تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى من سورة الحجر
منذ 2008-02-01
السؤال: فصــل في تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى
الإجابة:
في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعني، يخفي معناها على أكثر الناس .
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 41- 42].
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ}[النحل: 9].
وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل:12-13].
فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولي ثلاثة أقوال، بخلاف الآيتين الأخريين، فإنه لم يذكر فيهما إلا قولا واحدًا.
فقال في تلك الآية: اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعني بقوله هذا: الإخلاص. فالمعنى أن الإخلاص طريق إلى مستقيم، و(علي) بمعنى (إلي).
والثاني: هذا طريق على جوازه، لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم. وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك علي، فهو كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
والثالث: هذا صراط على استقامته، أي: أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان.
قال: وقرأ قتادة، ويعقوب:(هَذَا صرِاَطٌ على) أي: رفيع.
قلت: هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها مَنْ قبله، كالثعلبي، والواحدي، والبغوي، وذكروا قولا رابعًا.
فقالوا واللفظ للبغوي، وهو مختصر الثعلبي:
قال الحسن: معناه صراط إلى مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلي، وعليه طريقه لا يعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة على الصراط المستقيم.
وقال الكسائي: هذا على التهديد والوعيد، كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقك علي، أي: لا تفلت مني، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
وقيل: معناه: على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية.
فذكروا الأقوال الثلاثة، وذكروا قول الأخفش: على الدلالة على الصراط المستقيم.
وهو يشبه القول الأخير، لكن بينهما فرق.
فإن ذاك يقول: على استقامته بإقامة الأدلة.
فمن سلكه كان على صراط مستقيم.
والآخر يقول: على أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج.
ففي كلا القولين أنه بَينَ الصراط المستقيم بنصب الأدلة، لكن هذا جعل الدلالة عليه، وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان؛ ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعًا.
وذكروا القراءة الأخري عن يعقوب وغيره: أي: رفيع.
قال البغوي: وعبر بعضهم عنه: (رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال).
<<br> قلت: القول الصواب: هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن.
لاسيما مجاهد فإنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية، وأسأله عنها.
وقال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
والأئمة كالشافعي، وأحمد، والبخاري، ونحوهم، يعتمدون على تفسيره، والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه.
والحسن البصري أعلم التابعين بالبصرة.
وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه، رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره، من تفسير ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:41] الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء.
وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ: (عَلِي) فقال: أي: رفيع مستقيم.
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل. فروي من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، قال: طريق الحق على الله.
قال: وروي عن السدي أنه قال: الإسلام.
وعطاء قال: هي طريق الجنة.
فهذه الأقوال قول مجاهد، والسدي، وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد، والحسن، في تلك الآية.
وذكر ابن أبي حاتم من تفسير العوفي، عن ابن عباس، في قوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، يقول: على الله البيان أن يبين الهدي والضلالة.
وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين، ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط.
وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني ، وذكره عن الزجاج ، فقال:{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، القصد: استقامة الطريق ، يقال: طريق قَصْدٍ، وقاصد، إذا قصد بك إلى ما تريد، قال الزجاج: المعني: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين.
وكذلك الثعلبي، والبغوي، ونحوهما، لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين.
قال البغوي: يعني بيان طريق الهدي من الضلالة.
وقيل: بيان الحق بالآيات والبراهين.
قال: والقصد: الصراط المستقيم، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} : يعني: ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج.
فالقصد من السبيل: دين الإسلام، والجائر منها: اليهودية، والنصرانية، وسائر ملل الكفر.
قال جابر بن عبد الله: قصد السبيل: بيان الشرائع والفرائض.
وقال عبد الله بن المبارك، وسهل بن عبد الله: قصد السبيل: السنة، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}: الأهواء والبدع.
دليله: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر، ذكره في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12]، عن الفراء، كما سيأتي.
فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعًا لمن قبله، كالثعلبي وغيره.
والمهدوي ذكر في الآية الأولي قولين من الثلاثة، وذكر في الثانية ما رواه العوفي، وقولا آخر.
فقال: قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، أي: على أمري وإرادتي.
وقيل: هو على التهديد، كما يقال: على طريقك وإلى مصيرك.
وقال في قوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال ابن عباس: أي بيان الهدي من الضلال. وقيل: السبيل: الإسلام، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: ومن السبيل جائر، أي عادل عن الحق.
وقيل: المعني: وعنها جائر، أي: عن السبيل، فـ (من) بمعنى (عن).
وقيل: معنى قصد السبيل: سيركم ورجوعكم، والسبيل واحدة بمعنى الجمع.
قلت: هذا قول بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الإرادة،أي: عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم ورجوعكم.
وهو كلام من لم يفهم الآية.
فإن (السبيل القصد) هي: السبيل العادلة،أي: عليه السبيل القصد.
و(السبيل):اسم جنس؛ ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}، أي: عليه القصد من السبيل، ومن السبيل جائر.
فأضافه إلى اسم الجنس إضافة النوع إلى الجنس، أي: (القصد من السبيل)، كما تقول: ثوب خز،ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}.
وأما من ظن أن التقدير: قصدكم السبيل؛ فهذا لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجوه متعددة.
وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي، وهو أضعف الأقوال، وذكر المعنى الصحيح تفسـيرًا للقـراءة الأخري.
فذكر أن جماعـة مـن السلف قـرؤوا: ( على مستقيم) مـن العلـو والرفعـة.
قال:والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص قال الله له:هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله.
قال: وقرأ جمهور الناس: {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص.
لما قسم إبليس هذين القسمين قال الله: هذا طريق على أي: هذا أمر إلى مصيره.
والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه يصير النظر في أمرك.
وهذا نحو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد}ِِ [الفجر:14].
قال: والآية على هذه القراءة خبر يتضمن وعيدًا.
قلت: هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها.
وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف ، ودل عليه السياق والنظائر.
وكلام العرب لا يدل على هذا القول.
فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده: على طريقك، فإنه لا يقول: إن طريقك مستقيم.
وأيضا، فالوعيد إنما يكون للمسيء، لا يكون للمخلصين.
فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء؟ هؤلاء سلكوا الطريق المستقيم التي تدل على الله، وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة.
وأيضًا، فإنما يقول لغيره في التهديد: طريقك علي، من لا يقدر عليه في الحال، لكن ذاك يمر بنفسه عليه وهو متمكن منه، كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأن طريقكم علينا، لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدًا وأصحابه.
كما قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة: لا أراك تطوف بالبيت آمنًا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم، فقال: لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة، أو نحو هذا.
فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم، فيتمكنون حينئذ من جزائهم.
ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا، كما قالت الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12]، وقال: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} [العنكبوت: 22].
وإذا كانت العرب تقول ما ذكره، يقولون: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه يصير أمرك، فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف، كما قال مجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء، فطريق الحق على الله، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه: { هّذّا صٌرّاطِ على مٍسًتّقٌيمِ } كما فسرت به القراءة الأخري.
فالصراط في القراءتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين أن يسألوه إياه في صلاتهم،فيقولوا:{اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6، 7].
وهو الذي وصي به في قوله:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره، وهو قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فتعبد العباد له بإخلاص الدين له: طريق يدل عليه، وهو طريق مستقيم؛ ولهذا قال بعده: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
وابن عطية ذكر أن هذا معني الآية في تفسير الآية الأخري مستشهدًا به، مع أنه لم يذكره في تفسيرها، فهو بفطرته عرف أن هذا معني الآية، ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول، كأنه هو الذي اتفق أن رأي غيره قد قاله هناك.
فقال رحمه الله:
وقوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9].
وهذه أيضًا من أجل نعم الله تعالى أي: على الله تقويم طريق الهدي وتبيينه، وذلك بنصب الأدلة وبعث الرسل.
وإلى هذا ذهب المتأولون.
قال: ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه، وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أي: لا يفضي إلى رحمتك.
وطريق قاصد معناه: بينٌ مستقيم قريب، ومنه قول الراجز:
بعيد عن نهج الطريق القاصد
قال: والألف واللام في (السبيل) للعهد، وهي سبيل الشرع،وليست للجنس،ولو كانت للجنس لم يكن منها جائر.
وقوله:{وَمِنْهَا جَآئِرٌ}:يريد طريق اليهود،والنصارى، وغيرهم كعبَّاد الأصنام.
والضمير في (منها): يعود على (السبيل) التي يتضمنها معني الآية،كأنه قال: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر لها ذكر؛لتضمن لفظة (السبيل) بالمعنى لها.
قال: ويحتمل أن يكون الضمير في (منها) على سبيل الشرع المذكورة، وتكون (من) للتبعيض، ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه قال: ومن بنيات الطريق من هذه السبيل ومن شعبها جائر.
قلت: سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه.
ولا يقال: إن ذلك من السبيل المشروعة.
وأما قوله: إن قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} هي سبيل الشرع، وهي سبيل الهدي، والصراط المستقيم.
وأنها لو كانت للجنس لم يكن منها جائر، فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية، وهو مرجوح.
والصحيح الوجه الآخر أن (السبيل) اسم جنس، ولكن الذي على الله هو القصد منها، وهي سبيل واحد، ولما كان جنسًا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} ، والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف.
وقوله: لو كان للجنس لم يكن منها جائر، ليس كذلك. فإنها ليست كلها عليه، بل إنما عليه القصد منها، وهي سبيل الهدي، والجائر ليس من القصد.
وكأنه ظن أنه إذا كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل، وليس كذلك.
بل إنما عليه سبيل واحدة، وهي الصراط المستقيم هي التي تدل عليه، وسائرها سبل الشيطان، كما قال: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال، وفي تمثيله ذلك بقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
وأما آية الليل قوله:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] فابن عطية مثَّلها بهذه الآية، لكنه فسرها بالوجه الأول فقال:
ثم أخبر تعالى أن عليه هدي الناس جميعًا، أي: تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك، كما قال: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}،، ثم كل أحد يتكسب ما قدر له.
وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان، ولو كان كذلك لم يوجد كافر.
قلت: وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج. قال الزجاج: إن علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلال.
وهذا التفسير ثابت عن قتادة، رواه عبد بن حميد.
قال: حدثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، علينا بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد، عن قتادة في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، فتبين به حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وأما الثعلبي، والواحدي، والبغوي، وغيرهم، فذكروا القولين وزادوا أقوالاً أخر.
فقالوا واللفظ للبغوي: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، يعني البيان.
قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلالة.
وهو قول قتادة، قال: على الله بيان حلاله وحرامه.
وقال الفراء: يعني من سلك الهدي فعلى الله سبيله، كقوله تعالي: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد.
قال:وقيل معناه:إن علينا للهدي والإضلال، كقوله:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26].
قلت: هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف، وكذلك ما أشبهه.
فإنهم قالوا: معناه بيدك الخير والشر، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول .
والله تعالى خالق كل شيء، لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، والقدر حق.
لكن فهم القرآن، ووضع كل شيء موضعه، وبيان حكمة الرب وعدله مع الإيمان بالقدر، هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
<<br> وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة، فقال: إن علينا للهدى والضلال.
فحذَّف قتادة. المعنى: إن علينا بيان الحلال والحرام.
وقيل: المعنى: إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى.
قلت: هذا هو قول الفراء، لكن عبارة الفراء أبين في معرفة هذا القول.
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله.
ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم.
والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين.
وأما الثاني، فقد يقول طائفة: ليس على الله شيء لا بيان هذا، ولا هذا.
فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه؟ كما قال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}[هود: 6].
وإذا كان عليه بيان الهدي من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته،فهذا يوافق قول من يقول:إن عليه إرسال الرسل،وإن ذلك واجب عليه، فإن البيان لا يحصل إلا بهذا.
وهذا يتعلق بأصل آخر، وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه أوجبته مشيئته وحكمته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب وجوده، وما لم يشأه امتنع وجوده.
وبسط هذا له موضع آخر.
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر.
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعًا،وأنه أرشد بها إلى الطريق المستقيم، وهي الطريق القصد،وهي الهدي إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه.
لكن نشأت الشبهة من كونه قال: (علينا) بحرف الاستعلاء، ولم يقل: (إلينا)، والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال: هذه الطريق إلى فلان، ولمن يمر به ويجتاز عليه أن يقول: طريقنا على فلان.
وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء.
وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء.
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا،كما قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]،وقال: {وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران : 28]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25]، أي: إلينا مرجعهم، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:60ـ62]، وقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم:36 ـ 42]، وقال: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه، لابد له من لقاء الله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدي وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه، وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان.
وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله؛ فلهذا قال: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
فالهدي، وقصد السبيل، والصراط المستقيم، إنما يدل على عبادته وطاعته لا يدل على معصيته وطاعة الشيطان.
<<br> فالكلام تضمن معني الدلالة، إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة، فإن الجزاء يعم الخلق كلهم، بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على ذلك؟ فكأنه قيل: الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته.
وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون:هذه الطريق على فلان،إذا كانت تدل عليه، وكان هو الغاية المقصود بها،وهذا غير كونها عليه بمعني: أن صاحبها يمر عليه.
وقد قيل:
فهــن المنـايـا أي واد سلكتــه ** عليها طريقي أو على طريقها
وهو كما قال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله.
فالمقصود بالسبيل هو: الذي يدل ويوقع عليه، كما يقال : إن سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود، ونحو ذلك، وكما يقال: على الخبير سقطت.
فإن الغاية المطلوبة إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها.
وأيضًا، فسالك طريق الله متوكل عليه.
فلابد له من عبادته ومن التوكل عليه.
فإذا قيل: عليه الطريق المستقيم.
تضمن أن سالكه عليه يتوكل، وعليه تدله الطريق، وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط، لا يعدل عن ذلك، إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية.
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم.
فعليه الصراط المستقيم، وهو على صراط مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعني، يخفي معناها على أكثر الناس .
قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 41- 42].
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ}[النحل: 9].
وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل:12-13].
فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولي ثلاثة أقوال، بخلاف الآيتين الأخريين، فإنه لم يذكر فيهما إلا قولا واحدًا.
فقال في تلك الآية: اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعني بقوله هذا: الإخلاص. فالمعنى أن الإخلاص طريق إلى مستقيم، و(علي) بمعنى (إلي).
والثاني: هذا طريق على جوازه، لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم. وهو خارج مخرج الوعيد، كما تقول للرجل تخاصمه: طريقك علي، فهو كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
والثالث: هذا صراط على استقامته، أي: أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان.
قال: وقرأ قتادة، ويعقوب:(هَذَا صرِاَطٌ على) أي: رفيع.
قلت: هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها مَنْ قبله، كالثعلبي، والواحدي، والبغوي، وذكروا قولا رابعًا.
فقالوا واللفظ للبغوي، وهو مختصر الثعلبي:
قال الحسن: معناه صراط إلى مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلي، وعليه طريقه لا يعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة على الصراط المستقيم.
وقال الكسائي: هذا على التهديد والوعيد، كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقك علي، أي: لا تفلت مني، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
وقيل: معناه: على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية.
فذكروا الأقوال الثلاثة، وذكروا قول الأخفش: على الدلالة على الصراط المستقيم.
وهو يشبه القول الأخير، لكن بينهما فرق.
فإن ذاك يقول: على استقامته بإقامة الأدلة.
فمن سلكه كان على صراط مستقيم.
والآخر يقول: على أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج.
ففي كلا القولين أنه بَينَ الصراط المستقيم بنصب الأدلة، لكن هذا جعل الدلالة عليه، وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان؛ ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعًا.
وذكروا القراءة الأخري عن يعقوب وغيره: أي: رفيع.
قال البغوي: وعبر بعضهم عنه: (رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال).
<<br> قلت: القول الصواب: هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن.
لاسيما مجاهد فإنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية، وأسأله عنها.
وقال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
والأئمة كالشافعي، وأحمد، والبخاري، ونحوهم، يعتمدون على تفسيره، والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه.
والحسن البصري أعلم التابعين بالبصرة.
وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه، رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره، من تفسير ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:41] الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء.
وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ: (عَلِي) فقال: أي: رفيع مستقيم.
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل. فروي من طريق ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، قال: طريق الحق على الله.
قال: وروي عن السدي أنه قال: الإسلام.
وعطاء قال: هي طريق الجنة.
فهذه الأقوال قول مجاهد، والسدي، وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد، والحسن، في تلك الآية.
وذكر ابن أبي حاتم من تفسير العوفي، عن ابن عباس، في قوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، يقول: على الله البيان أن يبين الهدي والضلالة.
وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين، ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط.
وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني ، وذكره عن الزجاج ، فقال:{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، القصد: استقامة الطريق ، يقال: طريق قَصْدٍ، وقاصد، إذا قصد بك إلى ما تريد، قال الزجاج: المعني: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين.
وكذلك الثعلبي، والبغوي، ونحوهما، لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين.
قال البغوي: يعني بيان طريق الهدي من الضلالة.
وقيل: بيان الحق بالآيات والبراهين.
قال: والقصد: الصراط المستقيم، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} : يعني: ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج.
فالقصد من السبيل: دين الإسلام، والجائر منها: اليهودية، والنصرانية، وسائر ملل الكفر.
قال جابر بن عبد الله: قصد السبيل: بيان الشرائع والفرائض.
وقال عبد الله بن المبارك، وسهل بن عبد الله: قصد السبيل: السنة، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}: الأهواء والبدع.
دليله: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر، ذكره في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل:12]، عن الفراء، كما سيأتي.
فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعًا لمن قبله، كالثعلبي وغيره.
والمهدوي ذكر في الآية الأولي قولين من الثلاثة، وذكر في الثانية ما رواه العوفي، وقولا آخر.
فقال: قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، أي: على أمري وإرادتي.
وقيل: هو على التهديد، كما يقال: على طريقك وإلى مصيرك.
وقال في قوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قال ابن عباس: أي بيان الهدي من الضلال. وقيل: السبيل: الإسلام، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: ومن السبيل جائر، أي عادل عن الحق.
وقيل: المعني: وعنها جائر، أي: عن السبيل، فـ (من) بمعنى (عن).
وقيل: معنى قصد السبيل: سيركم ورجوعكم، والسبيل واحدة بمعنى الجمع.
قلت: هذا قول بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الإرادة،أي: عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم ورجوعكم.
وهو كلام من لم يفهم الآية.
فإن (السبيل القصد) هي: السبيل العادلة،أي: عليه السبيل القصد.
و(السبيل):اسم جنس؛ ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}، أي: عليه القصد من السبيل، ومن السبيل جائر.
فأضافه إلى اسم الجنس إضافة النوع إلى الجنس، أي: (القصد من السبيل)، كما تقول: ثوب خز،ولهذا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}.
وأما من ظن أن التقدير: قصدكم السبيل؛ فهذا لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجوه متعددة.
وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي، وهو أضعف الأقوال، وذكر المعنى الصحيح تفسـيرًا للقـراءة الأخري.
فذكر أن جماعـة مـن السلف قـرؤوا: ( على مستقيم) مـن العلـو والرفعـة.
قال:والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الإخلاص لما استثني إبليس من أخلص قال الله له:هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهله.
قال: وقرأ جمهور الناس: {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص.
لما قسم إبليس هذين القسمين قال الله: هذا طريق على أي: هذا أمر إلى مصيره.
والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه يصير النظر في أمرك.
وهذا نحو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد}ِِ [الفجر:14].
قال: والآية على هذه القراءة خبر يتضمن وعيدًا.
قلت: هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها.
وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف ، ودل عليه السياق والنظائر.
وكلام العرب لا يدل على هذا القول.
فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده: على طريقك، فإنه لا يقول: إن طريقك مستقيم.
وأيضا، فالوعيد إنما يكون للمسيء، لا يكون للمخلصين.
فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص، وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء؟ هؤلاء سلكوا الطريق المستقيم التي تدل على الله، وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة.
وأيضًا، فإنما يقول لغيره في التهديد: طريقك علي، من لا يقدر عليه في الحال، لكن ذاك يمر بنفسه عليه وهو متمكن منه، كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأن طريقكم علينا، لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدًا وأصحابه.
كما قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة: لا أراك تطوف بالبيت آمنًا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم، فقال: لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة، أو نحو هذا.
فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم، فيتمكنون حينئذ من جزائهم.
ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا، كما قالت الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12]، وقال: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} [العنكبوت: 22].
وإذا كانت العرب تقول ما ذكره، يقولون: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه يصير أمرك، فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف، كما قال مجاهد: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه لا يعرج على شيء، فطريق الحق على الله، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه: { هّذّا صٌرّاطِ على مٍسًتّقٌيمِ } كما فسرت به القراءة الأخري.
فالصراط في القراءتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين أن يسألوه إياه في صلاتهم،فيقولوا:{اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6، 7].
وهو الذي وصي به في قوله:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره، وهو قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فتعبد العباد له بإخلاص الدين له: طريق يدل عليه، وهو طريق مستقيم؛ ولهذا قال بعده: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
وابن عطية ذكر أن هذا معني الآية في تفسير الآية الأخري مستشهدًا به، مع أنه لم يذكره في تفسيرها، فهو بفطرته عرف أن هذا معني الآية، ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول، كأنه هو الذي اتفق أن رأي غيره قد قاله هناك.
فقال رحمه الله:
وقوله: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9].
وهذه أيضًا من أجل نعم الله تعالى أي: على الله تقويم طريق الهدي وتبيينه، وذلك بنصب الأدلة وبعث الرسل.
وإلى هذا ذهب المتأولون.
قال: ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه، وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}، وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أي: لا يفضي إلى رحمتك.
وطريق قاصد معناه: بينٌ مستقيم قريب، ومنه قول الراجز:
بعيد عن نهج الطريق القاصد
قال: والألف واللام في (السبيل) للعهد، وهي سبيل الشرع،وليست للجنس،ولو كانت للجنس لم يكن منها جائر.
وقوله:{وَمِنْهَا جَآئِرٌ}:يريد طريق اليهود،والنصارى، وغيرهم كعبَّاد الأصنام.
والضمير في (منها): يعود على (السبيل) التي يتضمنها معني الآية،كأنه قال: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر لها ذكر؛لتضمن لفظة (السبيل) بالمعنى لها.
قال: ويحتمل أن يكون الضمير في (منها) على سبيل الشرع المذكورة، وتكون (من) للتبعيض، ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه قال: ومن بنيات الطريق من هذه السبيل ومن شعبها جائر.
قلت: سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه.
ولا يقال: إن ذلك من السبيل المشروعة.
وأما قوله: إن قوله: {قَصْدُ السَّبِيلِ} هي سبيل الشرع، وهي سبيل الهدي، والصراط المستقيم.
وأنها لو كانت للجنس لم يكن منها جائر، فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية، وهو مرجوح.
والصحيح الوجه الآخر أن (السبيل) اسم جنس، ولكن الذي على الله هو القصد منها، وهي سبيل واحد، ولما كان جنسًا قال: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} ، والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف.
وقوله: لو كان للجنس لم يكن منها جائر، ليس كذلك. فإنها ليست كلها عليه، بل إنما عليه القصد منها، وهي سبيل الهدي، والجائر ليس من القصد.
وكأنه ظن أنه إذا كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل، وليس كذلك.
بل إنما عليه سبيل واحدة، وهي الصراط المستقيم هي التي تدل عليه، وسائرها سبل الشيطان، كما قال: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال، وفي تمثيله ذلك بقوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
وأما آية الليل قوله:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] فابن عطية مثَّلها بهذه الآية، لكنه فسرها بالوجه الأول فقال:
ثم أخبر تعالى أن عليه هدي الناس جميعًا، أي: تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك، كما قال: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}،، ثم كل أحد يتكسب ما قدر له.
وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان، ولو كان كذلك لم يوجد كافر.
قلت: وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج. قال الزجاج: إن علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلال.
وهذا التفسير ثابت عن قتادة، رواه عبد بن حميد.
قال: حدثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، علينا بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد، عن قتادة في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، فتبين به حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وأما الثعلبي، والواحدي، والبغوي، وغيرهم، فذكروا القولين وزادوا أقوالاً أخر.
فقالوا واللفظ للبغوي: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، يعني البيان.
قال الزجاج: علينا أن نبين طريق الهدي من طريق الضلالة.
وهو قول قتادة، قال: على الله بيان حلاله وحرامه.
وقال الفراء: يعني من سلك الهدي فعلى الله سبيله، كقوله تعالي: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد.
قال:وقيل معناه:إن علينا للهدي والإضلال، كقوله:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26].
قلت: هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف، وكذلك ما أشبهه.
فإنهم قالوا: معناه بيدك الخير والشر، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول .
والله تعالى خالق كل شيء، لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، والقدر حق.
لكن فهم القرآن، ووضع كل شيء موضعه، وبيان حكمة الرب وعدله مع الإيمان بالقدر، هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
<<br> وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة، فقال: إن علينا للهدى والضلال.
فحذَّف قتادة. المعنى: إن علينا بيان الحلال والحرام.
وقيل: المعنى: إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى.
قلت: هذا هو قول الفراء، لكن عبارة الفراء أبين في معرفة هذا القول.
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله.
ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم.
والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين.
وأما الثاني، فقد يقول طائفة: ليس على الله شيء لا بيان هذا، ولا هذا.
فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه؟ كما قال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}[هود: 6].
وإذا كان عليه بيان الهدي من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته،فهذا يوافق قول من يقول:إن عليه إرسال الرسل،وإن ذلك واجب عليه، فإن البيان لا يحصل إلا بهذا.
وهذا يتعلق بأصل آخر، وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه أوجبته مشيئته وحكمته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاءه وجب وجوده، وما لم يشأه امتنع وجوده.
وبسط هذا له موضع آخر.
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر.
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعًا،وأنه أرشد بها إلى الطريق المستقيم، وهي الطريق القصد،وهي الهدي إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه.
لكن نشأت الشبهة من كونه قال: (علينا) بحرف الاستعلاء، ولم يقل: (إلينا)، والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال: هذه الطريق إلى فلان، ولمن يمر به ويجتاز عليه أن يقول: طريقنا على فلان.
وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء.
وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء.
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا،كما قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]،وقال: {وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران : 28]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25]، أي: إلينا مرجعهم، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:60ـ62]، وقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم:36 ـ 42]، وقال: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه، لابد له من لقاء الله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31].
وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدي وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه، وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان.
وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله؛ فلهذا قال: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}، {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
فالهدي، وقصد السبيل، والصراط المستقيم، إنما يدل على عبادته وطاعته لا يدل على معصيته وطاعة الشيطان.
<<br> فالكلام تضمن معني الدلالة، إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة، فإن الجزاء يعم الخلق كلهم، بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على ذلك؟ فكأنه قيل: الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته.
وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون:هذه الطريق على فلان،إذا كانت تدل عليه، وكان هو الغاية المقصود بها،وهذا غير كونها عليه بمعني: أن صاحبها يمر عليه.
وقد قيل:
فهــن المنـايـا أي واد سلكتــه ** عليها طريقي أو على طريقها
وهو كما قال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله.
فالمقصود بالسبيل هو: الذي يدل ويوقع عليه، كما يقال : إن سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود، ونحو ذلك، وكما يقال: على الخبير سقطت.
فإن الغاية المطلوبة إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها.
وأيضًا، فسالك طريق الله متوكل عليه.
فلابد له من عبادته ومن التوكل عليه.
فإذا قيل: عليه الطريق المستقيم.
تضمن أن سالكه عليه يتوكل، وعليه تدله الطريق، وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط، لا يعدل عن ذلك، إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية.
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم.
فعليه الصراط المستقيم، وهو على صراط مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
- التصنيف: