فصـل في تفسير:‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}‏

منذ 2008-02-06
السؤال: فصـل في تفسير قوله‏ تعالى:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏
الإجابة: َقوله‏:‏ ‏{‏‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}‏‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏، هو‏:‏ الطَّعَّان العيَّاب‏.

‏‏ كما قال‏:‏ ‏{‏‏هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ‏} ‏[‏القلم‏:‏ 11‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏، والهمز أشد؛ لأن الهمز الدفع بشدة، ومنه الهمزة من الحروف، وهي نقرة في الحلق، ومنه‏:‏ ‏{‏‏وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 97‏]‏، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من هَمْزِه، ونفخه، ونفثه‏"‏‏ وقال‏:‏ ‏(‏همزه‏:‏ الموُتَةُ‏)‏ وهي الصرع، فالهَمْزُ‏:‏ مثل الطعن لفظًا ومعنى‏.

‏‏ واللَّمْز‏:‏ كالذم والعيب، وإنما ذم من يكثر الهمز، واللمز‏.‏

فإن الهُمُزَة واللُّمزَة‏:‏ هو الذي يفعل ذلك كثيرًا، و‏[‏الهمزة‏]‏، و‏[‏اللمزة‏]‏‏:‏ الذي يُفْعل ذلك به‏.‏ كما في نظائره مثل الضحكة والضحكة، واللعبة واللعبة، وقوله‏:‏ ‏{‏‏الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ‏} ‏[‏الهمزة‏:‏ 2‏]‏، وصفه بالطعن في الناس، والعيب لهم، وبجمع المال وتعديده، وهذا نظير قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36-37‏]‏، فإن الهمزة اللمزة‏:‏ يشبه المختال الفخور، والجمَّاع المحصي نظير البخيل، وكذلك نظيرهما قوله‏:‏ ‏{‏‏هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏} ‏[‏القلم‏:‏ 11-13‏]‏، وصفه بالكبر والبخل، وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}‏‏ ‏[‏الليل‏:‏ 8‏]‏، فهذه خمسة مواضع، وذلك ناشئ عن حب الشرف والمال، فإن محبة الشرف تحمل على انتقاص غيره بالهمز واللمز والفخر والخيلاء، ومحبة المال تحمل على البخل، وضد ذلك من أعطي فلم يبخل، واتقي فلم يهمز، ولم يلمز‏.

‏‏ وأيضًا، فإن المعطي نَفَعَ الناس، والمتقي لم يضرهم، فنفع ولم يضر‏.‏

وأما المختال الفخور البخيل، فإنه ببخله منعهم الخير، وبفخره سامهم الضر، فضرهم ولم ينفعهم، وكذلك‏:‏ ‏[‏الهمزة الذي جمع مالا ‏]‏، ونظيره‏:‏ قارون الذي جمع مالا، وكان من قوم موسي فبغي عليهم‏.

‏‏ ومـن تدبر القـرآن، وجـد بعضـه يفسر بعضًا، فـإنـه كما قـال ابن عباس في روايـة الوالبي‏:‏ مشتمل على الأقسام، والأمثال، وهو تفسير ‏{‏مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏}‏ ولهذا جاء كتاب الله جامعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم "أعطيت جوامع الكلم"‏‏‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.

‏‏ فالتشابه يكون في الأمثال، والمثاني في الأقسام، فإن التثنية في مطلق التعديد‏.

‏‏ كما قد قيل في قوله‏:‏ ‏{‏‏ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}‏‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏، وكما في قول حذيفة‏:‏ كنا نقول بين السجدتين‏:‏ رب اغفر لي، رب اغفر لي‏.

‏‏ وكما يقال‏:‏ فعلت هذا مرة بعد مرة، فتثنية اللفظ يراد به التعديد؛ لأن العدد ما زاد على الواحد، وهو أول التثنية، وكذلك ثنيت الثوب، أعم من أن يكون مرتين فقط أو مطلق العدد فهو جميعه متشابه، يصدق بعضه بعضًا، ليس مختلفًا، بل كل خبر وأمر منه يشابه الخبر؛ لاتحاد مقصود الأمرين، ولاتحاد الحقيقة التي إليها مرجع الموجودات‏.

‏‏ فلما كانت الحقائق المقصودة والموجودة ترجع إلى أصل واحد، وهو الله سبحانه كان الكلام الحق فيها خبرًا، وأمرًا متشابهًا، ليس بمنزلة المختلف المتناقض، كما يوجد في كلام أكثر البشر، والمصنفون الكبار منهم يقولون شيئًا ثم ينقضونه، وهو جميعه مثاني؛ لأنه استوفيت فيه الأقسام المختلفة، فإن الله يقول‏:‏‏{‏‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏49‏]‏، فذكر الزوجين مثاني، والإخبار عن الحقائق بما هي عليه بحيث يحكم على الشيء بحكم نظيره، وهو حكم على المعنى الواحد المشترك خبرًا أو طلبًا خطاب متشابه، فهو متشابه مثاني‏.

‏‏ وهذا في المعاني مثل الوجوه والنظائر في الألفاظ، فإن كل شيئين من الأعيان والأعراض وغير ذلك، إما أن يكون أحدهما مثل الآخر، أو لا يكون مثله فهي الأمثال، وجمعها هو التاليف، وإذا جاءت بلفظ واحد كانت نظائر، وإن لم يكن مثله، فهو خلافه سواء كان ضدًا أو لم يكن‏.‏

وقد يقال‏:‏ إما أن يجمعهما جنس أو لا، فإن لم يجمعهما جنس، فأحدهما بعيد عن الآخر، ولا مناسبة بينهما‏.

‏‏ وإن جمعهما جنس، فهي الأقسام، وجمعها هو التصنيف‏.‏

ودلالة اللفظ الواحد على المعاني المختلفة تسمي الوجوه‏.

‏‏ والكلام الجامع هو‏:‏ الذي يستوفي الأقسام المختلفة، والنظائر المتماثلة جمعًا بين المتماثلين، وفرقًا بين المختلفين‏.

‏‏ بحيث يبقي محيطًا، وإلا فذكر أحد القسمين أو المثْلَين لا يفيد التمام، ولا يكون الكلم محيطًا، ولا الكلم جوامع، وهو فعل غالب الناس في كلامهم‏.‏

والحقائق في نفسها‏:‏ منها المختلف، ومنها المؤتلف، والمختلفان بينهما اتفاق من وجه، وافتراق من وجه‏.‏

فإذا أحاط الكلام بالأقسام المختلفة، والأمثال المؤتلفة، كان جامعًا، وباعتبار هذه المعاني كانت ضروب القياس العقلي المنطقي ثلاثة‏:‏ الحمليات والشرطيات المتصلة، والشرطيات المنفصلة‏.

‏‏ فالأول‏:‏ للحقائق المتماثلة الداخلة في القضية الجامعة‏.

‏‏ والثاني‏:‏ للمختلفات التي ليست متضادة، بل تتلازم تارة، ولا تتلازم أخري‏.

‏‏ والثالث‏:‏ للحقائق المتضادة المتنافية، إما وجودًا أو عدمًا، وهي النقيضان‏.‏

وإما وجودًا فقط، وهو أعم من النقيضين، وإما عدمًا فقط، وهو أخص من النقيضين‏.

‏‏ فالحمليات للمثلين، والأمثال‏.‏

والشرطيات المنفصلة للمتضادين، والمتضادات‏.‏

ويسمي التقسيم، والسَّبر، والترديد، والبياني‏.‏

والمتصلة للخلافين غير المتضادين، ويسمي التلازم‏.

‏‏

_______________

<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)

  • 21
  • 10
  • 104,337

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً