باب دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة
محمد بن إدريس الشافعي
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
السؤال: باب دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة
الإجابة: [قال الشافعي] رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}،
إلى قوله: {والركع السجود}.
[قال الشافعي]: المثابة في كلام العرب: الموضع يثوب الناس إليه ويئوبون، يعودون إليه بعد الذهاب منه، وقد يقال: ثاب إليه اجتمع إليه، فالمثابة تجمع الاجتماع، ويئوبون يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم منه ومبتدئين، قال ورقة بن نوفل يذكر البيت:
وقال خداش بن زهير النصري:
وقال الله عز وجل: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم}، يعني والله أعلم، آمناً من صار إليه لا يتخطف اختطاف من حولهم، وقال لإبراهيم خليله: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.
[قال الشافعي]: فسمعت بعض من أرضى من أهل العلم يذكر أن الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على المقام فصاح صيحة عباد الله أجيبوا داعي الله، فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته ووقاه من وافاه، يقولون: "لبيك داعي ربنا لبيك"، وقال الله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} الآية، فكان ذلك دلالة كتاب الله عز وجل فينا وفي الأمم، على أن الناس مندوبون إلى إتيان البيت بإحرام، وقال الله عز وجل: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}، وقال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}.
[قال الشافعي]: فكان مما ندبوا به إلى إتيان الحرم بالإحرام قال: وروي عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: (لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة طأطأه، فشكا الوحشة إلى أصوات الملائكة، فقال: يا رب مالي لا أسمع حس الملائكة؟ فقال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فإن لي بيتاً بمكة فأته فافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة يفعلون حول عرشي، فأقبل يتخطى موضع كل قدم قرية وما بينهما مفازة فلقيته الملائكة بالردم، فقالوا: برَّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام)، أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي أو غيره قال: (حج آدم فلقيته الملائكة، فقالت: برَّ نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام).
[قال الشافعي]: وهو إن شاء الله تعالى كما قال، وروى عن أبي سلمة وسفيان بن عيينة كان يشك في إسناده.
[قال الشافعي]: ويحكى أن النبيين كانوا يحجون فإذا أتوا الحرم مشوا إعظاماً له ومشوا حفاة، ولم يحك لنا عن أحد من النبيين ولا الأمم الخالية أنه جاء أحد البيت قط إلا حراماً، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة علمناه إلا حراماً إلا في حرب الفتح، فبهذا قلنا إن سنة الله تعالى في عباده أن لا يدخل الحرم إلا حراماً، وبأن من سمعناه من علمائنا قالوا فمن نذر أن يأتي البيت يأتيه محرماً بحج أو عمرة.
قال: ولا أحسبهم قالوه إلا بما وصفت، وأن الله تعالى ذكر وجه دخول الحرم فقال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين}.
قال: فدل على وجه دخوله للنسك وفي الأمن وعلى رخصة الله في الحرب وعفوه فيه عن النسك، وأن فيه دلالة على الفرق بين من يدخل مكة وغيرها من البلدان، وذلك أن جميع البلدان تستوي لأنها لا تدخل بإحرام، وإن مكة تنفرد بأن من دخلها منتاباً لها لم يدخلها إلا بإحرام.
[قال الشافعي]: إلا أن من أصحابنا من رخص للحطابين ومن مدخله إياها لمنافع أهلها والكسب لنفسه، ورأيت أحسن ما يحمل عليه هذا القول إلى أن انتياب هؤلاء مكة انتياب كسب لا انتياب تبرر، وأن ذلك متتابع كثير متصل فكانوا يشبهون المقيمين فيها، ولعل حطابيهم كانوا مماليك غير مأذون لهم بالتشاغل بالنسك، فإذا كان فرض الحج على المملوك ساقطاً سقط عنه ما ليس بفرض من النسك، فإن كانوا عبيداً ففيهم هذا المعنى الذي ليس في غيرهم مثله، وإن كانت الرخصة لهم لمعنى أن قصدهم في دخول مكة ليس قصد النسك ولا التبرر وأنهم يجمعون أن دخولهم شبيه بالدائم فمن كان هكذا كانت له الرخصة، فأما المرء يأتي أهله بمكة من سفر فلا يدخل إلا محرماً لأنه ليس في واحد من المعنيين، فأما البريد يأتي برسالة أو زور أهله وليس بدائم الدخول فلو استأذن فدخل محرماً كان أحب إلي، وإن لم يفعل ففيه المعنى الذي وصفت أنه يسقط به عنه ذلك، ومن دخل مكة خائفاً الحرب فلا بأس أن يدخلها بغير إحرام، فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت؟ قيل: الكتاب والسنة، فإن قال: وأين؟ قيل: قال الله تبارك وتعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، فأذن للمحرمين بحج أو عمرة أن يحلوا لخوف الحرب، فكان من لم يحرم أولى إن خاف الحرب أن لا يحرم من محرم يخرج من إحرامه، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح غير محرم للحرب، فإن قال قائل: فهل عليه إذا دخلها بغير إحرام لعدو وحرب أن يقضي إحرامه؟ قيل: لا، إنما يقضي ما وجب بكل وجه فاسد، أو ترك فلم يعمل، فأما دخوله مكة بغير إحرام فلما كان أصله أن من شاء لم يدخلها إذا قضى حجة الإسلام وعمرته كان أصله غير قرض فلما دخلها محلاً فتركه كان تاركاً لفضل وأمر لم يكن أصله فرضاً بكل حال فلا يقضيه، فأما إذا كان فرضاً عليه إتيانها لحجة الإسلام أو نذر نذره فتركه إياه لا بد أن يقضيه أو يقضى عنه بعد موته أو في بلوغ الوقت الذي لا يستطيع أن يستمسك فيه على المركب، ويجوز عندي لمن دخلها خائفا من سلطان أو أمر لا يقدر على دفعه، ترك الإحرام إذا خافه في الطواف والسعي، وإن لم يخفه فيهما لم يجز له والله أعلم، ومن المدنيين من قال: لا بأس أن يدخل بغير إحرام، واحتج بأن ابن عمر دخل مكة غير محرم.
[قال الشافعي]: وابن عباس يخالفه، ومعه ما وصفنا، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها عام الفتح غير محرم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها كما وصفنا محاربا، فإن قال: أقيس على مدخل النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أفتقيس على إحصار النبي صلى الله عليه وسلم بالحرب؟ فإن قال: لا، لأن الحرب مخالفة لغيرها، قيل: وهكذا افعل في الحرب حيث كانت، لا تفرق بينهما في موضع وتجمع بينهما في آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم - كتاب الحج.
[قال الشافعي]: المثابة في كلام العرب: الموضع يثوب الناس إليه ويئوبون، يعودون إليه بعد الذهاب منه، وقد يقال: ثاب إليه اجتمع إليه، فالمثابة تجمع الاجتماع، ويئوبون يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم منه ومبتدئين، قال ورقة بن نوفل يذكر البيت:
مثاباً لا فناء القبائل كلها *** تخب
إليه اليعملات الذوامل
وقال خداش بن زهير النصري:
فما برحت بكر تثوب وتدعى *** ويلحق
منهم أولون وآخر
وقال الله عز وجل: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم}، يعني والله أعلم، آمناً من صار إليه لا يتخطف اختطاف من حولهم، وقال لإبراهيم خليله: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.
[قال الشافعي]: فسمعت بعض من أرضى من أهل العلم يذكر أن الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على المقام فصاح صيحة عباد الله أجيبوا داعي الله، فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته ووقاه من وافاه، يقولون: "لبيك داعي ربنا لبيك"، وقال الله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} الآية، فكان ذلك دلالة كتاب الله عز وجل فينا وفي الأمم، على أن الناس مندوبون إلى إتيان البيت بإحرام، وقال الله عز وجل: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}، وقال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}.
[قال الشافعي]: فكان مما ندبوا به إلى إتيان الحرم بالإحرام قال: وروي عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: (لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة طأطأه، فشكا الوحشة إلى أصوات الملائكة، فقال: يا رب مالي لا أسمع حس الملائكة؟ فقال: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فإن لي بيتاً بمكة فأته فافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة يفعلون حول عرشي، فأقبل يتخطى موضع كل قدم قرية وما بينهما مفازة فلقيته الملائكة بالردم، فقالوا: برَّ حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام)، أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي أو غيره قال: (حج آدم فلقيته الملائكة، فقالت: برَّ نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام).
[قال الشافعي]: وهو إن شاء الله تعالى كما قال، وروى عن أبي سلمة وسفيان بن عيينة كان يشك في إسناده.
[قال الشافعي]: ويحكى أن النبيين كانوا يحجون فإذا أتوا الحرم مشوا إعظاماً له ومشوا حفاة، ولم يحك لنا عن أحد من النبيين ولا الأمم الخالية أنه جاء أحد البيت قط إلا حراماً، ولم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة علمناه إلا حراماً إلا في حرب الفتح، فبهذا قلنا إن سنة الله تعالى في عباده أن لا يدخل الحرم إلا حراماً، وبأن من سمعناه من علمائنا قالوا فمن نذر أن يأتي البيت يأتيه محرماً بحج أو عمرة.
قال: ولا أحسبهم قالوه إلا بما وصفت، وأن الله تعالى ذكر وجه دخول الحرم فقال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين}.
قال: فدل على وجه دخوله للنسك وفي الأمن وعلى رخصة الله في الحرب وعفوه فيه عن النسك، وأن فيه دلالة على الفرق بين من يدخل مكة وغيرها من البلدان، وذلك أن جميع البلدان تستوي لأنها لا تدخل بإحرام، وإن مكة تنفرد بأن من دخلها منتاباً لها لم يدخلها إلا بإحرام.
[قال الشافعي]: إلا أن من أصحابنا من رخص للحطابين ومن مدخله إياها لمنافع أهلها والكسب لنفسه، ورأيت أحسن ما يحمل عليه هذا القول إلى أن انتياب هؤلاء مكة انتياب كسب لا انتياب تبرر، وأن ذلك متتابع كثير متصل فكانوا يشبهون المقيمين فيها، ولعل حطابيهم كانوا مماليك غير مأذون لهم بالتشاغل بالنسك، فإذا كان فرض الحج على المملوك ساقطاً سقط عنه ما ليس بفرض من النسك، فإن كانوا عبيداً ففيهم هذا المعنى الذي ليس في غيرهم مثله، وإن كانت الرخصة لهم لمعنى أن قصدهم في دخول مكة ليس قصد النسك ولا التبرر وأنهم يجمعون أن دخولهم شبيه بالدائم فمن كان هكذا كانت له الرخصة، فأما المرء يأتي أهله بمكة من سفر فلا يدخل إلا محرماً لأنه ليس في واحد من المعنيين، فأما البريد يأتي برسالة أو زور أهله وليس بدائم الدخول فلو استأذن فدخل محرماً كان أحب إلي، وإن لم يفعل ففيه المعنى الذي وصفت أنه يسقط به عنه ذلك، ومن دخل مكة خائفاً الحرب فلا بأس أن يدخلها بغير إحرام، فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت؟ قيل: الكتاب والسنة، فإن قال: وأين؟ قيل: قال الله تبارك وتعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، فأذن للمحرمين بحج أو عمرة أن يحلوا لخوف الحرب، فكان من لم يحرم أولى إن خاف الحرب أن لا يحرم من محرم يخرج من إحرامه، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح غير محرم للحرب، فإن قال قائل: فهل عليه إذا دخلها بغير إحرام لعدو وحرب أن يقضي إحرامه؟ قيل: لا، إنما يقضي ما وجب بكل وجه فاسد، أو ترك فلم يعمل، فأما دخوله مكة بغير إحرام فلما كان أصله أن من شاء لم يدخلها إذا قضى حجة الإسلام وعمرته كان أصله غير قرض فلما دخلها محلاً فتركه كان تاركاً لفضل وأمر لم يكن أصله فرضاً بكل حال فلا يقضيه، فأما إذا كان فرضاً عليه إتيانها لحجة الإسلام أو نذر نذره فتركه إياه لا بد أن يقضيه أو يقضى عنه بعد موته أو في بلوغ الوقت الذي لا يستطيع أن يستمسك فيه على المركب، ويجوز عندي لمن دخلها خائفا من سلطان أو أمر لا يقدر على دفعه، ترك الإحرام إذا خافه في الطواف والسعي، وإن لم يخفه فيهما لم يجز له والله أعلم، ومن المدنيين من قال: لا بأس أن يدخل بغير إحرام، واحتج بأن ابن عمر دخل مكة غير محرم.
[قال الشافعي]: وابن عباس يخالفه، ومعه ما وصفنا، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها عام الفتح غير محرم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها كما وصفنا محاربا، فإن قال: أقيس على مدخل النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أفتقيس على إحصار النبي صلى الله عليه وسلم بالحرب؟ فإن قال: لا، لأن الحرب مخالفة لغيرها، قيل: وهكذا افعل في الحرب حيث كانت، لا تفرق بينهما في موضع وتجمع بينهما في آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم - كتاب الحج.