فَصـل في تفسير معنى [الأعلى]
ابن تيمية
- التصنيفات: التفسير -
السؤال: فَصـل في تفسير معنى [الأعلى]
الإجابة:
[الأعلى]: على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم، والأكبر، والأجمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو سفيان: اعل هبل! اعل هبل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو مذكور بأداة التعريف [الأعلى] مثل: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]، بخلاف ما إذا قيل: (اللّه أكبر) فإنه منكر.
ولهذا معنى يخصه يتميز به؛ ولهذا معنى يخصه يتميز به، كما بين العلو، والكبرياء، والعظمة، فإن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى ، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار.
ولهذا كان شعائر الصلاة، والأذان، والأعياد والأماكن العالية، هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن؛ سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول: (الله أكبر)، (اللّه أعظم).
ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقـد إلا بلفظ التكبير.
فلو قال: (اللّه أعظم) لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، وداود، وغيرهم. ولو أتى بغير ذلك من الأذكار، مثل سبحان اللّه، والحمد للّه، لم تنعقد به الصلاة.
ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض، كما في السنن عن جابر بن عبد اللّه قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك.
ولما نزل قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74 - 96]، قال ، ولما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال .
وثبت عنه أنه كان يقول في ركوعه ، وفي سجوده .
ولم يكن يكبر في الركوع والسجود.
لكن قد كان يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده ، يتأول القرآن، أي: يتأول قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فكان يجمع بين التسبيح و التحميد.
وكذلك قد كان يقرن بالتسبيح في الركوع والسجود التهليل، كما في صحيح مسلم عن عائشة قالت .
ففي هـذه الأحـاديث كلها أنـه كان يسـبح في الركـوع والسجود، لكن قد يقرن بالتسبيـح التحميـد والتهليل، وقـد يقـرن به الدعاء.
ولم ينقل أنه كبر في الركوع والسجود.
وأمـا قراءة القرآن فيهما فقد ثبت عنه أنه قال ، رواه مـسلم مـن حـديث على، ومـن حـديث ابن عباس.
وذلك أن القـرآن كـلام اللّه فـلا يتلى إلا في حـال الارتفاع، والتكبير أيضًا محلـه حال الارتفاع.
وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروى عن مالك: أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه.
ثم اختلفوا في وجوبه.
فالمشهور عن أحمد، وإسحق، وداود، وغيرهم: وجوبه.
وعن أبي حنيفة، والشافعي: استحبابه.
والقائلون بالوجوب، منهم من يقول: يتعين: و ، للأمر بهما، وهو قول كثير من أصحاب أحمد، ومنهم من يقول: بل يذكر بعض الأذكار المأثورة.
والأقـوى: أنه يتعـين التسبيح، إما بلفظ (سبحان)، وإما بلفظ (سبحانك)، ونحو ذلك.
وذلك أن القـرآن سماها: (تسبيحًا)، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السـنة أن محـل ذلك الركـوع والسجود، كما سماها اللّه: (قرآنًا).
وقد بينت السنة أن محل ذلك القيـام.
وسماها: [قيامًا] و[سجودًا] و[ركوعًا]، وبينت السنة علة ذلك ومحله.
وكذلك التسبيح يسبح في الركوع والسجود.
وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول و ، وأنه كان يقول ، و .
وفي بعض روايات أبي داود ، وفي استحباب هذه الزيادة عن أحمد روايتان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده .
وفي السنن أنه كان يقول .
فهذه كلها تسبيحات.
والمنقول عن مالك أنه كان يكره المداومة على ذلك.
فإن كان كراهة المداومة على ، فله وجه، وإن كان كراهة المداومة على جنس التسبيح، فـلا وجـه لـه، وأظنـه الأول.
وكـذلك المنقول عنه إنما هـو كراهة المـداومـة على ؛ لئلا يظن أنها فرض؛وهذا يقتضي: أن مالكًا أنكر أن تكون فرضًا واجبًا.
وهذا قوى ظـاهر، بخلاف جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدًا.
وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة.
وقوله يقتضي أن هذا محل لامتثال هذا الأمر، لا يقتضي أنه لا يقال إلا هي مع ما قد ثبت أنه كان يقول غيرها.
والجمع بين صيغتي تسبيح بعيد، بخلاف الجمع بين التسبيح، والتحميد، والتهليل والدعاء.
فإن هذه أنواع، والتسبيح نوع واحد فلا يجمع فيه بين صيغتين.
وأيضًا، قـد ثبت في الصحيـح أنه قال" .
فهذا يقتضي أن هـذه الكلمات أفضـل من غيرهـا.
فإن جعل التسبيح نوعا واحدًا، فـ (سبحان اللّه) و(سبحان ربي الأعلى) سـواء، وإن جعـل متفاضـلا فـ (سبـحان اللّه) أفضل بهذا الحديث.
وأيضًا، فقـولـه : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعـلى :1] و {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74-96]، أمر بتسبيح ربه، ليس أمرًا بصيغة معينة.
فإذا قال سبحان اللّه وبحمده سبحانك اللهم وبحمدك.
فقـد سبح ربه الأعلى والعظيم.
فإن اللّه هو الأعلى، وهو العظيم، واسمه [اللّه]، يتناول معاني سائر الأسماء بطريق التضمن، وإن كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه.
ففي اسمه [الله] التصريح بالإلهية، واسمه [اللّه] أعظم من اسمه [الرب].
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل .
فالقيام فيه التحميد.
و في الاعتدال من الركوع،وفي الركوع والسجود: التسبيح، وفي الانتقال: التكبير، وفي القعود:التشهد، وفيه التوحيد.
فصارت الأنواع الأربعة في الصلاة.
والفاتحة أيضًا فيها التحميد والتوحيد.
فالتحميد والتوحيد ركن يجب في القراءة.
والتكبير ركن في الافتتاح.
والتشهد الآخر ركن في القعود كما هو المشهور عن أحمد.
وهو مذهب الشافعي، وفيه التشهد المتضمن للتوحيد.
يبقى التسبيح.
وأحمد يوجبـه في الركوع والسجـود.
وروى عنـه أنـه ركـن.
وهـو قــوى لثبـوت الأمــر بــه في القـرآن والسـنة.
فكـيف يـوجـب الصـلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجئ أمـر بها في الصـلاة خصـوصًا ولا يـوجب التسبـيح مـع الأمـر بـه في الصلاة، ومع كون الصلاة تسمى [تسبيحًا]؟ وكل ما سميت به الصلاة من أبعاضها فهو ركن فيها، كما سميت [قيامًا]، و[ركوعًا]، و[سجودًا]، و[قراءة]، وسميت أيضًا [تسبيحًا].
ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينفي وجوبه في حال السهو كما ورد في التشهد الأول أنه لما تركه سجد للسهو، لكن قد يقال: لما لم يأمر به المسيء في صلاته دل على أنه واجب ليس بركن.
وبسط هذه المسألة له موضع آخر.
والمقصود هنا أن التسبيح قد خص به حال الانخفاض، كما خص حال الارتفاع بالتكبير.
فذكر العبد في حال انخفاضه وذله ما يتصف به الرب مقابل ذلك.
فيقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم.
و[الأعلى] يجمع معاني العلـو جميعها، وأنـه الأعلى بجمـيع معاني العلـو.
وقـد اتفق الناس على أنـه علىّ على كـل شيء بمعنى أنـه قاهـر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال: {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
وعلى أنه عال عن كل عيب ونقص ، فهو عال عن ذلك ، منزه عنه،كما قال تعالى : {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 39 ـ 43]، فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح.
وقال تعالى: {ممَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون: 91- 92] ، وقـالت الجـن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].
وفي دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك).
وفي الصحيحين أنه كان يقول في آخر استفتاحه .
فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون.
فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك.
وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمي ، والند ، والمثل فلا يكون شيء مثله.
وقد ذكروا من معاني العلو الفضيلة، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة.
ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء فلا شيء مثله.
وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء.
وفي القرآن:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، ويقول: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] ، ويقول {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35]، وقالت السحرة: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73].
وهو سبحانه يبين أن المعبودين دونه ليسوا مثله في مواضع، كقوله:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 31 - 36].
وقال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 17 - 21]، وكذلك قوله في أثناء السورة: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75- 76].
فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه ، وأنه لا مثل له.
ويبين ما اختص به من صفات الكمال وانتفائها عما يعبد من دونه.
ويبين أنه يتعالى عما يشركون وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له.
وقال: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وهم كانوا يقولون إنهم يشفعون لهم، ويتقربون بهم.
لكن كانوا يثبتون الشفاعة بدون إذنه، فيجعلون المخلوق يملك الشفاعة، وهذا نوع من الشرك.
فلهذا قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86]، فالشفاعة لا يملكها أحد غير الله.
كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، يقول لابُتغَت الحوائج من الله.
وعن معمر، عن قتادة: {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} : لابتغوا التقرب إليه مع أنه ليس كما يقولون.
وعن سعيد، عن قتادة: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42]، يقول: لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا له فضله ومزيته عليهم ولابتغوا إليه ما يقربهم إليه.
وروى عن سفيان الثوري: لتعاطوا سلطانه.
وعن أبي بكر الهذلى،عن سعيد بن جبير: سبيلاً إلى أن يزيلوا ملكه، والهذلي ضعيف.
فقد تضمن العلو الذي ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد، فليس كمثله شيء.
وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون ما سواه.
وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء.
وتضمن أنه عال على كل ما سواه، قاهر له، قادر عليه، نافذة مشيئته فيه، وأنه عال على الجميع فوق عرشه.
فهذه ثلاثة أمور في اسمه [العلي].
وإثبات علوه علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره يقتضي ربوبيته له، وخَلْقَه له، وذلك يستلزم ثبوت الكمال.
وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال.
وهذا وهذا يقتضي جميع ما يوصف به في الإثبات والنفي.
ففي الإثبات يوصف بصفات الكمال، وفي النفي ينزه عن النقص المناقض للكمال، وينزه عن أن يكون له مثل في صفات الكمال.
كما قد دلت على هذا وهذا سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1- 2].
وتعاليـه عـن الشركـاء يقتضي اختصاصـه بالإلهية، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده، كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، أي: وإن كـانوا كما يقولون يشفعون عنده بغير إذنه ويقربونكم إليه بغير إذنـه فهـو الرب والإلـه دونهم، وكانـوا يبتغون إليه سبيلا بالعبادة له والتقرب إليه.
هـذا أصح القولين.
كما قال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 29-30]، وقال: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54- 55]، وقال:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57].
ثم قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، فتعالى عن أن يكون معه إله غيره، أو أحد يشفع عنده إلا بإذنه، أو يتقرب إليه أحد إلا بإذنه.
فهذا هو الذي كانوا يقولون.
ولم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تقدر أن تمانعه أو تغالبه.
بل هذا يلزم من فرض إله آخر يخلق كما يخلق، وإن كانوا هم لم يقولوا ذلك، كما قال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
فقد تبين أن اسمه [الأعلى] يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية
[الأعلى]: على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم، والأكبر، والأجمل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو سفيان: اعل هبل! اعل هبل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو مذكور بأداة التعريف [الأعلى] مثل: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]، بخلاف ما إذا قيل: (اللّه أكبر) فإنه منكر.
ولهذا معنى يخصه يتميز به؛ ولهذا معنى يخصه يتميز به، كما بين العلو، والكبرياء، والعظمة، فإن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى ، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار.
ولهذا كان شعائر الصلاة، والأذان، والأعياد والأماكن العالية، هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن؛ سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول: (الله أكبر)، (اللّه أعظم).
ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقـد إلا بلفظ التكبير.
فلو قال: (اللّه أعظم) لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، وداود، وغيرهم. ولو أتى بغير ذلك من الأذكار، مثل سبحان اللّه، والحمد للّه، لم تنعقد به الصلاة.
ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض، كما في السنن عن جابر بن عبد اللّه قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك.
ولما نزل قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74 - 96]، قال ، ولما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال .
وثبت عنه أنه كان يقول في ركوعه ، وفي سجوده .
ولم يكن يكبر في الركوع والسجود.
لكن قد كان يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده ، يتأول القرآن، أي: يتأول قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فكان يجمع بين التسبيح و التحميد.
وكذلك قد كان يقرن بالتسبيح في الركوع والسجود التهليل، كما في صحيح مسلم عن عائشة قالت .
ففي هـذه الأحـاديث كلها أنـه كان يسـبح في الركـوع والسجود، لكن قد يقرن بالتسبيـح التحميـد والتهليل، وقـد يقـرن به الدعاء.
ولم ينقل أنه كبر في الركوع والسجود.
وأمـا قراءة القرآن فيهما فقد ثبت عنه أنه قال ، رواه مـسلم مـن حـديث على، ومـن حـديث ابن عباس.
وذلك أن القـرآن كـلام اللّه فـلا يتلى إلا في حـال الارتفاع، والتكبير أيضًا محلـه حال الارتفاع.
وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروى عن مالك: أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه.
ثم اختلفوا في وجوبه.
فالمشهور عن أحمد، وإسحق، وداود، وغيرهم: وجوبه.
وعن أبي حنيفة، والشافعي: استحبابه.
والقائلون بالوجوب، منهم من يقول: يتعين: و ، للأمر بهما، وهو قول كثير من أصحاب أحمد، ومنهم من يقول: بل يذكر بعض الأذكار المأثورة.
والأقـوى: أنه يتعـين التسبيح، إما بلفظ (سبحان)، وإما بلفظ (سبحانك)، ونحو ذلك.
وذلك أن القـرآن سماها: (تسبيحًا)، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السـنة أن محـل ذلك الركـوع والسجود، كما سماها اللّه: (قرآنًا).
وقد بينت السنة أن محل ذلك القيـام.
وسماها: [قيامًا] و[سجودًا] و[ركوعًا]، وبينت السنة علة ذلك ومحله.
وكذلك التسبيح يسبح في الركوع والسجود.
وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول و ، وأنه كان يقول ، و .
وفي بعض روايات أبي داود ، وفي استحباب هذه الزيادة عن أحمد روايتان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده .
وفي السنن أنه كان يقول .
فهذه كلها تسبيحات.
والمنقول عن مالك أنه كان يكره المداومة على ذلك.
فإن كان كراهة المداومة على ، فله وجه، وإن كان كراهة المداومة على جنس التسبيح، فـلا وجـه لـه، وأظنـه الأول.
وكـذلك المنقول عنه إنما هـو كراهة المـداومـة على ؛ لئلا يظن أنها فرض؛وهذا يقتضي: أن مالكًا أنكر أن تكون فرضًا واجبًا.
وهذا قوى ظـاهر، بخلاف جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدًا.
وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة.
وقوله يقتضي أن هذا محل لامتثال هذا الأمر، لا يقتضي أنه لا يقال إلا هي مع ما قد ثبت أنه كان يقول غيرها.
والجمع بين صيغتي تسبيح بعيد، بخلاف الجمع بين التسبيح، والتحميد، والتهليل والدعاء.
فإن هذه أنواع، والتسبيح نوع واحد فلا يجمع فيه بين صيغتين.
وأيضًا، قـد ثبت في الصحيـح أنه قال" .
فهذا يقتضي أن هـذه الكلمات أفضـل من غيرهـا.
فإن جعل التسبيح نوعا واحدًا، فـ (سبحان اللّه) و(سبحان ربي الأعلى) سـواء، وإن جعـل متفاضـلا فـ (سبـحان اللّه) أفضل بهذا الحديث.
وأيضًا، فقـولـه : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعـلى :1] و {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74-96]، أمر بتسبيح ربه، ليس أمرًا بصيغة معينة.
فإذا قال سبحان اللّه وبحمده سبحانك اللهم وبحمدك.
فقـد سبح ربه الأعلى والعظيم.
فإن اللّه هو الأعلى، وهو العظيم، واسمه [اللّه]، يتناول معاني سائر الأسماء بطريق التضمن، وإن كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه.
ففي اسمه [الله] التصريح بالإلهية، واسمه [اللّه] أعظم من اسمه [الرب].
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل .
فالقيام فيه التحميد.
و في الاعتدال من الركوع،وفي الركوع والسجود: التسبيح، وفي الانتقال: التكبير، وفي القعود:التشهد، وفيه التوحيد.
فصارت الأنواع الأربعة في الصلاة.
والفاتحة أيضًا فيها التحميد والتوحيد.
فالتحميد والتوحيد ركن يجب في القراءة.
والتكبير ركن في الافتتاح.
والتشهد الآخر ركن في القعود كما هو المشهور عن أحمد.
وهو مذهب الشافعي، وفيه التشهد المتضمن للتوحيد.
يبقى التسبيح.
وأحمد يوجبـه في الركوع والسجـود.
وروى عنـه أنـه ركـن.
وهـو قــوى لثبـوت الأمــر بــه في القـرآن والسـنة.
فكـيف يـوجـب الصـلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجئ أمـر بها في الصـلاة خصـوصًا ولا يـوجب التسبـيح مـع الأمـر بـه في الصلاة، ومع كون الصلاة تسمى [تسبيحًا]؟ وكل ما سميت به الصلاة من أبعاضها فهو ركن فيها، كما سميت [قيامًا]، و[ركوعًا]، و[سجودًا]، و[قراءة]، وسميت أيضًا [تسبيحًا].
ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينفي وجوبه في حال السهو كما ورد في التشهد الأول أنه لما تركه سجد للسهو، لكن قد يقال: لما لم يأمر به المسيء في صلاته دل على أنه واجب ليس بركن.
وبسط هذه المسألة له موضع آخر.
والمقصود هنا أن التسبيح قد خص به حال الانخفاض، كما خص حال الارتفاع بالتكبير.
فذكر العبد في حال انخفاضه وذله ما يتصف به الرب مقابل ذلك.
فيقول في السجود: سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم.
و[الأعلى] يجمع معاني العلـو جميعها، وأنـه الأعلى بجمـيع معاني العلـو.
وقـد اتفق الناس على أنـه علىّ على كـل شيء بمعنى أنـه قاهـر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال: {إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
وعلى أنه عال عن كل عيب ونقص ، فهو عال عن ذلك ، منزه عنه،كما قال تعالى : {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 39 ـ 43]، فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح.
وقال تعالى: {ممَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون: 91- 92] ، وقـالت الجـن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].
وفي دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك).
وفي الصحيحين أنه كان يقول في آخر استفتاحه .
فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون.
فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك.
وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمي ، والند ، والمثل فلا يكون شيء مثله.
وقد ذكروا من معاني العلو الفضيلة، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة.
ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء فلا شيء مثله.
وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء.
وفي القرآن:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، ويقول: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] ، ويقول {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى} [يونس: 35]، وقالت السحرة: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73].
وهو سبحانه يبين أن المعبودين دونه ليسوا مثله في مواضع، كقوله:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 31 - 36].
وقال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 17 - 21]، وكذلك قوله في أثناء السورة: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75- 76].
فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه ، وأنه لا مثل له.
ويبين ما اختص به من صفات الكمال وانتفائها عما يعبد من دونه.
ويبين أنه يتعالى عما يشركون وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له.
وقال: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وهم كانوا يقولون إنهم يشفعون لهم، ويتقربون بهم.
لكن كانوا يثبتون الشفاعة بدون إذنه، فيجعلون المخلوق يملك الشفاعة، وهذا نوع من الشرك.
فلهذا قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86]، فالشفاعة لا يملكها أحد غير الله.
كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، يقول لابُتغَت الحوائج من الله.
وعن معمر، عن قتادة: {لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} : لابتغوا التقرب إليه مع أنه ليس كما يقولون.
وعن سعيد، عن قتادة: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42]، يقول: لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا له فضله ومزيته عليهم ولابتغوا إليه ما يقربهم إليه.
وروى عن سفيان الثوري: لتعاطوا سلطانه.
وعن أبي بكر الهذلى،عن سعيد بن جبير: سبيلاً إلى أن يزيلوا ملكه، والهذلي ضعيف.
فقد تضمن العلو الذي ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد، فليس كمثله شيء.
وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون ما سواه.
وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء.
وتضمن أنه عال على كل ما سواه، قاهر له، قادر عليه، نافذة مشيئته فيه، وأنه عال على الجميع فوق عرشه.
فهذه ثلاثة أمور في اسمه [العلي].
وإثبات علوه علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره يقتضي ربوبيته له، وخَلْقَه له، وذلك يستلزم ثبوت الكمال.
وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال.
وهذا وهذا يقتضي جميع ما يوصف به في الإثبات والنفي.
ففي الإثبات يوصف بصفات الكمال، وفي النفي ينزه عن النقص المناقض للكمال، وينزه عن أن يكون له مثل في صفات الكمال.
كما قد دلت على هذا وهذا سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1- 2].
وتعاليـه عـن الشركـاء يقتضي اختصاصـه بالإلهية، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده، كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، أي: وإن كـانوا كما يقولون يشفعون عنده بغير إذنه ويقربونكم إليه بغير إذنـه فهـو الرب والإلـه دونهم، وكانـوا يبتغون إليه سبيلا بالعبادة له والتقرب إليه.
هـذا أصح القولين.
كما قال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 29-30]، وقال: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54- 55]، وقال:{أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57].
ثم قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، فتعالى عن أن يكون معه إله غيره، أو أحد يشفع عنده إلا بإذنه، أو يتقرب إليه أحد إلا بإذنه.
فهذا هو الذي كانوا يقولون.
ولم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تقدر أن تمانعه أو تغالبه.
بل هذا يلزم من فرض إله آخر يخلق كما يخلق، وإن كانوا هم لم يقولوا ذلك، كما قال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
فقد تبين أن اسمه [الأعلى] يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
___________________
المجلد السادس عشر
مجموع الفتاوي لابن تيمية