فَصــل في تفسير {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون}
منذ 2008-02-06
السؤال: فَصــل في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
الإجابة: قال الشيخ رحمه الله :
فَصــل
في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} للناس في وجـه تـكرير البراءة مـن الجانبـين طـرق، حيث قـال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2-3]، ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 4-5]، منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين، هل كرر الكلام للتوكيد،أو لنفي الحال والاستقبال؟
قال أبو الفرج: في تكرار الكلام قولان؛ أحدهما: إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء.
وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة: التكرير في سورة الرحمن للتوكيد.
قال: وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز؛ لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد.
يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله! إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله؟ بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار.
ويقول للمرسل المستعجل: اعجل، اعجل! والرامي: ارم، ارم! قال الشاعر:
كم نعمة كانت لكم وكم وكم؟ **
وقال الآخر:
هل سألت جموع كنـ ** ــــدة يــوم ولــوا أيـــن أيـنا؟
وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛ لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا.
قال ابن قتيبة: فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قـدرته، جعـل كل كلمـة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل: ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وكنت صرورًا؟ أفتنكر هذا؟.
قلت: قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ لتكرار الوقت.
وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة.
قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة ولعمار .
فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء.
فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله.
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط.
وإنما في سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا.
وهذا النمط أرفع من الأول.
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم.
و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
وهو مع الفصل بينهما بجملة.
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك عريانًا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملًا فعرفتك؟ ونحو ذلك.
وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة.
وكذلك ما يقوله بعضهم: إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله:
فألفي قولها كذبًا ومينًا
فليس في القـرآن مـن هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]، وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه.
فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى.
والضم أقوى من الكسر، والكسر أقوى من الفتح؛ ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل [الكره] و [الكَرْهُ].
فالكره هو الشيء المكروه، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ً} [البقرة: 216]، والكره المصدر، كقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]، والشئ الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره.
وكذلك [الذِّبْح] و[الذَّبْح]، فالذِّبح: المذبوح، كقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، والذَّبح: الفعل.
والذبح: مذبوح، وهو جسد يذبح، فهو أكمل من نفس الفعل.
قال أبو الفرج: والقول الثاني أن المعنى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في حالي هذه، {وَلَا أَنتُمْ} في حالكم هذه {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في ما استقبل، وكذلك {أَنتُمْ} فنفي عنهم في الحال والاستقبال.
وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما ذكرناه عن مقاتل.
فلا يكون حينئذ تكرار.
قال: وهذا قول ثعلب، والزجاج.
قلت: قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني.
فقالوا واللفظ للبغوي: معنى الآية: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال،ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال.
وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
قال: وقال أكثر أهل المعاني: نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم.
ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز.
قلت: ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي وابن عطية.
قال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}،، أي: أبدًا ما حييت.
ثم جاء قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك.
قال: فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة.
وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم.
قلت:هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى زائد على التكرير.
لكن فيه نقص من جهة أخري.وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه.
وهذا غلط، فإن قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول: هي براءة من الشرك.
فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه.
وأيضًا، فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر.
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه.
ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان: إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين.
ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد.
ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي.
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقـد ذكر غيره هـذا عـن قريش مطلقًا، كما رواه عبـد بن حُمَيْد، عن وهْب بن مُنبِّه قـال: قـالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سـرك أن ندخـل في دينك عامًا وتدخـل في ديننا عـامًا، فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى ختمها.
وعن ابن عباس، قالت قريش: يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة.
وعن قتادة قال: أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله: {يَا أَيُّهَا} وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال: كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة: برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة: أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم.
وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة].
يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك.
وبهـذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفـل عـن أبيه، عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال لـه" {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسـرائيل مسـندًا.
ورواه عنـه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال: [عن أبي إسحاق، عن رجـل، عـن فروة بن نوفل ]، ولم يقل [عن أبيه].
قال الترمذي: وحديث زهير أشبه وأصح مـن حـديث شعبة.
قال: وقـد روي هـذا الحـديث مـن غير هـذا الوجـه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل.
قلت: وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك.
فلو كان الخطاب لمن يمـوت على الشـرك، كـانت براءة مـن دين أولئك فقـط، لم تكـن براءة مـن الشـرك الذي يسلم صاحبـه فيما بعـد.
ومعلـوم أن المقصـود منها أن تكـون براءة مـن كل شرك اعتقادي وعملي.
وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد.
فدينه قبل الإسلام له كان، والمؤمنون بريئون منه، وإن غفره الله له بالتوبة منه، كما قال لنبيه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، فإنه بريء من معاصي أصحابه، وإن تابوا منها.
وهذا كقوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41].
وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مـالا فيكون أغني رجـل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه أي يسودوه فقالوا: هذا لك عندنا. يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح. قال . قالوا: تعبد آلهتنا سنة ـ اللات والعزي ـ ونعبد إلهك سنة. قال .
فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، إلى آخرها، وأنزل الله عليه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:64-66].
وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد.
وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عَبَدَ غير الله.
وقوله في هذا الحديث ، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه.
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به.
وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان.
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك.
وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة.
ومن النقلة من يعين ناسـًا غير الذين عينهم غيره.
منهم من يذكر أبا جهل وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة وطائفة، ومنهم من يذكر الوليد بن المغيرة وطائفة.
ومنهم من يقول: طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا.
ومنهم من يقول: طلبوا أن يستلم آلهتهم.
ومنهم من يقول: طلبوا الاشتراك، كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال: حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله.
فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه.
وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه.
فأنزل الله السورة.
وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية.
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا.
وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة.
وقد أمـره الله بالبراءة من كل معبود سواه. وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26-28].
وقال الخليل أيضًا: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78-79]، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقال لنبيه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه، وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب.
وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرين.
فقال: الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا.
فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم.
وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى موضع واحد منها. فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى. بل معنى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}: في الحال. {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الحال. {وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً} في الاستقبال. {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في الاستقبال.
قال: فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله:{لَا أَعْبُدُ}، وما بعده، {وَلَا أَنَا}.
وتكرر {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في اللفظ دون المعنى.
قال: وقيل إن معنى الأول: ولا أنتم عابدون ما عبدت، ومعنى الثاني: ولا أنتم عابدون ما أعبد.
فعدل عن لفظ [عبدتُ] للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر.
وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى.
ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدرًا، وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام.
فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به.
فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم.فهو في الثاني مصدر.
وكذلك: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هو في الثاني مصدر أيضًا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد.
قلت: القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} معنيين؛ أحدهما: بمعنى [ما عبدت]، والآخر: بمعنى [ما أعبد] ليطابق قوله لهم: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}.
فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال. لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي.
قال هؤلاء: وإنما لم يقل في حقه: [ما عبدت]، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل.
قلت: أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم.
لكن إذا أريد بـقولـه: {مَّا عَبَدتُّمْ} مـا أريـد بقوله: {مَا أَعْبُدُ} في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه: لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي.
فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل.
وكذلك إذا قيل: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، أي: في الماضي.
فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفي عبادة ما عبدوه في الماضي.
وهذا أنقص لمعنى الآية.
وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط؟ وكذلك هم؟.
وإن قيل: في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل: فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء! ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضي.
وإن قيل: قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل: ولفظ الآية {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}، ليس لفظها [ولا أنا عابد ما تعبدون]. فقوله: {مَّا عَبَدتُّمْ}، إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء، فسد المعنى.
وإن أريد به المستقبل، بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، فإن الماضي هنا بمعنى المضارع.
فإذا كان المضارع مطابقًا له بقي مضارعًا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود.
والقـول الرابـع الذي ذكـره قـول مـن جعـل [ما] مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى.
وهـذا أيضًا ليس في الكــلام مـا يــدل على الفـرق بينهما.
وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه [ما] المصدرية حاصل بقوله [ما].
فإنه لم يقل: [ولا أنتم عابدون من أعبد]، بل قال: {مَا أَعْبُدُ} ولفظ [ما] يدل على الصفة بخلاف [من].
فإنه يدل على العين، كقوله:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الطيب، {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، أي: وبانيها.
ونظيره قوله: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ} [البقرة:133]، ولم يقل: [من تعبدون من بعدي].
وهذا نظير قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} سواء.
فالمعنى: لا أعبد معبودكم، ولا أنتم عابدون معبودي.
فقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،، يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له.
وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص.
بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات.
فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه.
وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة.
وهؤلاء لا يتبرأ منهم.
فكل من عبد الله مخلصًا له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه.
فلو قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته.
وإنما البراءة من المعبود وعبادته.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
فَصــل
في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} للناس في وجـه تـكرير البراءة مـن الجانبـين طـرق، حيث قـال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2-3]، ثم قال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 4-5]، منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين، هل كرر الكلام للتوكيد،أو لنفي الحال والاستقبال؟
قال أبو الفرج: في تكرار الكلام قولان؛ أحدهما: إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء.
وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة: التكرير في سورة الرحمن للتوكيد.
قال: وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز؛ لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد.
يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله! إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله؟ بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار.
ويقول للمرسل المستعجل: اعجل، اعجل! والرامي: ارم، ارم! قال الشاعر:
كم نعمة كانت لكم وكم وكم؟ **
وقال الآخر:
هل سألت جموع كنـ ** ــــدة يــوم ولــوا أيـــن أيـنا؟
وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛ لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا.
قال ابن قتيبة: فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قـدرته، جعـل كل كلمـة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل: ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وكنت صرورًا؟ أفتنكر هذا؟.
قلت: قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ لتكرار الوقت.
وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة.
قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة ولعمار .
فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء.
فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله.
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط.
وإنما في سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا.
وهذا النمط أرفع من الأول.
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم.
و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
وهو مع الفصل بينهما بجملة.
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك عريانًا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملًا فعرفتك؟ ونحو ذلك.
وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة.
وكذلك ما يقوله بعضهم: إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله:
فألفي قولها كذبًا ومينًا
فليس في القـرآن مـن هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]، وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه.
فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى.
والضم أقوى من الكسر، والكسر أقوى من الفتح؛ ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل [الكره] و [الكَرْهُ].
فالكره هو الشيء المكروه، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ً} [البقرة: 216]، والكره المصدر، كقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]، والشئ الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره.
وكذلك [الذِّبْح] و[الذَّبْح]، فالذِّبح: المذبوح، كقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، والذَّبح: الفعل.
والذبح: مذبوح، وهو جسد يذبح، فهو أكمل من نفس الفعل.
قال أبو الفرج: والقول الثاني أن المعنى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في حالي هذه، {وَلَا أَنتُمْ} في حالكم هذه {عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في ما استقبل، وكذلك {أَنتُمْ} فنفي عنهم في الحال والاستقبال.
وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما ذكرناه عن مقاتل.
فلا يكون حينئذ تكرار.
قال: وهذا قول ثعلب، والزجاج.
قلت: قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني.
فقالوا واللفظ للبغوي: معنى الآية: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال،ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال.
وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
قال: وقال أكثر أهل المعاني: نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم.
ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز.
قلت: ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي وابن عطية.
قال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}،، أي: أبدًا ما حييت.
ثم جاء قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك.
قال: فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة.
وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم.
قلت:هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى زائد على التكرير.
لكن فيه نقص من جهة أخري.وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه.
وهذا غلط، فإن قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول: هي براءة من الشرك.
فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه.
وأيضًا، فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر.
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه.
ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان: إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين.
ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد.
ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي.
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقـد ذكر غيره هـذا عـن قريش مطلقًا، كما رواه عبـد بن حُمَيْد، عن وهْب بن مُنبِّه قـال: قـالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سـرك أن ندخـل في دينك عامًا وتدخـل في ديننا عـامًا، فنزلت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى ختمها.
وعن ابن عباس، قالت قريش: يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة.
وعن قتادة قال: أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله: {يَا أَيُّهَا} وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال: كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة: برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة: أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم.
وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة].
يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك.
وبهـذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفـل عـن أبيه، عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال لـه" {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسـرائيل مسـندًا.
ورواه عنـه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال: [عن أبي إسحاق، عن رجـل، عـن فروة بن نوفل ]، ولم يقل [عن أبيه].
قال الترمذي: وحديث زهير أشبه وأصح مـن حـديث شعبة.
قال: وقـد روي هـذا الحـديث مـن غير هـذا الوجـه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل.
قلت: وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك.
فلو كان الخطاب لمن يمـوت على الشـرك، كـانت براءة مـن دين أولئك فقـط، لم تكـن براءة مـن الشـرك الذي يسلم صاحبـه فيما بعـد.
ومعلـوم أن المقصـود منها أن تكـون براءة مـن كل شرك اعتقادي وعملي.
وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد.
فدينه قبل الإسلام له كان، والمؤمنون بريئون منه، وإن غفره الله له بالتوبة منه، كما قال لنبيه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، فإنه بريء من معاصي أصحابه، وإن تابوا منها.
وهذا كقوله: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41].
وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مـالا فيكون أغني رجـل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه أي يسودوه فقالوا: هذا لك عندنا. يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح. قال . قالوا: تعبد آلهتنا سنة ـ اللات والعزي ـ ونعبد إلهك سنة. قال .
فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، إلى آخرها، وأنزل الله عليه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:64-66].
وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد.
وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عَبَدَ غير الله.
وقوله في هذا الحديث ، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه.
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به.
وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان.
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك.
وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة.
ومن النقلة من يعين ناسـًا غير الذين عينهم غيره.
منهم من يذكر أبا جهل وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة وطائفة، ومنهم من يذكر الوليد بن المغيرة وطائفة.
ومنهم من يقول: طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا.
ومنهم من يقول: طلبوا أن يستلم آلهتهم.
ومنهم من يقول: طلبوا الاشتراك، كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال: حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله.
فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه.
وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه.
فأنزل الله السورة.
وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية.
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا.
وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة.
وقد أمـره الله بالبراءة من كل معبود سواه. وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26-28].
وقال الخليل أيضًا: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78-79]، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وقال لنبيه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه، وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب.
وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرين.
فقال: الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا.
فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم.
وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى موضع واحد منها. فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى. بل معنى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}: في الحال. {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الحال. {وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً} في الاستقبال. {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} في الاستقبال.
قال: فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله:{لَا أَعْبُدُ}، وما بعده، {وَلَا أَنَا}.
وتكرر {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في اللفظ دون المعنى.
قال: وقيل إن معنى الأول: ولا أنتم عابدون ما عبدت، ومعنى الثاني: ولا أنتم عابدون ما أعبد.
فعدل عن لفظ [عبدتُ] للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر.
وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى.
ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدرًا، وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام.
فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به.
فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم.فهو في الثاني مصدر.
وكذلك: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هو في الثاني مصدر أيضًا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد.
قلت: القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} معنيين؛ أحدهما: بمعنى [ما عبدت]، والآخر: بمعنى [ما أعبد] ليطابق قوله لهم: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}.
فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال. لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي.
قال هؤلاء: وإنما لم يقل في حقه: [ما عبدت]، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل.
قلت: أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم.
لكن إذا أريد بـقولـه: {مَّا عَبَدتُّمْ} مـا أريـد بقوله: {مَا أَعْبُدُ} في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه: لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي.
فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل.
وكذلك إذا قيل: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، أي: في الماضي.
فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفي عبادة ما عبدوه في الماضي.
وهذا أنقص لمعنى الآية.
وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط؟ وكذلك هم؟.
وإن قيل: في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل: فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء! ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضي.
وإن قيل: قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل: ولفظ الآية {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}، ليس لفظها [ولا أنا عابد ما تعبدون]. فقوله: {مَّا عَبَدتُّمْ}، إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء، فسد المعنى.
وإن أريد به المستقبل، بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، فإن الماضي هنا بمعنى المضارع.
فإذا كان المضارع مطابقًا له بقي مضارعًا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود.
والقـول الرابـع الذي ذكـره قـول مـن جعـل [ما] مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى.
وهـذا أيضًا ليس في الكــلام مـا يــدل على الفـرق بينهما.
وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه [ما] المصدرية حاصل بقوله [ما].
فإنه لم يقل: [ولا أنتم عابدون من أعبد]، بل قال: {مَا أَعْبُدُ} ولفظ [ما] يدل على الصفة بخلاف [من].
فإنه يدل على العين، كقوله:{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3]، أي: الطيب، {وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، أي: وبانيها.
ونظيره قوله: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ} [البقرة:133]، ولم يقل: [من تعبدون من بعدي].
وهذا نظير قوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} سواء.
فالمعنى: لا أعبد معبودكم، ولا أنتم عابدون معبودي.
فقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}،، يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له.
وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص.
بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات.
فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه.
وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة.
وهؤلاء لا يتبرأ منهم.
فكل من عبد الله مخلصًا له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه.
فلو قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته.
وإنما البراءة من المعبود وعبادته.
_______________
<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)
- التصنيف: