فصـل في تفسير:{وما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيب}
منذ 2008-02-16
السؤال: فصـل في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن
يُنِيبُ}
الإجابة:
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 13]، فهو حق كما قال.
فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف.
ولهذا قيل في فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} فينيب، {أَوْ يَخْشَى}.
وكذلك قال له موسى {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18- 19]، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما.
وقال في حق الأعمى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3- 4].
فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
والنفع نوعان: حصول النعمة، واندفاع النقمة.
ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع.
فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}.
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر.
وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]، وقال : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]، وقال: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6- 7]،وقال موسى لفرعون: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18- 19].
وعطف عليه: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}، لوجوه:
أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه كما قال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم.
وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.
الوجه الثاني: أن قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.
الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى.
فذكر الحكم وذكر سببه.
ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر.
فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10].
فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر.
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى.
وقوله: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيه أيضًا نحو هذه الوجوه.
فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية.
وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية.
وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر.
تذكر السبب والمسبب.
وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب.
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر، والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته.
وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه. فقيل له .
وقال صلى الله عليه وسلم .
فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار.
وهو في سيد الاستغفار يقول" .
وقد علم تحقيق قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا.
وقد جعل اللّه {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيتوب ويستغفر من ذنوبه، {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، لربه على نعمه.
وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه.
فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر.
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه.
وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر. قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103]، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه.
فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه.
وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة.
وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك.
فذكر المبدأ وذكر النهاية.
وهذا المعنى يجمع ما قيل.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 13]، فهو حق كما قال.
فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف.
ولهذا قيل في فرعون: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} فينيب، {أَوْ يَخْشَى}.
وكذلك قال له موسى {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18- 19]، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما.
وقال في حق الأعمى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3- 4].
فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
والنفع نوعان: حصول النعمة، واندفاع النقمة.
ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع.
فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}.
وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر.
وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15]، وقال:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]، وقال : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]، وقال: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6- 7]،وقال موسى لفرعون: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18- 19].
وعطف عليه: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى}، لوجوه:
أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه كما قال: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم.
وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.
الوجه الثاني: أن قوله: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.
الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى.
فذكر الحكم وذكر سببه.
ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر.
فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} [الأعلى: 10].
فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر.
وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى.
وقوله: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيه أيضًا نحو هذه الوجوه.
فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية.
وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية.
وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر.
تذكر السبب والمسبب.
وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب.
وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر، والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته.
وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه. فقيل له .
وقال صلى الله عليه وسلم .
فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار.
وهو في سيد الاستغفار يقول" .
وقد علم تحقيق قوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا.
وقد جعل اللّه {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فيتوب ويستغفر من ذنوبه، {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، لربه على نعمه.
وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه.
فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر.
والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه.
وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر. قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103]، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه.
فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه.
وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة.
وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك.
فذكر المبدأ وذكر النهاية.
وهذا المعنى يجمع ما قيل.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
- التصنيف: