هل يعم النهي عن نكاح المشركات أهل الكتاب؟

منذ 2008-05-30
السؤال:

أنا أعلم حكم زواج المسلمة من الكتابي وأنه حرام؛ لأنه مشرك ولكن؛ لماذا أُحل للمسلم الزواج من الكتابية برغم أنها مشركة والقرآن حرم الزواج من المشركات؛ قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، فالتحريم مشترك، والمرأة الكتابية مشركة؛ لأنها تقول: عيسى ابن الله؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، يعم جميع الكافرات؛ من الكتابيات وغيرهن من المشركات، ولكن الله تعالى قد رخص في التزويج بالكتابية، في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُم} [المائدة:5]، فعموم آيات التحريم مخصوص بهذه الآية، ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة.

قال الإمام ابن كثير عند قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}: "هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}" [المائدة:5]، قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]: "استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم، وقيل: "بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول والله أعلم".

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: "فإن قيل هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5]، معارضة بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وبقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، قيل: الجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب؛ وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] فجعل المشركين قسماً غير أهل الكتاب وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17]، فجعلهم قسماً غيرهم.

فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، فوصفهم بأنهم مشركون.

وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36]، ولكنهم بدَّلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطاناً فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا؛ لا باعتبار أصل الدين.

وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، هو تعريف الكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين، وأولئك كن مشركات؛ لا كتابيات من أهل مكة ونحوها.

الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ " المشركات " و " الكوافر " يعم الكتابيات: فآية المائدة خاصة، وهي متأخرة، نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة، باتفاق العلماء؛ كما في الحديث: "المائدة من آخر القرآن نزولاً؛ فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها"، والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين؛ لكن الجمهور يقولون: "إنه مفسِّر له. فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام. وطائفة يقولون: إن ذلك نُسِخ بعد أن شُرِّع.

الوجه الثالث: إذا فرضنا النصين خاصين، فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم، والآخر أحلهما. فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين:

أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء؛ فتكون ناسخة للنص المتقدم، ولا يقال: إن هذا نسخ للحكم مرتين؛ لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك؛ بل كان لعدم التحريم؛ بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك. والتحريم المبتدأ لا يكون نسخاً لاستصحاب حكم الفعل؛ ولهذا لم يكن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"، ناسخًا لما دلَّ عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145]، الآية من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة؛ فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية؛ ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك؛ بل كان ما سوى ذلك عفواً لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون.

ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم، وسورة المائدة مدنية بالإجماع، وسورة الأنعام مكية بالإجماع، فعُلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} إلى آخرها [المائدة:5]. فثبت نكاح الكتابيات، وقبل ذلك كان إما عفواً على الصحيح وإما محرماً ثم نسخ، يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء.

الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب، بالكتاب والسنة والإجماع، والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم، فإذا ثبت حِل أحدهما ثبت حِل الآخر؛ وحِل أطعمتهم ليس له معارض أصلاً، ويدل على ذلك: أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك".اهـ.

وأما لماذا أباح الله تعالى زواج المسلم من الكتابية ولم يجز سبحانه للمرأة المسلمة أن تتزوج الكتابي فلأسباب عديدة منها: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه؛ فالزوج له قوامة على زوجته، وهذا ممنوع في حق الكافر على المسلم، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} النساء:141]، وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

ومنها: إنه لا يُؤمَن على المرأة -وهي تميل إلى العاطفة أكثر من الرجل- أن تتأثر بزوجها إذا دعاها لدينه، وكذلك لا يؤمن على الأولاد أن يتابعوا أباهم على كفره، إلى غير ذلك.

وزواج المسلم بالكتابية ليس فيه تلك المفاسد؛ فالقوامة للمسلم، وقد يؤثر عليها فيهديها الله تعالى على يديه، كما أنه مُكلف بتنشئة أولاده تنشئة إسلامية تقيهم متابعة دين أمهم ، وإذا قصر في ذلك فهو محاسب أمام الله، وكما أن المسلم إذا تزوج كتابية فهو يؤمن بكتابها غير المبدل ورسولها، فيكوَّن معها أساساً للتفاهم في الجملة يمكن معه للحياة أن تستمر.

أما الكتابي فإذا تزوج بمسلمة فهو لا يؤمن بدينها ولا أحكامه إطلاقاً، ولا مجال للتفاهم معه في أمر لا يؤمن به كلية، ومن هنا فلا مجال للتفاهم والوئام، ولهذا مُنع هذا الزواج ابتداءً،، والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع الألوكة

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 12
  • 7
  • 66,548

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً