه؛ مثل الأمر بها، فإن الفعل يطلب بالأمر تارة، وبالإخبار تارة، فهذان الأمران لفجرة الزناة اللوطية؛ مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين، أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء يعتبرون من الاغترار، فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيهم قدوة وأسوة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، قيل: أراد الغناء، وقيل: أراد قصص الملوك من الكفار من الفرس.
وبالجملة، كل ما رَغَّبَ النفوس في طاعة الله ونهاها عن معصيته من خبر أو أمر فهو من طاعته، وكل ما رَغَّبَها في معصيته ونهي عن طاعته فهو من معصيته، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة؛ مثل النهي عنها وعنهم.
والذم لها ولهم، وذكر ما يبغضها وينفر عنها، وذكر أهلها مطلقًا حيث يسوغ ذلك، وما يشرع لهم من الذم في وجوههم ومغيبهم؛ فهذا كله حسن يجب تارة، ويستحب أخري، وكذلك ما يدخل فيها من وصفها ووصف أهلها من العشق على الوجه المشروع الذي يوجب الانتهاء عما نهي الله عنه، والبغض لما يبغضه.
وهذا كما أن الله قص علينا في القرآن قصص الأنبياء والمؤمنين والمتقين، وقصص الفجار والكفار؛ لنعتبر بالأمرين؛ فنحب الأولين وسبيلهم ونقتدي بهم، ونبغض الآخرين وسبيلهم ونجتنب فعالهم.
وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين من ذكر الفاحشـة وعلائقها على وجـه الــذم ما فيه عبرة، قال تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، إلى آخر القصة في مواضع من كتابه.
فهذا لوط خاطب أهل الفاحشة وهو رسول الله بتقريعهم بها بقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهذا استفهام إنكار ونهي، إنكار ذم، ونهي، كالرجل يقول للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ أما تتقي الله؟ ثم قال: {أ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء} [النمل: 55]، وهذا استفهام ثان فيه من الذم والتوبيخ ما فيه، وليس هذا من باب القذف واللمز.
وكذلك قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160]، إلى آخر القصة، فقد واجههم بذمهم وتوبيخهم على فعل الفاحشة، ثم إن أهل الفاحشة توعدوهم وتهددوهم بإخراجهم من القرية، وهذا حال أهل الفجور إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا نفيه وإخراجه، وقد عاقب الله أهل الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوي؛ حيث أمر بنفي الزاني ونفي المخنث، فمضت سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم بنفي هذا وهذا، وهـو سبحانه أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب.
وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} إلى قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:32ـ 34]، وما ذكره بعد ذلك فمن كلام يوسف من قوله:{مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب انتهار النفوس عن معصية الله والتمسك بالتقوي، وكذلك ما بينه في آخر السورة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
ومع هذا فمن الناس والنساء من يحب سماع هذه السورة لما فيها من ذكر العشق وما يتعلق به؛ لمحبته لذلك ورغبته في الفاحشة، حتي إن من الناس من يقصد إسماعها للنساء وغيرهن لمحبتهم للسوء، ويعطفون على ذلك، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك، حتي قال بعض السلف: كل ما حصلته في سورة يوسف أنفقته في سورة النور. وقد قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثم قال: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124- 125].
فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض سماع ذلك إعراضًا عن دفع هذه المحبة وإزالتها، فهو مذموم.
ومن هذا الباب ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في معصية الله وصد عن سبيل الله.
ومن هذا الباب سماع كلام أهل البدع والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية الله، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات، والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وفي مثل قوله: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، ومثل قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} الآية [الشعراء:221]، وما بعدها، ومثل قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 76]، ومثل قوله: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، ومثل قوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} الآية [الأنعام: 116].
ومثل هذا كثير في القرآن، فأهل المعاصي كثيرون في العالم، بل هم أكثر، كما قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} الآية.
وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما لا يعلمه إلا الله،وأهلها يدعون الناس إليها، ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم.
فهم أعداء الرسل وأندادهم، فرسل الله يدعون الناس إلى طاعة الله ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون عليها، وينهونهم عن معاصي الله، ويحذرونهم منها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون من يفعلها. وهؤلاء يدعون الناس إلى معصية الله ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة قولا وفعلا، ويجاهدون على ذلك قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، ثم قال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ} [التوبة: 71]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76].
ومثل هذا في القرآن كثير، والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه، وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر، فإن حب الشيء وفعله وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتي يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر، فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ولا فعل ولا ترك، لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلم علمًا مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا.
ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات؛ مثل صفة الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها، فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة فلا نكون مطيعين إلا إذا لم نعلم وجودها، بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها، وكون كل منهما معصية، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة.
وأما معرفة ما يتركه وينهي عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً، فالإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره، وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك، وإلي الجواب عما يعارض به أصحابها من الحجج، وإلي دفع أهوائهم وإراداتهم، وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك، وذلك لا يكون إلا بالصبر، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [ سورة العصر].
وأول ذلك أن نذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها وبيان ما فيها من الفساد، فإن الإنكار بالقلب واللسان قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم؛ يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وضدها والتحذير منها، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان، ومن فيهم من أنبيائه وأوليائه على وجه المدح والحب، وبيان صلاحه ومنفعته، والترغيب فيه،وذلك نحو قوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 ـ 95]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ}الآيات [التوبة: 30].
وهذا كثير جدًا، فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم؛ إما كافر، وإما فاجر بحسب قوله وفعله، وليس منهم من هو بعكسه، وليس عليه عذاب في تركه؛ لكنه لا يثاب على مجرد عـدم ذلك، وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله، وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدني الإيمان؛ كما قال النبي صلي الله عليه وسلم إلى آخره، وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه، ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان، ثم يكون باليد، والنبي صلي الله عليه وسلم قال فيمن رأي المنكر.
فأما إذا رآه فلم يعلم أنه منكر ولم يكرهه لم يكن هذا الإيمان موجودًا في القلب في حال وجوده ورؤيته؛ بحيث يجب بغضه وكراهته، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا، وإذا لم يكن المنكر موجودًا لم يجب ذلك، ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتي ينكره، وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال المنكرات قد يعرض عنها كثير من الناس إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها، حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال؛ وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآية [المجادلة: 22].
وكثير من الناس، بل أكثرهم كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات؛ لا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات فربما مالوا إليها تارة وعنها أخري، فتكون نفس أحدهم لَوَّامَةً بعد أن كانت أَمَّارَةً، ثم إذا ارتقي إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة تاركة للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، فإن هذا شيء آخر داخل في قوله:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الآيات، إلى قوله: {وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيت} [النساء: 77 ـ 85]، والشفاعة: الإعانة؛ إذ المعين قد صار شفعًا للمعان، فكل من أعان على بر أو تقوي كان له نصيب منه، ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كِفْلٌ منه، وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم من الإعانة على البر والتقوي، والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين، كما قال تعالى قبل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} إلى قوله: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 71ـ76].
ومن هنا يظهر الفرق في السمع والبصر: من الإيمان وآثاره، والكفر وآثاره، والفرق بين المؤمن البر وبين الكافر والفاجر، فإن المؤمنين يسمعون أخبار أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة النبي صلي الله عليه وسلم، وسمعهم لما بلغه عن الله، والكافر والمنافق يسمع ويري على وجه البغض والجهل، كما قال تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51]، وقال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، وقال: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقال:{فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]، وقال تعالى في حق المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، وقال في حق الكفار: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والآيات في هذا كثيرة جدًا.
وكذلك النظر إلى زينة الحياة الدنيا فتنة، فقال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وفي التوبة: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية [التوبة: 55] ، وقال: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية [النور: 30]، وقال: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، وقال:{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}الآيات [الغاشية:17]، وقال:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} الآية [سبأ: 9]، وكذلك قال الـشيطان: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، وقال: { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ} الآيات [الشعراء: 61]، وقال:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} الآية [الأنفال: 43].
فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها منهي عنه، والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه.
وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك وإزالته فمأمور به، وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة، فالعين الواحدة ينظر إليها نظرا مأمورًا به؛ إما للاعتبار، وإما لبغض ذلك والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه، وكذلك الموالاة والمعاداة؛ وقد تحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه وهو يظن أنه نظر عبرة، وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله تعالى فيهم:{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} الآية [التوبة: 49]، فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم فائذن لي في القعود، قال تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول، وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا، بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حُشِرَ معهم، كما حُشِرَت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة؛ لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم.
فمن هذا الباب، قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها؛ مثل القَوَّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة؛ لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك؛ مثل المغنين، وشَرَبَة الخمر، وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة؛ ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين، بخلاف ما إذا كانت قليلة خفيفة خفية، ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهي عن طاعته منهي عنه محرم، بخلاف عكسه فإنه واجب ، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، أي: إن ما فيها من طاعة الله وذكره وامتثال أمره أكبر من ذلك.
وقال في الخمر والميسر:{وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91]، أي: يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهي عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر كما هو الواقع، فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما، فالله تعالى لم يذكر الجماع؛ لأن الخمر لا تدعو إلى الحرام بعينه من الجماع، فيأتي شارب الخمر ما يمكنه من الجماع، سواء كان حلالا أو حرامًا، والسكر يزيل العقل الذي كان يميز السكران به بين الحلال والحرام، والعقل الصحيح ينهي عن مواقعة الحرام، ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش ما لا يكثر من غيرها حتي ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه، وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه، ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالباطل: من سرقة، ومحاربة، وغير ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغيره من فواحش وغناء.
وشرب الخمر يظْهِرُ أسرار الرجال حتي يتكلم شاربه بما في باطنه، وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار يسقونهم الخمر، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به.
وأيضًا، فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره ومصلحته في معاشه ومعاده، وجميع أموره التي يدبرها برأيه وعقله، فجميع الأمور التي تصد عنها الخمر من المصالح وتوقعها من المفاسد داخلة في قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91].
وكذلك، إيقاع العداوة والبغضاء هي منتهي قصد الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب توقع العداوة والبغضاء، وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من معصية الله، والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها، ولا يرضي بغاية ما قدر على ذلك.
وأيضًا، فالعداوة والبغضاء شر محض لا يحبها عاقل؛ بخلاف المعاصي فإن فيها لذة كالخمر والفواحش؛ فإن النفوس تريد ذلك، والشيطان يدعو إليها النفوس حتي يوقعها في شر لا تهواه ولا تريده ، والله تعالى قد بين ما يريده الشيطان بالخمر والميسر ولم يذكر ما يريده الإنسان ، ثم قال في سورة النور:{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر}ِِ [النور:21]، وقال في سورة البقرة: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168- 169]، فنهي عن اتباع خطواته وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم، وقال فيها: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: 268]، فالشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر والسوء، والله يعد المغفرة والفضل،ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقال عن نبيه: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقال عن أمته: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر}ِِ [التوبة: 71].
وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة. فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي، وكذلك المعروف: تارة يخصه بالأمر، وتارة يقرن به غيره كما في قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وذلك لأن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب؛ كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد كان عامًا لما يدلان عليه عند الاقتران؛ بخلاف اقترانهما فإنه يكون معني كل منهما ليس هو معني الآخر، بل أخص من معناه عند الإفراد، وأيضًا، فقد يعطف على الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التخصيص، ثم قد قيل: إن ذلك المخصص يكون مذكورًا بالمعني العام والخاص.
فإذا عرف هذا، فاسم (المنكر) يعم كل ما كرهه الله ونهي عنه وهو المبغض،واسم (المعروف) يعم كل ما يحبه اللّه ويرضاه ويأمر به، فحيث أفردا بالذكر فإنهما يعمان كل محبوب في الدين ومكروه، وإذا قرن المنكر بالفحشاء فإن الفحشاء مبناها على المحبة والشهوة، و(المنكر) هو الذي تنكره القلوب، فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول في المنكر، وإن كانت مما تنكرها القلوب فإنها تشتهيها النفوس، و(المنكر) قد يقال: إنه يعم معني الفحشاء، وقد يقال: خصت لقوة المقتضي لما فيها من الشهوة، وقد يقال: قصد بالمنكر ما ينكر مطلقا والفحشاء لكونها تشتهي وتحب، وكذلك (البغي) قرن بها؛ لأنه أبعد عن محبة النفوس.
ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء، ومنشؤه من قوة الغضب، كما أن الفحشاء منشؤها عن قوة الشهوة، ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها، فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر، وأما الإشراك والقول على اللّه بلا علم فإنه منكر محض ليس في النفوس ميل إليهما؛ بل إنما يكونان عن عناد وظلم، فهما منكر وظلم محض بالفطرة.
فهذه الخصال فساد في القوة العلمية والعملية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، سواء كان الضمير عائداً إلى الشيطان، أو إلى من يتبع خطوات الشيطان، فإن من أتي الفحشاء والمنكر سواء، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه مطيعه عابد له، وإن كان الآتي هو الآمر فالأمر بالفعل أبلغ من فعله، فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه.
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان، والمغني هو مُؤَذِّنُه الذي يدعو إلى طاعته، فإن الغناء رُقْيةُ الزنا، وكذلك من اتباع خطوات الشيطان القول على اللّه بلا علم {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، وهذه حال أهل البدع والفجور، وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمردان وإحضارهم في سماع الغناء، ودعوي محبة صورهم لله، وغير ذلك مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين.
ثم إنه سبحانه نهي المظلوم بالقذف أن يمنع ما ينبغي له فعله من الإحسان إلى ذوي قرابته، والمساكين، وأهل التوبة، وأمره بالعفو والصفح؛ فإنهم كما يحبون أن يغفر اللّه لهم فليعفوا وليصفحوا وليغفروا، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة، وإيتاء المساكين واجب، وإعانة المهاجرين واجب، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه وإساءته في عرضه، كما لا يمنع الرجل ميراثه وحقه من الصدقات والفيء بمجرد ذنب من الذنوب، وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب.
وفي الآية دلالة على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة، وكانت أم مِسْطَح بنت خالة أبي بكر، وقد جعله اللّه من ذوي القربي الذين نهي عن ترك إيتائهم، والنهي يقتضي التحريم، فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل كان الفعل واجباً؛ لأن الحلف على ترك الجائز جائز .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
وكما عظم الله الفاحشة عظم ذكرها بالباطل وهو القذف، فقال بعد ذلك:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} [النور: 4]، ثم ذكر رمي الرجل امرأته، وما أمر فيه من التلاعن، ثم ذكر قصة أهل الإفك، وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف المكذوب عليه، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين؛ لأن دليله كذب ظاهر، ثم أخبر أنه قول بلا حجة، فقال: {للَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به.
وقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]، فهذا بيان لسبب العذاب، وهو تلقي الباطل بالألسنة والقول بالأفواه، وهما نوعان محرمان: القول بالباطل، والقول بلا علم.
ثم قال سبحانه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف.
ففي الأول قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، ويقول النبي صلي الله عليه وسلم ، وكذا قوله:{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لعائشة .
فهذا يقتضي جواز بعض الظن كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الوازع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر.
وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن أن يقول الإنسان ما ليس له به علم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والله تعالى جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ما لم يجعله في شيء من المعاصي؛ لأنه جعل فيها الرجم،وقد رجم هو تعالى قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط، وجعل العقوبة على القذف بها ثمانين جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد، ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين عند كثير منهم، كما قال على: لا أوتي بأحد يفَضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذي، وإذا هذي افتري، وحد الشرب ثمانون، وحد المفتري ثمانون.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [النور: 19].
وهذا ذم لمن يحب ذلك، وذلك يكون بالقلب فقط ويكون مع ذلك باللسان والجوارح، وهو ذم لمن يتكلم بالفاحشة أو يخبر بها محبة لوقوعها في المؤمنين؛ إما حسدًا أو بغضًا، وإما محبة للفاحشة وإرادة لها، وكلاهما محبة للفاحشة وبغضًا للذين آمنوا، فكل من أحب فعلها ذكرها.
وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها، وكذلك ذكرها غيبة محرمة سواء كان بنظم أو نثر، وكذلك التشبه بمن يفعلها منهي عنه؛ مثل الأمر بها، فإن الفعل يطلب بالأمر تارة، وبالإخبار تارة، فهذان الأمران لفجرة الزناة اللوطية؛ مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين، أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء يعتبرون من الاغترار، فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيهم قدوة وأسوة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، قيل: أراد الغناء، وقيل: أراد قصص الملوك من الكفار من الفرس.
وبالجملة، كل ما رَغَّبَ النفوس في طاعة الله ونهاها عن معصيته من خبر أو أمر فهو من طاعته، وكل ما رَغَّبَها في معصيته ونهي عن طاعته فهو من معصيته، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة؛ مثل النهي عنها وعنهم.
والذم لها ولهم، وذكر ما يبغضها وينفر عنها، وذكر أهلها مطلقًا حيث يسوغ ذلك، وما يشرع لهم من الذم في وجوههم ومغيبهم؛ فهذا كله حسن يجب تارة، ويستحب أخري، وكذلك ما يدخل فيها من وصفها ووصف أهلها من العشق على الوجه المشروع الذي يوجب الانتهاء عما نهي الله عنه، والبغض لما يبغضه.
وهذا كما أن الله قص علينا في القرآن قصص الأنبياء والمؤمنين والمتقين، وقصص الفجار والكفار؛ لنعتبر بالأمرين؛ فنحب الأولين وسبيلهم ونقتدي بهم، ونبغض الآخرين وسبيلهم ونجتنب فعالهم.
وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين من ذكر الفاحشـة وعلائقها على وجـه الــذم ما فيه عبرة، قال تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، إلى آخر القصة في مواضع من كتابه.
فهذا لوط خاطب أهل الفاحشة وهو رسول الله بتقريعهم بها بقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهذا استفهام إنكار ونهي، إنكار ذم، ونهي، كالرجل يقول للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ أما تتقي الله؟ ثم قال: {أ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء} [النمل: 55]، وهذا استفهام ثان فيه من الذم والتوبيخ ما فيه، وليس هذا من باب القذف واللمز.
وكذلك قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160]، إلى آخر القصة، فقد واجههم بذمهم وتوبيخهم على فعل الفاحشة، ثم إن أهل الفاحشة توعدوهم وتهددوهم بإخراجهم من القرية، وهذا حال أهل الفجور إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا نفيه وإخراجه، وقد عاقب الله أهل الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوي؛ حيث أمر بنفي الزاني ونفي المخنث، فمضت سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم بنفي هذا وهذا، وهـو سبحانه أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب.
وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} إلى قوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:32ـ 34]، وما ذكره بعد ذلك فمن كلام يوسف من قوله:{مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب انتهار النفوس عن معصية الله والتمسك بالتقوي، وكذلك ما بينه في آخر السورة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
ومع هذا فمن الناس والنساء من يحب سماع هذه السورة لما فيها من ذكر العشق وما يتعلق به؛ لمحبته لذلك ورغبته في الفاحشة، حتي إن من الناس من يقصد إسماعها للنساء وغيرهن لمحبتهم للسوء، ويعطفون على ذلك، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك، حتي قال بعض السلف: كل ما حصلته في سورة يوسف أنفقته في سورة النور. وقد قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ثم قال: {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124- 125].
فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض سماع ذلك إعراضًا عن دفع هذه المحبة وإزالتها، فهو مذموم.
ومن هذا الباب ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في معصية الله وصد عن سبيل الله.
ومن هذا الباب سماع كلام أهل البدع والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية الله، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات، والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وفي مثل قوله: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، ومثل قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} الآية [الشعراء:221]، وما بعدها، ومثل قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان: 6]، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 76]، ومثل قوله: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، ومثل قوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} الآية [الأنعام: 116].
ومثل هذا كثير في القرآن، فأهل المعاصي كثيرون في العالم، بل هم أكثر، كما قال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} الآية.
وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما لا يعلمه إلا الله،وأهلها يدعون الناس إليها، ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم.
فهم أعداء الرسل وأندادهم، فرسل الله يدعون الناس إلى طاعة الله ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون عليها، وينهونهم عن معاصي الله، ويحذرونهم منها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون من يفعلها. وهؤلاء يدعون الناس إلى معصية الله ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة قولا وفعلا، ويجاهدون على ذلك قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، ثم قال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ} [التوبة: 71]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76].
ومثل هذا في القرآن كثير، والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه، وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر، فإن حب الشيء وفعله وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتي يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر، فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ولا فعل ولا ترك، لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلم علمًا مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا.
ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات؛ مثل صفة الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها، فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة فلا نكون مطيعين إلا إذا لم نعلم وجودها، بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها، وكون كل منهما معصية، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة.
وأما معرفة ما يتركه وينهي عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً، فالإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره، وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك، وإلي الجواب عما يعارض به أصحابها من الحجج، وإلي دفع أهوائهم وإراداتهم، وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك، وذلك لا يكون إلا بالصبر، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [ سورة العصر].
وأول ذلك أن نذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها وبيان ما فيها من الفساد، فإن الإنكار بالقلب واللسان قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم؛ يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وضدها والتحذير منها، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان، ومن فيهم من أنبيائه وأوليائه على وجه المدح والحب، وبيان صلاحه ومنفعته، والترغيب فيه،وذلك نحو قوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 ـ 95]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ}الآيات [التوبة: 30].
وهذا كثير جدًا، فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم؛ إما كافر، وإما فاجر بحسب قوله وفعله، وليس منهم من هو بعكسه، وليس عليه عذاب في تركه؛ لكنه لا يثاب على مجرد عـدم ذلك، وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله، وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدني الإيمان؛ كما قال النبي صلي الله عليه وسلم إلى آخره، وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه، ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان، ثم يكون باليد، والنبي صلي الله عليه وسلم قال فيمن رأي المنكر.
فأما إذا رآه فلم يعلم أنه منكر ولم يكرهه لم يكن هذا الإيمان موجودًا في القلب في حال وجوده ورؤيته؛ بحيث يجب بغضه وكراهته، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا، وإذا لم يكن المنكر موجودًا لم يجب ذلك، ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتي ينكره، وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال المنكرات قد يعرض عنها كثير من الناس إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها، حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال؛ وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآية [المجادلة: 22].
وكثير من الناس، بل أكثرهم كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات؛ لا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات فربما مالوا إليها تارة وعنها أخري، فتكون نفس أحدهم لَوَّامَةً بعد أن كانت أَمَّارَةً، ثم إذا ارتقي إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة تاركة للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، فإن هذا شيء آخر داخل في قوله:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} الآيات، إلى قوله: {وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيت} [النساء: 77 ـ 85]، والشفاعة: الإعانة؛ إذ المعين قد صار شفعًا للمعان، فكل من أعان على بر أو تقوي كان له نصيب منه، ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كِفْلٌ منه، وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم من الإعانة على البر والتقوي، والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين، كما قال تعالى قبل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} إلى قوله: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 71ـ76].
ومن هنا يظهر الفرق في السمع والبصر: من الإيمان وآثاره، والكفر وآثاره، والفرق بين المؤمن البر وبين الكافر والفاجر، فإن المؤمنين يسمعون أخبار أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة النبي صلي الله عليه وسلم، وسمعهم لما بلغه عن الله، والكافر والمنافق يسمع ويري على وجه البغض والجهل، كما قال تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51]، وقال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]، وقال: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وقال:{فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71]، وقال تعالى في حق المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، وقال في حق الكفار: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والآيات في هذا كثيرة جدًا.
وكذلك النظر إلى زينة الحياة الدنيا فتنة، فقال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وفي التوبة: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية [التوبة: 55] ، وقال: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية [النور: 30]، وقال: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، وقال:{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}الآيات [الغاشية:17]، وقال:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} الآية [سبأ: 9]، وكذلك قال الـشيطان: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، وقال: { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ} الآيات [الشعراء: 61]، وقال:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} الآية [الأنفال: 43].
فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها منهي عنه، والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه.
وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك وإزالته فمأمور به، وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة، فالعين الواحدة ينظر إليها نظرا مأمورًا به؛ إما للاعتبار، وإما لبغض ذلك والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه، وكذلك الموالاة والمعاداة؛ وقد تحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه وهو يظن أنه نظر عبرة، وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله تعالى فيهم:{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} الآية [التوبة: 49]، فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم فائذن لي في القعود، قال تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول، وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا، بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حُشِرَ معهم، كما حُشِرَت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة؛ لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم.
فمن هذا الباب، قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها؛ مثل القَوَّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة؛ لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك؛ مثل المغنين، وشَرَبَة الخمر، وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة؛ ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين، بخلاف ما إذا كانت قليلة خفيفة خفية، ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهي عن طاعته منهي عنه محرم، بخلاف عكسه فإنه واجب ، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، أي: إن ما فيها من طاعة الله وذكره وامتثال أمره أكبر من ذلك.
وقال في الخمر والميسر:{وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91]، أي: يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهي عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر كما هو الواقع، فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما، فالله تعالى لم يذكر الجماع؛ لأن الخمر لا تدعو إلى الحرام بعينه من الجماع، فيأتي شارب الخمر ما يمكنه من الجماع، سواء كان حلالا أو حرامًا، والسكر يزيل العقل الذي كان يميز السكران به بين الحلال والحرام، والعقل الصحيح ينهي عن مواقعة الحرام، ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش ما لا يكثر من غيرها حتي ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه، وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه، ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالباطل: من سرقة، ومحاربة، وغير ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغيره من فواحش وغناء.
وشرب الخمر يظْهِرُ أسرار الرجال حتي يتكلم شاربه بما في باطنه، وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار يسقونهم الخمر، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به.
وأيضًا، فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره ومصلحته في معاشه ومعاده، وجميع أموره التي يدبرها برأيه وعقله، فجميع الأمور التي تصد عنها الخمر من المصالح وتوقعها من المفاسد داخلة في قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 91].
وكذلك، إيقاع العداوة والبغضاء هي منتهي قصد الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب توقع العداوة والبغضاء، وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من معصية الله، والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها، ولا يرضي بغاية ما قدر على ذلك.
وأيضًا، فالعداوة والبغضاء شر محض لا يحبها عاقل؛ بخلاف المعاصي فإن فيها لذة كالخمر والفواحش؛ فإن النفوس تريد ذلك، والشيطان يدعو إليها النفوس حتي يوقعها في شر لا تهواه ولا تريده ، والله تعالى قد بين ما يريده الشيطان بالخمر والميسر ولم يذكر ما يريده الإنسان ، ثم قال في سورة النور:{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَر}ِِ [النور:21]، وقال في سورة البقرة: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168- 169]، فنهي عن اتباع خطواته وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم، وقال فيها: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: 268]، فالشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر والسوء، والله يعد المغفرة والفضل،ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقال عن نبيه: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقال عن أمته: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر}ِِ [التوبة: 71].
وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة. فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي، وكذلك المعروف: تارة يخصه بالأمر، وتارة يقرن به غيره كما في قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وذلك لأن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب؛ كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد كان عامًا لما يدلان عليه عند الاقتران؛ بخلاف اقترانهما فإنه يكون معني كل منهما ليس هو معني الآخر، بل أخص من معناه عند الإفراد، وأيضًا، فقد يعطف على الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التخصيص، ثم قد قيل: إن ذلك المخصص يكون مذكورًا بالمعني العام والخاص.
فإذا عرف هذا، فاسم (المنكر) يعم كل ما كرهه الله ونهي عنه وهو المبغض،واسم (المعروف) يعم كل ما يحبه اللّه ويرضاه ويأمر به، فحيث أفردا بالذكر فإنهما يعمان كل محبوب في الدين ومكروه، وإذا قرن المنكر بالفحشاء فإن الفحشاء مبناها على المحبة والشهوة، و(المنكر) هو الذي تنكره القلوب، فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول في المنكر، وإن كانت مما تنكرها القلوب فإنها تشتهيها النفوس، و(المنكر) قد يقال: إنه يعم معني الفحشاء، وقد يقال: خصت لقوة المقتضي لما فيها من الشهوة، وقد يقال: قصد بالمنكر ما ينكر مطلقا والفحشاء لكونها تشتهي وتحب، وكذلك (البغي) قرن بها؛ لأنه أبعد عن محبة النفوس.
ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء، ومنشؤه من قوة الغضب، كما أن الفحشاء منشؤها عن قوة الشهوة، ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها، فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر، وأما الإشراك والقول على اللّه بلا علم فإنه منكر محض ليس في النفوس ميل إليهما؛ بل إنما يكونان عن عناد وظلم، فهما منكر وظلم محض بالفطرة.
فهذه الخصال فساد في القوة العلمية والعملية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، سواء كان الضمير عائداً إلى الشيطان، أو إلى من يتبع خطوات الشيطان، فإن من أتي الفحشاء والمنكر سواء، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه مطيعه عابد له، وإن كان الآتي هو الآمر فالأمر بالفعل أبلغ من فعله، فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه.
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان، والمغني هو مُؤَذِّنُه الذي يدعو إلى طاعته، فإن الغناء رُقْيةُ الزنا، وكذلك من اتباع خطوات الشيطان القول على اللّه بلا علم {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، وهذه حال أهل البدع والفجور، وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمردان وإحضارهم في سماع الغناء، ودعوي محبة صورهم لله، وغير ذلك مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين.
ثم إنه سبحانه نهي المظلوم بالقذف أن يمنع ما ينبغي له فعله من الإحسان إلى ذوي قرابته، والمساكين، وأهل التوبة، وأمره بالعفو والصفح؛ فإنهم كما يحبون أن يغفر اللّه لهم فليعفوا وليصفحوا وليغفروا، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة، وإيتاء المساكين واجب، وإعانة المهاجرين واجب، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه وإساءته في عرضه، كما لا يمنع الرجل ميراثه وحقه من الصدقات والفيء بمجرد ذنب من الذنوب، وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب.
وفي الآية دلالة على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة، وكانت أم مِسْطَح بنت خالة أبي بكر، وقد جعله اللّه من ذوي القربي الذين نهي عن ترك إيتائهم، والنهي يقتضي التحريم، فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل كان الفعل واجباً؛ لأن الحلف على ترك الجائز جائز .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
- التصنيف: