فصــل في {أفمن كان على بينة من ربه}
ابن تيمية
- التصنيفات: التفسير -
السؤال: فصــل في تفسير قوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه}
الإجابة:
وأما من قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد: 14]: إنه محمد صلي الله عليه وسلم، كما قاله طائفة من السلف، فقد يريدون بذلك التمثيل لا التخصيص، فإن المفسرين كثيرًا ما يريدون ذلك، ومحمد هو أول من كان على بينة من ربه، وتلاه شاهد منه، وكذلك الأنبياء، وهو أفضلهم وإمامهم، والمؤمنون تبع له، وبه صاروا على بينة من ربهم.
والخطاب قد يكون لفظه له ومعناه عام، كقوله:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ،{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: 7] ، {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، ونحو ذلك، وذلك أن الأصل فيما خوطب به النبي صلي الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سار في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها، حتى يقوم دليل التخصيص، فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص،هذا مذهب السلف والفقهاء، ودلائل ذلك كثيرة كقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب:37]، ولما أباح له الموهوبة قال:{خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الأحزاب: 50].
فإذا كان هـذا مع كـون الصيغـة خاصـة فكيف تجعل الصيغة العامة له وللمؤمنين مختصة به؟ ولفظ {ّمّن}: أبلغ صيغ العموم، لاسيما إذا كانت شرطًا أو استفهامًا، كقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7- 8]، وقوله:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]،وقوله {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]،وقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14].
وأيضًا، فقد ذكر بعد ذلك قوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]، وذكر بعد هذا: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} [هود:24]، وقد تقدم قبل هذا ذكر الفريقين، وقوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارة إلى جماعة، ولم يقدم قبل هذا ما يصلح أن يكون مشارًا إليه إلا {من}، والضمير يعود تارة إلى لفظ: {من} ، وتارة إلى معناها، كقوله:{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام:25]، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]،{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [النساء: 124]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97].
وأما الإشارة إلى معناها فهو أظهر من الضمير، فقوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود:17]: دليل على أن الذي على بينة من ربه كثيرون لا واحد، قال ابن أبي حاتم: ثنا عامر بن صالح عن أبيه عن الحسن البصري: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}.
قال: المؤمن على بينة من ربه، وهذا الذي قاله الحسن البصري هو الصواب، والرسول هو أول المؤمنين، كما قال:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104].
ومـن قـال: إن الشاهـد مـن الله هو محمـد كما رواه ابن أبي حاتم، ثنا الأشَجُّ، ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان الفلاني، عن الحسين بن علي: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} يعني: محمدًا شاهدًا من الله، فهنا معنى كونه شاهدًا من الله هو معنى كونه رسول الله، وهو يشهد المؤمنين بأنهم على حق، وإن كان يشهد لنفسه بأنه رسول الله فشهادته لنفسه معلومة، قد علم أنه صادق فيها بالبراهين الدالة على نبوته،وأما شهادته للمؤمنين فهو أنها إنما تعلم من جهته بما بَلَغَه من القرآن،ويخبر به عن ربه،فهو إذا شهد كان شاهدًا من الله.
وأما شهادته عليهم بالإيمان والتصديق وغير ذلك، فكما في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41]، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، لكن من قال هذا فقد يريد بالبينة القرآن، فإن المؤمن متبع للقرآن، ومحمد شاهد من الله يتلوه كما تلاه جبريل.
ومن قال:إن الشاهد لسان محمد فهو إنما أراد بهذا القول التلاوة أي:أن لسان محمد يقرأ القرآن،وهو شاهد منه أي من نفسه فإن لسانه جزء منه،وهذا القول ونحوه ضعيف، والله أعلم.
ههذا إن ثبت ذلك عمن نقل عنه،فإن هذا وضده ينقلان عن على بن أبي طالب.
وذلك أن طائفة من جُهَّال الشيعة ظنوا أن عليا هو الشاهد منه، أي من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال له .
وهذا قاله لغيره أيضًا فقد ثبت في الصحيحين أنه قال ، وقال عن جُلَيبِيبِ ،، وكل مؤمن هو من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وقال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، ورووا هذا القول عن على نفسه، وروي عنه بإسناد أجود منه أنه قال: كذب من قال هذا، قال ابن أبي حاتم: ذكر عن حسين بن زيد الطَّحَّان، ثنا إسحاق ابن منصور، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَالِ، عن عبَّاد بن عبد الله قال: قال علي: ما من قريش أحد إلا نزلت فيه آية، قيل: فما أنزل فيك؟ قال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} وهذا كذب على علي قطعًا.
وإن ثبت النقل عن عباد هذا، فإن له منكرات عنه، كقوله: أنا الصديق الأكبر، أسلمت قبل الناس بسبع سنين.
وقد رووا عن على ما يعارض ذلك، قال ابن أبي حاتم، ثنا أبي، ثنا عمرو بن على البَاهِلِي، ثنا محمد بن شِوَاص، ثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن عُرْوَة، عن محمد ابن على يعني ابن الحنفـية قال: قلت لأبي:يا أبة {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: إن الناس يقولون: إنك أنت هو، قال: وددت لو أني أنا هو.
ولكنه لسانه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك.
قلت: وقد تقدم عن الحسين ابنه أن (الشاهد منه): هو محمد صلي الله عليه وسلم، وإنما تكلم علماء أهل البيت في أنه محمد ردًا على من قال من الجهلة: إنه علي؛ فإن هذه السورة نزلت بمكة، وعلى كان إذ ذاك صغيرًا لم يبلغ.
وكان ممن اتبع الرسول ولو كان ابن رسول الله ليس ابن عمه لم تكن شهادته تنفع.
لا عند المسلمين ولا عند الكفار، بل مثل هذه الشهادة فيها تهمة القرابة.
ولهذا كان أكثر العلماء على أن شهادة الوالد وشهادة الولد لوالده لا تقبل، فكيف يجعل مثل هذا حجة لنبوة محمد صلي الله عليه وسلم مؤكدًا لها؟ ولذلك قالوا في قوله تعالي: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، أنه علي، وهم مع كذبهم هم أجهل الناس، فإنهم نسبوا الله والرسول إلى الاحتجاج بما لا يحتج به إلا جاهل، فأرادوا تعظيم علي، فنسبوا الله والرسول إلى الجهل، وعلى إنما فضيلته بإتباعه للرسول، فإذا قدح في الأصل بطل الفرع.
وأما قول من قال من المفسرين: إن (الشاهد): جبريل عليه السلام فقد روي ذلك عكرمة عن ابن عباس، ذكره ابن أبي حاتم عنه، وعن أبي العالية، وأبي صالح، ومجاهد في إحدي الروايات عنه، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضَّحَّاك، وعطاء الخُرَاسَاِني نحو ذلك.
وهؤلاء جعلوا {وَيَتْلُوهُ} : بمعني: يقرأه، أي: ويتلو القرآن الذي هو البينة، شاهد من الله هو، وقيل: بل معنى قولهم: إن القرآن يتلوه جبريل هو شاهد محمد صلي الله عليه وسلم، أي: الذي يتلوه جاء من عند الله.
وقد تقدم بيان ضعف هذا القول، فإن كل من فسر يتلوه بمعنى يقرؤه، جعل الضمير فيه عائدًا إلى القرآن، وجعل الشاهد غير القرآن.
والقرآن لم يتقدم له ذكر،إنما قال:{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد:14] والبينة لا يجوز أن يكون تفسيرها بحفظ القرآن، فإن المؤمنين كلهم على بينة من ربهم وإن لم يحفظوا القرآن،بخلاف البصيرة في الدين،فإنه من لم يكن على بصيرة من ربه لم يكن مؤمنًا حقًا،بل من القائلين لمنكر ونكير: آه آه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.
والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه، فهو على هدي ونور وبصيرة، سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه، وإن أريد إتباع القرآن فهو الإيمان، وأكثر القرآن لم يكن نزل حين نزول هذه الآية، وقد تقدم إنما يختص به جبريل ومحمد، فهو تبليغ الرسالة عن الله و صدقهما في ذلك.
وأما كون رسالة الله حقًا فهذا هو المشهود به من كل رسول، وهما لا يختصان بذلك بل يؤمنان به كما يؤمن بذلك كل ملك وكل مؤمن، وشهادتهما بأن النبي والمؤمنين على حق من هذا الوجه الثاني المشترك، ولو قال: ويبلغه وينزل به رسول من الله لكان ما قالوه متوجهًا، كما قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:139]، {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 97].
أما كونه شاهدًا يقرؤه فهذا لا نظير له في القرآن.
وأيضًا، فالشاهد الذي هو من الله هو الكلام، فإن الكلام نزل منه كما يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ويقال في الرسول: إنه منه، كما قال: رسول من الله، ويقَال في الشخص: الشاهد، فيقال فيه: هو من شهداء الله، وإما كونه يقال فيه: شاهد من الله إنها برهان من الله، وآيات من الله في الآيات التي يخلقها الله تصديقًا لرسوله: فهذا يحتاج استعماله إلى شاهد.
والقرآن نزل بلغة قريش الموجودة في القرآن، فإنها تُفَسَّر بلغته المعروفة فيه، إذا وجـــدت لا يعدل عن لغته المعروفة مع وجودها، وإنما يحتاج إلى غير لغته في لفظ لم يوجد له نظير في القرآن، كقوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82]، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]، {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ:34]، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22]، ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة في القرآن.
والذين قالوا هذه الأقوال، إنما أتوا من جهة قوله: {وَيَتْلُوهُ} فظنوا أن تلاوته هي قراءته، ولم يتقدم للقرآن ذكر، ثم جعل هذا يقول: جبريل تلاه، وهذا يقول: محمد، وهذا يقول: لسانه. والتلاوة قد وجدت في القرآن واللغة المشهورة بمعنى الإتباع. وكثير من المفسرين لا يذكر في هذه الآية القول الصحيح، فيبقي الناظر الفطن حائرًا ، ولم يذكر في الذي على بَينةِ من ربه إلا أنه الرسول، ويذكر في الشاهد عدة أقوال.
ثم من العجب أنه يقول:{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ} أولئك أصحاب محمد.
وقيل: المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب،وهو على ما فسره لم يتقدم لهم ذكر، فكيف يشار إليهم بقوله:{يُؤْمِنُونَ بِهِ} وأبو الفرج ذكر قولا:أنهم المسلمون،ولم يذكر أن الآية تعم النبي والمؤمنين،ولما ذكر قول من قال: إنهم المسلمون قال: وهذا يخرج على قول الضحاك في البينة أنها رسول الله.
وقد ذكر في (البينة) أربعة أقوال: أنها الدين، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
وأنها رسول الله، قاله الضحاك.
وأنها القرآن، قاله ابن زيد.
وأنها البيان، قاله مُقَاتِل.
ثم قال: فإن قلنا: المراد: من كان على بينة من ربه: المسلمون، فالمعني: أنهم يتبعون الرسول وهو البينة، ويتبع هذا النبي شاهد منه يصدقه، والمسلمون إذا كانوا على بينة فهي الإيمان بالرسول، ليست البينة ذات الرسول، والرسول ليس هو مذكورًا في كلامه، فقوله: {وَيَتْلُوهُ} لابد أن يعود إلي{مٌَنًه } لكن إعادته إلى البينة أولي.
وفسر البينة بالرسول، وجعل الشاهد يشهد له بصدقه. ثم الشاهد جبريل أو غيره، فلو قال: الشاهد هو القرآن يشهد للمؤمنين، فإنه يتبعهم كما يتبعونه كان قد ذكر الصواب.
وهو قد ذكر أقوالاً كثيرة لم يذكرها غيره، وذكر في يتْلُوه قولين: أحدهما: يتبعه. والثاني: يقرؤه، وهما قولان مشهوران.
وذكر في (هـ) يتلوه قولين: أنها ترجع إلى النبي.
والثاني: أنها ترجع إلى القرآن.
والتحقيق، أنها ترجع إلى (من)، أو ترجع إلى البينة، والبينة يراد بها القرآن، فيكون المعنى أن الشاهد من القرآن، وإذا رجع الضمير إلى (من)، فإن جعل مختصًا بالنبي صلي الله عليه وسلم وهو القول الذي تقدم بيان فساده عاد الضمير إلى البينة، وإن كانت (من) تتناول كل من كان على بينة من ربه من المؤمنين ورسول الله أولي المؤمنين تناول الجميع.
ومما يوضح ذلك، أن رسول الله جاء بالرسالة من الله، وهذا يختص به، وتصديق هذه الرسالة والإيمان بها واجب على الثقلين، والرسول هو أول من يجب عليه الإيمان بهذه الرسالة التي أرسله الله بها؛ ولهذا قال في سورة يونس:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104]، وقال: {قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14]، إلى غير ذلك من الآيات.
فهو صلى الله عليه وسلم يتعلق به أمران عظيمان:
أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به.
والثاني: تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب إتباعه، وهذا يجب عليه وعلى كل أحد، فإنه قد يوجد فيمن يرسله المخلوق من يصدق في رسالته، لكنه لا يتبعها، إما لطعنه في المرسل، وإما لكونه يعصه، وإن كان قد أُرْسِل بحق، فالملوك كثيرًا ما يرسلون رسولاً بكتب وغيرها يبلغ الرسل رسالتهم، فيصدقون بها.ثم قد يكون الرسول أكثر مخالفة لمرسله من غيره من المرسل إليهم؛ ولهذا ظن طائفة منهم القاضي أبو بكر أن مجرد كونه رسولاً لله لا يستلزم المدح، ثم قال:إن هذا قد يقال فيمن قبل الرسالة وبلغها، وفيمن لم يقبل،لكن هذا غلط، فإن الله لا يرسل رسولاً إلا وقد اصطفاه، فَيبَلِّغ رسالات ربه.
ورسل الله هم أطوع الخلق لله وأعظم إيمانًا بما بعثوا به،بخلاف المخلوق فإنه يرسل من يكذب عليه، ومن يعصيه، ومن لا يعتقد وجوب طاعته والخالق منزه عن ذلك.
لكن هؤلاء الذين قالوا هذا، يجوزون على الرب أن يرسل كل أحد بكل شيء، ليس في العقل عندهم ما يمنع ذلك، وإنما ينزهون الرسل عما أجمع المسلمون على تنزيههم عنه عندهم، مما ثبت بالسمع لا من جهة كونه رسولاً، كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن هذا الأصل خطأ.
ولما كان هو صلي الله عليه وسلم يتعلق به الأمران: في الأول: يقال: آمنت له، كما قال تعالي: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83]، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17].
وفي الثاني: يقال: آمنت بالله، فعلينا أن نؤمن له ونؤمن بما جاء به، والله تعالى ذكر هذين.
فذكر أولاً: ما يثبت نبوته وصدقه بقوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} [هود:13- 14]، كما تقدم التنبيه على ذلك.
ولما كان الذي يمنع الإنسان من إتباع الرسول شيئان: إما الجهل، وإما فساد القصد، ذَكَرَ ما يزيل الجهل، وهو الآيات الدالة على صدقه، ثم ذَكَرَ أهل فساد القصد بقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15- 16]، فهؤلاء أهل فساد القصد.
فهذان الأمران هما المانعان للخلق من إتباع هذا الرسول، كما أنه في البقرة ذكر ما يوجب العلم وحسن القصد، فقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23- 24].
فلما أثبت هذين الأصلين،أخذ بعد هذا في بيان الإيمان به،وحال من آمن ومن كفر، فقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية [هود:17].
ثم قال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]،وهذا يتناول كل كافر ممن كَذَبَ على الله بادعاء الرسالة كاذبًا،ويتناول كل من كَذَّبَ رسولاً صادقًا،فقال:إن الله لم يرسل هذا،ولم يأمر بهذا،فكَذَبَ على الله، وهذا إنما يقع ممن فسد قصده بحب الدنيا وإرادتها،وممن أحب الرئاسة وأراد العلو في الأرض من أهل الجهل.
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال .
وأما الكفار والمنافقون، فـ {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ثم ذكر تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم ذكر مثل الفريقين، فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن؛ تبين له المراد، وعرف الهدي والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج.
وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه، فهذا منشأ الغلط من الغالطين؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية.
فإن هؤلاء أكثر غلطًا من المفسرين المشهورين، فإنهم لا يقصدون معرفة معناه، كما يقصد ذلك المفسرون.
وأعظم غلطًا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله، بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها، وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف ، ولهذا جوز من جوَّز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف، وقالوا: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، وهذا خطأ، فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما هذا ، وإما هذا، كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافًا لإجماعهم، ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، و إلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن فهم القرآن، ويفهمون منه كلهم غير المراد، [ويأتي] متأخرون يفهمون المراد، فهذا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.
وأما من قال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد: 14]: إنه محمد صلي الله عليه وسلم، كما قاله طائفة من السلف، فقد يريدون بذلك التمثيل لا التخصيص، فإن المفسرين كثيرًا ما يريدون ذلك، ومحمد هو أول من كان على بينة من ربه، وتلاه شاهد منه، وكذلك الأنبياء، وهو أفضلهم وإمامهم، والمؤمنون تبع له، وبه صاروا على بينة من ربهم.
والخطاب قد يكون لفظه له ومعناه عام، كقوله:{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ،{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: 7] ، {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، ونحو ذلك، وذلك أن الأصل فيما خوطب به النبي صلي الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سار في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها، حتى يقوم دليل التخصيص، فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص،هذا مذهب السلف والفقهاء، ودلائل ذلك كثيرة كقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية [الأحزاب:37]، ولما أباح له الموهوبة قال:{خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الأحزاب: 50].
فإذا كان هـذا مع كـون الصيغـة خاصـة فكيف تجعل الصيغة العامة له وللمؤمنين مختصة به؟ ولفظ {ّمّن}: أبلغ صيغ العموم، لاسيما إذا كانت شرطًا أو استفهامًا، كقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7- 8]، وقوله:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]،وقوله {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]،وقوله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [محمد:14].
وأيضًا، فقد ذكر بعد ذلك قوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]، وذكر بعد هذا: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} [هود:24]، وقد تقدم قبل هذا ذكر الفريقين، وقوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} إشارة إلى جماعة، ولم يقدم قبل هذا ما يصلح أن يكون مشارًا إليه إلا {من}، والضمير يعود تارة إلى لفظ: {من} ، وتارة إلى معناها، كقوله:{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام:25]، {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]،{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} [النساء: 124]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97].
وأما الإشارة إلى معناها فهو أظهر من الضمير، فقوله: {أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود:17]: دليل على أن الذي على بينة من ربه كثيرون لا واحد، قال ابن أبي حاتم: ثنا عامر بن صالح عن أبيه عن الحسن البصري: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}.
قال: المؤمن على بينة من ربه، وهذا الذي قاله الحسن البصري هو الصواب، والرسول هو أول المؤمنين، كما قال:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104].
ومـن قـال: إن الشاهـد مـن الله هو محمـد كما رواه ابن أبي حاتم، ثنا الأشَجُّ، ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان الفلاني، عن الحسين بن علي: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} يعني: محمدًا شاهدًا من الله، فهنا معنى كونه شاهدًا من الله هو معنى كونه رسول الله، وهو يشهد المؤمنين بأنهم على حق، وإن كان يشهد لنفسه بأنه رسول الله فشهادته لنفسه معلومة، قد علم أنه صادق فيها بالبراهين الدالة على نبوته،وأما شهادته للمؤمنين فهو أنها إنما تعلم من جهته بما بَلَغَه من القرآن،ويخبر به عن ربه،فهو إذا شهد كان شاهدًا من الله.
وأما شهادته عليهم بالإيمان والتصديق وغير ذلك، فكما في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا} [النساء: 41]، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، لكن من قال هذا فقد يريد بالبينة القرآن، فإن المؤمن متبع للقرآن، ومحمد شاهد من الله يتلوه كما تلاه جبريل.
ومن قال:إن الشاهد لسان محمد فهو إنما أراد بهذا القول التلاوة أي:أن لسان محمد يقرأ القرآن،وهو شاهد منه أي من نفسه فإن لسانه جزء منه،وهذا القول ونحوه ضعيف، والله أعلم.
ههذا إن ثبت ذلك عمن نقل عنه،فإن هذا وضده ينقلان عن على بن أبي طالب.
وذلك أن طائفة من جُهَّال الشيعة ظنوا أن عليا هو الشاهد منه، أي من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال له .
وهذا قاله لغيره أيضًا فقد ثبت في الصحيحين أنه قال ، وقال عن جُلَيبِيبِ ،، وكل مؤمن هو من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال الخليل: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وقال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، ورووا هذا القول عن على نفسه، وروي عنه بإسناد أجود منه أنه قال: كذب من قال هذا، قال ابن أبي حاتم: ذكر عن حسين بن زيد الطَّحَّان، ثنا إسحاق ابن منصور، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَالِ، عن عبَّاد بن عبد الله قال: قال علي: ما من قريش أحد إلا نزلت فيه آية، قيل: فما أنزل فيك؟ قال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} وهذا كذب على علي قطعًا.
وإن ثبت النقل عن عباد هذا، فإن له منكرات عنه، كقوله: أنا الصديق الأكبر، أسلمت قبل الناس بسبع سنين.
وقد رووا عن على ما يعارض ذلك، قال ابن أبي حاتم، ثنا أبي، ثنا عمرو بن على البَاهِلِي، ثنا محمد بن شِوَاص، ثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن عُرْوَة، عن محمد ابن على يعني ابن الحنفـية قال: قلت لأبي:يا أبة {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ}: إن الناس يقولون: إنك أنت هو، قال: وددت لو أني أنا هو.
ولكنه لسانه.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك.
قلت: وقد تقدم عن الحسين ابنه أن (الشاهد منه): هو محمد صلي الله عليه وسلم، وإنما تكلم علماء أهل البيت في أنه محمد ردًا على من قال من الجهلة: إنه علي؛ فإن هذه السورة نزلت بمكة، وعلى كان إذ ذاك صغيرًا لم يبلغ.
وكان ممن اتبع الرسول ولو كان ابن رسول الله ليس ابن عمه لم تكن شهادته تنفع.
لا عند المسلمين ولا عند الكفار، بل مثل هذه الشهادة فيها تهمة القرابة.
ولهذا كان أكثر العلماء على أن شهادة الوالد وشهادة الولد لوالده لا تقبل، فكيف يجعل مثل هذا حجة لنبوة محمد صلي الله عليه وسلم مؤكدًا لها؟ ولذلك قالوا في قوله تعالي: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، أنه علي، وهم مع كذبهم هم أجهل الناس، فإنهم نسبوا الله والرسول إلى الاحتجاج بما لا يحتج به إلا جاهل، فأرادوا تعظيم علي، فنسبوا الله والرسول إلى الجهل، وعلى إنما فضيلته بإتباعه للرسول، فإذا قدح في الأصل بطل الفرع.
وأما قول من قال من المفسرين: إن (الشاهد): جبريل عليه السلام فقد روي ذلك عكرمة عن ابن عباس، ذكره ابن أبي حاتم عنه، وعن أبي العالية، وأبي صالح، ومجاهد في إحدي الروايات عنه، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضَّحَّاك، وعطاء الخُرَاسَاِني نحو ذلك.
وهؤلاء جعلوا {وَيَتْلُوهُ} : بمعني: يقرأه، أي: ويتلو القرآن الذي هو البينة، شاهد من الله هو، وقيل: بل معنى قولهم: إن القرآن يتلوه جبريل هو شاهد محمد صلي الله عليه وسلم، أي: الذي يتلوه جاء من عند الله.
وقد تقدم بيان ضعف هذا القول، فإن كل من فسر يتلوه بمعنى يقرؤه، جعل الضمير فيه عائدًا إلى القرآن، وجعل الشاهد غير القرآن.
والقرآن لم يتقدم له ذكر،إنما قال:{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} [محمد:14] والبينة لا يجوز أن يكون تفسيرها بحفظ القرآن، فإن المؤمنين كلهم على بينة من ربهم وإن لم يحفظوا القرآن،بخلاف البصيرة في الدين،فإنه من لم يكن على بصيرة من ربه لم يكن مؤمنًا حقًا،بل من القائلين لمنكر ونكير: آه آه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.
والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه، فهو على هدي ونور وبصيرة، سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه، وإن أريد إتباع القرآن فهو الإيمان، وأكثر القرآن لم يكن نزل حين نزول هذه الآية، وقد تقدم إنما يختص به جبريل ومحمد، فهو تبليغ الرسالة عن الله و صدقهما في ذلك.
وأما كون رسالة الله حقًا فهذا هو المشهود به من كل رسول، وهما لا يختصان بذلك بل يؤمنان به كما يؤمن بذلك كل ملك وكل مؤمن، وشهادتهما بأن النبي والمؤمنين على حق من هذا الوجه الثاني المشترك، ولو قال: ويبلغه وينزل به رسول من الله لكان ما قالوه متوجهًا، كما قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:139]، {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 97].
أما كونه شاهدًا يقرؤه فهذا لا نظير له في القرآن.
وأيضًا، فالشاهد الذي هو من الله هو الكلام، فإن الكلام نزل منه كما يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ويقال في الرسول: إنه منه، كما قال: رسول من الله، ويقَال في الشخص: الشاهد، فيقال فيه: هو من شهداء الله، وإما كونه يقال فيه: شاهد من الله إنها برهان من الله، وآيات من الله في الآيات التي يخلقها الله تصديقًا لرسوله: فهذا يحتاج استعماله إلى شاهد.
والقرآن نزل بلغة قريش الموجودة في القرآن، فإنها تُفَسَّر بلغته المعروفة فيه، إذا وجـــدت لا يعدل عن لغته المعروفة مع وجودها، وإنما يحتاج إلى غير لغته في لفظ لم يوجد له نظير في القرآن، كقوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص: 82]، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]، {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ:34]، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، و {قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 22]، ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة في القرآن.
والذين قالوا هذه الأقوال، إنما أتوا من جهة قوله: {وَيَتْلُوهُ} فظنوا أن تلاوته هي قراءته، ولم يتقدم للقرآن ذكر، ثم جعل هذا يقول: جبريل تلاه، وهذا يقول: محمد، وهذا يقول: لسانه. والتلاوة قد وجدت في القرآن واللغة المشهورة بمعنى الإتباع. وكثير من المفسرين لا يذكر في هذه الآية القول الصحيح، فيبقي الناظر الفطن حائرًا ، ولم يذكر في الذي على بَينةِ من ربه إلا أنه الرسول، ويذكر في الشاهد عدة أقوال.
ثم من العجب أنه يقول:{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ} أولئك أصحاب محمد.
وقيل: المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب،وهو على ما فسره لم يتقدم لهم ذكر، فكيف يشار إليهم بقوله:{يُؤْمِنُونَ بِهِ} وأبو الفرج ذكر قولا:أنهم المسلمون،ولم يذكر أن الآية تعم النبي والمؤمنين،ولما ذكر قول من قال: إنهم المسلمون قال: وهذا يخرج على قول الضحاك في البينة أنها رسول الله.
وقد ذكر في (البينة) أربعة أقوال: أنها الدين، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
وأنها رسول الله، قاله الضحاك.
وأنها القرآن، قاله ابن زيد.
وأنها البيان، قاله مُقَاتِل.
ثم قال: فإن قلنا: المراد: من كان على بينة من ربه: المسلمون، فالمعني: أنهم يتبعون الرسول وهو البينة، ويتبع هذا النبي شاهد منه يصدقه، والمسلمون إذا كانوا على بينة فهي الإيمان بالرسول، ليست البينة ذات الرسول، والرسول ليس هو مذكورًا في كلامه، فقوله: {وَيَتْلُوهُ} لابد أن يعود إلي{مٌَنًه } لكن إعادته إلى البينة أولي.
وفسر البينة بالرسول، وجعل الشاهد يشهد له بصدقه. ثم الشاهد جبريل أو غيره، فلو قال: الشاهد هو القرآن يشهد للمؤمنين، فإنه يتبعهم كما يتبعونه كان قد ذكر الصواب.
وهو قد ذكر أقوالاً كثيرة لم يذكرها غيره، وذكر في يتْلُوه قولين: أحدهما: يتبعه. والثاني: يقرؤه، وهما قولان مشهوران.
وذكر في (هـ) يتلوه قولين: أنها ترجع إلى النبي.
والثاني: أنها ترجع إلى القرآن.
والتحقيق، أنها ترجع إلى (من)، أو ترجع إلى البينة، والبينة يراد بها القرآن، فيكون المعنى أن الشاهد من القرآن، وإذا رجع الضمير إلى (من)، فإن جعل مختصًا بالنبي صلي الله عليه وسلم وهو القول الذي تقدم بيان فساده عاد الضمير إلى البينة، وإن كانت (من) تتناول كل من كان على بينة من ربه من المؤمنين ورسول الله أولي المؤمنين تناول الجميع.
ومما يوضح ذلك، أن رسول الله جاء بالرسالة من الله، وهذا يختص به، وتصديق هذه الرسالة والإيمان بها واجب على الثقلين، والرسول هو أول من يجب عليه الإيمان بهذه الرسالة التي أرسله الله بها؛ ولهذا قال في سورة يونس:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104]، وقال: {قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14]، إلى غير ذلك من الآيات.
فهو صلى الله عليه وسلم يتعلق به أمران عظيمان:
أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به.
والثاني: تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب إتباعه، وهذا يجب عليه وعلى كل أحد، فإنه قد يوجد فيمن يرسله المخلوق من يصدق في رسالته، لكنه لا يتبعها، إما لطعنه في المرسل، وإما لكونه يعصه، وإن كان قد أُرْسِل بحق، فالملوك كثيرًا ما يرسلون رسولاً بكتب وغيرها يبلغ الرسل رسالتهم، فيصدقون بها.ثم قد يكون الرسول أكثر مخالفة لمرسله من غيره من المرسل إليهم؛ ولهذا ظن طائفة منهم القاضي أبو بكر أن مجرد كونه رسولاً لله لا يستلزم المدح، ثم قال:إن هذا قد يقال فيمن قبل الرسالة وبلغها، وفيمن لم يقبل،لكن هذا غلط، فإن الله لا يرسل رسولاً إلا وقد اصطفاه، فَيبَلِّغ رسالات ربه.
ورسل الله هم أطوع الخلق لله وأعظم إيمانًا بما بعثوا به،بخلاف المخلوق فإنه يرسل من يكذب عليه، ومن يعصيه، ومن لا يعتقد وجوب طاعته والخالق منزه عن ذلك.
لكن هؤلاء الذين قالوا هذا، يجوزون على الرب أن يرسل كل أحد بكل شيء، ليس في العقل عندهم ما يمنع ذلك، وإنما ينزهون الرسل عما أجمع المسلمون على تنزيههم عنه عندهم، مما ثبت بالسمع لا من جهة كونه رسولاً، كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن هذا الأصل خطأ.
ولما كان هو صلي الله عليه وسلم يتعلق به الأمران: في الأول: يقال: آمنت له، كما قال تعالي: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83]، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17].
وفي الثاني: يقال: آمنت بالله، فعلينا أن نؤمن له ونؤمن بما جاء به، والله تعالى ذكر هذين.
فذكر أولاً: ما يثبت نبوته وصدقه بقوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} [هود:13- 14]، كما تقدم التنبيه على ذلك.
ولما كان الذي يمنع الإنسان من إتباع الرسول شيئان: إما الجهل، وإما فساد القصد، ذَكَرَ ما يزيل الجهل، وهو الآيات الدالة على صدقه، ثم ذَكَرَ أهل فساد القصد بقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15- 16]، فهؤلاء أهل فساد القصد.
فهذان الأمران هما المانعان للخلق من إتباع هذا الرسول، كما أنه في البقرة ذكر ما يوجب العلم وحسن القصد، فقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23- 24].
فلما أثبت هذين الأصلين،أخذ بعد هذا في بيان الإيمان به،وحال من آمن ومن كفر، فقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية [هود:17].
ثم قال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]،وهذا يتناول كل كافر ممن كَذَبَ على الله بادعاء الرسالة كاذبًا،ويتناول كل من كَذَّبَ رسولاً صادقًا،فقال:إن الله لم يرسل هذا،ولم يأمر بهذا،فكَذَبَ على الله، وهذا إنما يقع ممن فسد قصده بحب الدنيا وإرادتها،وممن أحب الرئاسة وأراد العلو في الأرض من أهل الجهل.
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال .
وأما الكفار والمنافقون، فـ {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ثم ذكر تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم ذكر مثل الفريقين، فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن؛ تبين له المراد، وعرف الهدي والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج.
وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه، فهذا منشأ الغلط من الغالطين؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية.
فإن هؤلاء أكثر غلطًا من المفسرين المشهورين، فإنهم لا يقصدون معرفة معناه، كما يقصد ذلك المفسرون.
وأعظم غلطًا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله، بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها، وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف ، ولهذا جوز من جوَّز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف، وقالوا: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، وهذا خطأ، فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما هذا ، وإما هذا، كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافًا لإجماعهم، ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، و إلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن فهم القرآن، ويفهمون منه كلهم غير المراد، [ويأتي] متأخرون يفهمون المراد، فهذا هذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الخامس عشر.