الماء الراكد
منذ 2009-01-01
السؤال: الماء الراكد
الإجابة: [قال الشافعي]: والماء الراكد ماءان: ماء لا ينجس بشيء خالطه من
المحرم إلا أن يكون لونه فيه أو ريحه أو طعمه قاتماً، وإذا كان شيء من
المحرم فيه موجوداً بأحد ما وصفنا تنجس كله قل أو كثر.
قال: وسواء إذا وجد المحرم في الماء جارياً كان أو راكداً.
قال: وماء ينجس بكل شيء خالطه من المحرم، وإن لم يكن موجوداً فيه، فإن قال قائل: ما الحجة في فرق بين ما ينجس وما لا ينجس، ولم يتغير واحد منهما؟! قيل: السنة، أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ".
أخبرنا مسلم عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
وقال في الحديث: "بقلال هجر"، قال ابن جريج: ورأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً.
[قال الشافعي]: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة أو نصف القربة فيقول: خمس قرب هو أكثر ما يسع قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قرب، وفي قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " " دلالة على أن ما دون القلتين من الماء يحمل النجس.
[قال الشافعي]: فالاحتياط أن تكون القلة قربتين ونصفاً، فإذا كان الماء خمس قرب لم يحمل نجساً في جريان أو غيره، وقرب الحجاز كبار فلا يكون الماء الذي لا يحمل النجاسة إلا بقرب كبار، وإذا كان الماء أقل من خمس قرب فخالطته ميتة نجس، ونجس كل وعاء كان فيه فأهريق، ولم يطهر الوعاء إلا بأن يغسل، وإذا كان الماء أقل من خمس قرب فخالطته نجاسة ليست بقائمة فيه نجسته، فإن صب عليه ماء حتى يصير هو بالذي صب عليه خمس قرب فأكثر طهر، وكذلك لو صب هو على الماء أقل وأكثر منه حتى يصير الماءان معاً أكثر من خمس قرب لم ينجس واحد منهما صاحبه، وإذا صارا خمس قرب فطهرا ثم فرقا لم ينجسا بعد ما طهرا إلا بنجاسة تحدث فيهما.
وإذا وقعت الميتة في بئر أو غيرها فأخرجت في دلو أو غيره طرحت وأريق الماء الذي معها؛ لأنه أقل من خمس قرب منفرداً من ماء غيره، وأحب إلي لو غسل الدلو فإن لم يغسل ورد في الماء الكثير، طهره الماء الكثير، ولم ينجس هو الماء الكثير.
قال: والمحرم كله سواء إذا وقع في أقل من خمس قرب نجسه.
ولو وقع حوت ميت في ماء قليل أو جرادة ميتة لم ينجس؛ لأنهما حلال ميتتين، وكذلك كل ما كان من ذوات الأرواح مما يعيش في الماء، ومما لا يعيش في الماء من ذوات الأرواح إذا وقع في الماء الذي ينجس ميتاً نجسه إذا كان مما له نفس سائلة، فأما ما كان مما لا نفس له سائلة، مثل الذباب، والخنافس وما أشبههما ففيه قولان:
- أحدهما: أن ما مات من هذا في ماء قليل أو كثير لم ينجسه، ومن قال هذا قال: فإن قال قائل: هذه ميتة، فكيف زعمت أنها لا تنجس؟ قيل: لا تغير الماء بحال، ولا نفس لها. فإن قال: فهل من دلالة على ما وصفت؟ قيل: نعم، "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالذباب يقع في الماء أن يغمس فيه"، وكذلك أمر به في الطعام وقد يموت بالغمس، وهو لا يأمر بغمسه في الماء والطعام وهو ينجسه لو مات فيه؛ لأن ذلك عمد إفسادهما.
- والقول الثاني: أنه إذا مات فيما ينجس نجس؛ لأنه محرم، وقد يأمر بغمسه للداء الذي فيه والأغلب أنه لا يموت، وأحب إلي أن كل ما كان حراماً أن يؤكل فوقع في ماء فلم يمت حتى أخرج منه لم ينجسه وإن مات فيه نجسه، وذلك مثل الخنفساء والجعل والذباب والبرغوث، والقملة وما كان في هذا المعنى.
[قال]: وذرق الطير كله ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه إذا خالط الماء نجسه؛ لأنه يرطب برطوبة الماء.
[قال الربيع]: وعرق النصرانية والجنب، والحائض طاهر، وكذلك المجوسي وعرق كل دابة طاهر وسؤر الدواب والسباع كلها طاهر إلا الكلب، والخنزير.
[قال الربيع]: وهو قول الشافعي وإذا وضع المرء ماء فاستن بسواك وغمس السواك في الماء ثم أخرجه توضأ بذلك الماء؛ لأن أكثر ما في السواك ريقه، وهو لو بصق أو تنخم أو امتخط في ماء لم ينجسه والدابة نفسها تشرب في الماء، وقد يختلط به لعابها فلا ينجسه إلا أن يكون كلباً أو خنزيراً.
[قال]: وكذلك لو عرق فقطر عرقه في الماء لم ينجس؛ لأن عرق الإنسان والدابة ليس بنجس وسواء من أي موضع كان العرق من تحت منكبه أو غيره.
وإذا كان الحرام موجوداً في الماء وإن كثر الماء لم يطهر أبداً بشيء ينزح منه، وإن كثر حتى يصير الحرام منه عدماً لا يوجد منه فيه شيء قائم فإذا صار الحرام فيه عدماً طهر الماء وذلك أن يصب عليه ماء غيره أو يكون معينا فتنبع العين فيه فيكثر، ولا يوجد المحرم فيه فإذا كان هكذا طهر وإن لم ينزح منه شيء.
[قال]: وإذا نجس الإناء فيه الماء القليل أو الأرض أو البئر ذات البناء فيها الماء الكثير بحرام يخالطه فكان موجوداً فيه ثم صب عليه ماء غيره حتى يصير الحرام غير موجود فيه وكان الماء قليلاً فنجس فصب عليه ماء غيره حتى صار ماء لا ينجس مثله ولم يكن فيه حرام فالماء طاهر، والإناء، والأرض التي الماء فيهما طاهران؛ لأنهما إنما نجسا بنجاسة الماء، فإذا صار حكم الماء إلى أن يكون طاهراً كان كذلك حكم ما مسه الماء ولم يجز أن يحول حكم الماء، ولا يحول حكمه وإنما هو تبع للماء يطهر بطهارته، وينجس بنجاسته.
وإذا كان الماء قليلاً في إناء فخالطته نجاسة أريق وغسل الإناء، وأحب إليّ لو غسل ثلاثاً، فإن غسل واحدة تأتي عليه طهر، وهذا من كل شيء خالطه إلا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا يطهر إلا بأن يغسل سبع مرات، وإذا غسلهن سبعاً جعل أولاهن أو أخراهن تراباً لا يطهر إلا بذلك، فإن كان في بحر لا يجد فيه تراباً فغسله بما يقوم مقام تراب في التنظيف من أشنان أو نخالة أو ما أشبهه، ففيه قولان: أحدهما: لا يطهر إلا بأن يماسه التراب، والآخر: يطهر بما يكون خلفاً من التراب وأنظف منه مما وصفت كما تقول في الاستنجاء.
وإذا نجس الكلب أو الخنزير بشربهما نجّسا ما ماسّا به الماء من أبدانهما وإن لم يكن عليهما نجاسة، وكل ما لم ينجس بشربه فإذا أدخل في الماء يداً أو رجلاً أو شيئاً من بدنه لم ينجسه إلا بأن يكون عليه قذر فينجس القذر الماء لا جسده، فإن قال قائل: فكيف جعلت الكلب والخنزير إذا شربا في إناء لم يطهره إلا سبع مرات؟ وجعلت الميتة إذا وقعت فيه أو الدم طهرته مرة إذا لم يكن لواحد من هؤلاء أثر في الإناء؟!! قيل له: اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال الشافعي]: أخبرنا ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " "، أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " "، أخبرنا ابن عيينة عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
[قال الشافعي]: فقلنا في الكلب بما أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان الخنزير إن لم يكن في شر من حاله لم يكن في خير منها، فقلنا به قياساً عليه، وقلنا في النجاسة سواهما بما أخبرنا ابن عيينة عن هشام بن عروة أنه سمع امرأته فاطمة بنت المنذر تقول: سمعت جدتي أسماء بنت أبي بكر تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: " "، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء قالت: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: " ".
[قال الشافعي]: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيضة، ولم يوقت فيه شيئاً، وكان اسم الغسل يقع على غسله مرة وأكثر كما قال الله تبارك وتعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} فأجزأت مرة؛ لأن كل هذا يقع عليه اسم الغسل.
قال: فكانت الأنجاس كلها قياساً على دم الحيضة لموافقته معاني الغسل والوضوء في الكتاب والمعقول ولم نقسه على الكلب؛ لأنه تعبد ألا ترى أن اسم الغسل يقع على واحدة وأكثر من سبع، وأن الإناء ينقى بواحدة وبما دون السبع، ويكون بعد السبع في مماسة الماء مثل قبل السبع.
[قال]: ولا نجاسة في شيء من الأحياء ماست ماء قليلاً بأن شربت منه أو أدخلت فيه شيئاً من أعضائها إلا الكلب، والخنزير، وإنما النجاسة في الموتى، ألا ترى أن الرجل يركب الحمار، ويعرق الحمار وهو عليه، ويحل مسه؟ فإن قال قائل: ما الدليل على ذلك؟ قيل: أخبرنا إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: " ".
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن أبي حبيبة أو أبي حبيبة -شك الربيع- عن داود بن الحصين عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه! قالت: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟!! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا الثقة عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه.
[قال الشافعي]: فقسنا على ما عقلنا مما وصفنا وكان الفرق بين الكلب والخنزير وبين ما سواهما مما لا يؤكل لحمه أنه ليس منها شيء حرم أن يتخذ إلا لمعنى، والكلب حرم أن يتخذ لا لمعنى وجعل ينقص من عمل من اتخذه من غير معنى كل يوم قيراط أو قيراطان مع ما يتفرق به من أن الملائكة لا تدخل بيتا هو فيه، وغير ذلك ففضل كل شيء من الدواب يؤكل لحمه أو لا يؤكل حلال إلا الكلب والخنزير.
[قال الشافعي]: فإذا تغير الماء القليل أو الكثير فأنتن أو تغير لونه بلا حرام خالطه فهو على الطهارة، وكذلك لو بال فيه إنسان فلم يدر أخالطه نجاسة أم لا وهو متغير الريح أو اللون أو الطعم فهو على الطهارة حتى تعلم نجاسته؛ لأنه يترك لا يستقى منه فيتغير، ويخالطه الشجر والطحلب فيغيره.
[قال]: وإذا وقع في الماء شيء حلال فغير له ريحاً أو طعماً، ولم يكن الماء مستهلكاً فيه فلا بأس أن يتوضأ به وذلك أن يقع فيه البان أو القطران فيظهر ريحه أو ما أشبهه.
وإن أخذ ماء فشيب به لبن أو سويق أو عسل فصار الماء مستهلكاً فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء مستهلك فيه إنما يقال لهذا ماء سويق ولبن وعسل مشوب وإن طرح منه فيه شيء قليل يكون ما طرح فيه من سويق ولبن وعسل مستهلكاً فيه، ويكون لون الماء الظاهر ولا طعم لشيء من هذا فيه توضأ به، وهذا ماء بحاله وهكذا كل ما خالط الماء من طعام، وشراب وغيره إلا ما كان الماء قاراً فيه، فإذا كان الماء قاراً في الأرض فأنتن أو تغير توضأ به؛ لأنه لا اسم له دون الماء، وليس هذا كما خلط به مما لم يكن فيه.
ولو صب على الماء ماء ورد فظهر ريح ماء الورد عليه لم يتوضأ به؛ لأن الماء مستهلك فيه والماء الظاهر لا ماء الورد.
قال: وكذلك لو صب عليه قطران فظهر ريح القطران في الماء لم يتوضأ به وإن لم يظهر توضأ به؛ لأن القطران وماء الورد يختلطان بالماء فلا يتميزان منه.
ولو صب فيه دهن طيب أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء فظهر ريحه في الماء توضأ به؛ لأنه ليس في الماء شيء منه يسمى الماء مخوضا به، ولو كان صب فيه مسك أو ذريرة أو شيء ينماع في الماء حتى يصير الماء غير متميز منه فظهر فيه ريح لم يتوضأ به؛ لأنه حينئذ ماء مخوض به وإنما يقال له ماء مسك مخوضة، وذريرة مخوضة وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره إذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء حينئذ منسوب إلى ما خالطه منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم - كتاب الطهارة.
قال: وسواء إذا وجد المحرم في الماء جارياً كان أو راكداً.
قال: وماء ينجس بكل شيء خالطه من المحرم، وإن لم يكن موجوداً فيه، فإن قال قائل: ما الحجة في فرق بين ما ينجس وما لا ينجس، ولم يتغير واحد منهما؟! قيل: السنة، أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ".
أخبرنا مسلم عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
وقال في الحديث: "بقلال هجر"، قال ابن جريج: ورأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً.
[قال الشافعي]: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة أو نصف القربة فيقول: خمس قرب هو أكثر ما يسع قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قرب، وفي قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " " دلالة على أن ما دون القلتين من الماء يحمل النجس.
[قال الشافعي]: فالاحتياط أن تكون القلة قربتين ونصفاً، فإذا كان الماء خمس قرب لم يحمل نجساً في جريان أو غيره، وقرب الحجاز كبار فلا يكون الماء الذي لا يحمل النجاسة إلا بقرب كبار، وإذا كان الماء أقل من خمس قرب فخالطته ميتة نجس، ونجس كل وعاء كان فيه فأهريق، ولم يطهر الوعاء إلا بأن يغسل، وإذا كان الماء أقل من خمس قرب فخالطته نجاسة ليست بقائمة فيه نجسته، فإن صب عليه ماء حتى يصير هو بالذي صب عليه خمس قرب فأكثر طهر، وكذلك لو صب هو على الماء أقل وأكثر منه حتى يصير الماءان معاً أكثر من خمس قرب لم ينجس واحد منهما صاحبه، وإذا صارا خمس قرب فطهرا ثم فرقا لم ينجسا بعد ما طهرا إلا بنجاسة تحدث فيهما.
وإذا وقعت الميتة في بئر أو غيرها فأخرجت في دلو أو غيره طرحت وأريق الماء الذي معها؛ لأنه أقل من خمس قرب منفرداً من ماء غيره، وأحب إلي لو غسل الدلو فإن لم يغسل ورد في الماء الكثير، طهره الماء الكثير، ولم ينجس هو الماء الكثير.
قال: والمحرم كله سواء إذا وقع في أقل من خمس قرب نجسه.
ولو وقع حوت ميت في ماء قليل أو جرادة ميتة لم ينجس؛ لأنهما حلال ميتتين، وكذلك كل ما كان من ذوات الأرواح مما يعيش في الماء، ومما لا يعيش في الماء من ذوات الأرواح إذا وقع في الماء الذي ينجس ميتاً نجسه إذا كان مما له نفس سائلة، فأما ما كان مما لا نفس له سائلة، مثل الذباب، والخنافس وما أشبههما ففيه قولان:
- أحدهما: أن ما مات من هذا في ماء قليل أو كثير لم ينجسه، ومن قال هذا قال: فإن قال قائل: هذه ميتة، فكيف زعمت أنها لا تنجس؟ قيل: لا تغير الماء بحال، ولا نفس لها. فإن قال: فهل من دلالة على ما وصفت؟ قيل: نعم، "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالذباب يقع في الماء أن يغمس فيه"، وكذلك أمر به في الطعام وقد يموت بالغمس، وهو لا يأمر بغمسه في الماء والطعام وهو ينجسه لو مات فيه؛ لأن ذلك عمد إفسادهما.
- والقول الثاني: أنه إذا مات فيما ينجس نجس؛ لأنه محرم، وقد يأمر بغمسه للداء الذي فيه والأغلب أنه لا يموت، وأحب إلي أن كل ما كان حراماً أن يؤكل فوقع في ماء فلم يمت حتى أخرج منه لم ينجسه وإن مات فيه نجسه، وذلك مثل الخنفساء والجعل والذباب والبرغوث، والقملة وما كان في هذا المعنى.
[قال]: وذرق الطير كله ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه إذا خالط الماء نجسه؛ لأنه يرطب برطوبة الماء.
[قال الربيع]: وعرق النصرانية والجنب، والحائض طاهر، وكذلك المجوسي وعرق كل دابة طاهر وسؤر الدواب والسباع كلها طاهر إلا الكلب، والخنزير.
[قال الربيع]: وهو قول الشافعي وإذا وضع المرء ماء فاستن بسواك وغمس السواك في الماء ثم أخرجه توضأ بذلك الماء؛ لأن أكثر ما في السواك ريقه، وهو لو بصق أو تنخم أو امتخط في ماء لم ينجسه والدابة نفسها تشرب في الماء، وقد يختلط به لعابها فلا ينجسه إلا أن يكون كلباً أو خنزيراً.
[قال]: وكذلك لو عرق فقطر عرقه في الماء لم ينجس؛ لأن عرق الإنسان والدابة ليس بنجس وسواء من أي موضع كان العرق من تحت منكبه أو غيره.
وإذا كان الحرام موجوداً في الماء وإن كثر الماء لم يطهر أبداً بشيء ينزح منه، وإن كثر حتى يصير الحرام منه عدماً لا يوجد منه فيه شيء قائم فإذا صار الحرام فيه عدماً طهر الماء وذلك أن يصب عليه ماء غيره أو يكون معينا فتنبع العين فيه فيكثر، ولا يوجد المحرم فيه فإذا كان هكذا طهر وإن لم ينزح منه شيء.
[قال]: وإذا نجس الإناء فيه الماء القليل أو الأرض أو البئر ذات البناء فيها الماء الكثير بحرام يخالطه فكان موجوداً فيه ثم صب عليه ماء غيره حتى يصير الحرام غير موجود فيه وكان الماء قليلاً فنجس فصب عليه ماء غيره حتى صار ماء لا ينجس مثله ولم يكن فيه حرام فالماء طاهر، والإناء، والأرض التي الماء فيهما طاهران؛ لأنهما إنما نجسا بنجاسة الماء، فإذا صار حكم الماء إلى أن يكون طاهراً كان كذلك حكم ما مسه الماء ولم يجز أن يحول حكم الماء، ولا يحول حكمه وإنما هو تبع للماء يطهر بطهارته، وينجس بنجاسته.
وإذا كان الماء قليلاً في إناء فخالطته نجاسة أريق وغسل الإناء، وأحب إليّ لو غسل ثلاثاً، فإن غسل واحدة تأتي عليه طهر، وهذا من كل شيء خالطه إلا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا يطهر إلا بأن يغسل سبع مرات، وإذا غسلهن سبعاً جعل أولاهن أو أخراهن تراباً لا يطهر إلا بذلك، فإن كان في بحر لا يجد فيه تراباً فغسله بما يقوم مقام تراب في التنظيف من أشنان أو نخالة أو ما أشبهه، ففيه قولان: أحدهما: لا يطهر إلا بأن يماسه التراب، والآخر: يطهر بما يكون خلفاً من التراب وأنظف منه مما وصفت كما تقول في الاستنجاء.
وإذا نجس الكلب أو الخنزير بشربهما نجّسا ما ماسّا به الماء من أبدانهما وإن لم يكن عليهما نجاسة، وكل ما لم ينجس بشربه فإذا أدخل في الماء يداً أو رجلاً أو شيئاً من بدنه لم ينجسه إلا بأن يكون عليه قذر فينجس القذر الماء لا جسده، فإن قال قائل: فكيف جعلت الكلب والخنزير إذا شربا في إناء لم يطهره إلا سبع مرات؟ وجعلت الميتة إذا وقعت فيه أو الدم طهرته مرة إذا لم يكن لواحد من هؤلاء أثر في الإناء؟!! قيل له: اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[قال الشافعي]: أخبرنا ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " "، أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " "، أخبرنا ابن عيينة عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
[قال الشافعي]: فقلنا في الكلب بما أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان الخنزير إن لم يكن في شر من حاله لم يكن في خير منها، فقلنا به قياساً عليه، وقلنا في النجاسة سواهما بما أخبرنا ابن عيينة عن هشام بن عروة أنه سمع امرأته فاطمة بنت المنذر تقول: سمعت جدتي أسماء بنت أبي بكر تقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: " "، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء قالت: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: " ".
[قال الشافعي]: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيضة، ولم يوقت فيه شيئاً، وكان اسم الغسل يقع على غسله مرة وأكثر كما قال الله تبارك وتعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} فأجزأت مرة؛ لأن كل هذا يقع عليه اسم الغسل.
قال: فكانت الأنجاس كلها قياساً على دم الحيضة لموافقته معاني الغسل والوضوء في الكتاب والمعقول ولم نقسه على الكلب؛ لأنه تعبد ألا ترى أن اسم الغسل يقع على واحدة وأكثر من سبع، وأن الإناء ينقى بواحدة وبما دون السبع، ويكون بعد السبع في مماسة الماء مثل قبل السبع.
[قال]: ولا نجاسة في شيء من الأحياء ماست ماء قليلاً بأن شربت منه أو أدخلت فيه شيئاً من أعضائها إلا الكلب، والخنزير، وإنما النجاسة في الموتى، ألا ترى أن الرجل يركب الحمار، ويعرق الحمار وهو عليه، ويحل مسه؟ فإن قال قائل: ما الدليل على ذلك؟ قيل: أخبرنا إبراهيم بن محمد عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: " ".
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن أبي حبيبة أو أبي حبيبة -شك الربيع- عن داود بن الحصين عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه! قالت: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟!! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ".
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا الثقة عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه.
[قال الشافعي]: فقسنا على ما عقلنا مما وصفنا وكان الفرق بين الكلب والخنزير وبين ما سواهما مما لا يؤكل لحمه أنه ليس منها شيء حرم أن يتخذ إلا لمعنى، والكلب حرم أن يتخذ لا لمعنى وجعل ينقص من عمل من اتخذه من غير معنى كل يوم قيراط أو قيراطان مع ما يتفرق به من أن الملائكة لا تدخل بيتا هو فيه، وغير ذلك ففضل كل شيء من الدواب يؤكل لحمه أو لا يؤكل حلال إلا الكلب والخنزير.
[قال الشافعي]: فإذا تغير الماء القليل أو الكثير فأنتن أو تغير لونه بلا حرام خالطه فهو على الطهارة، وكذلك لو بال فيه إنسان فلم يدر أخالطه نجاسة أم لا وهو متغير الريح أو اللون أو الطعم فهو على الطهارة حتى تعلم نجاسته؛ لأنه يترك لا يستقى منه فيتغير، ويخالطه الشجر والطحلب فيغيره.
[قال]: وإذا وقع في الماء شيء حلال فغير له ريحاً أو طعماً، ولم يكن الماء مستهلكاً فيه فلا بأس أن يتوضأ به وذلك أن يقع فيه البان أو القطران فيظهر ريحه أو ما أشبهه.
وإن أخذ ماء فشيب به لبن أو سويق أو عسل فصار الماء مستهلكاً فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء مستهلك فيه إنما يقال لهذا ماء سويق ولبن وعسل مشوب وإن طرح منه فيه شيء قليل يكون ما طرح فيه من سويق ولبن وعسل مستهلكاً فيه، ويكون لون الماء الظاهر ولا طعم لشيء من هذا فيه توضأ به، وهذا ماء بحاله وهكذا كل ما خالط الماء من طعام، وشراب وغيره إلا ما كان الماء قاراً فيه، فإذا كان الماء قاراً في الأرض فأنتن أو تغير توضأ به؛ لأنه لا اسم له دون الماء، وليس هذا كما خلط به مما لم يكن فيه.
ولو صب على الماء ماء ورد فظهر ريح ماء الورد عليه لم يتوضأ به؛ لأن الماء مستهلك فيه والماء الظاهر لا ماء الورد.
قال: وكذلك لو صب عليه قطران فظهر ريح القطران في الماء لم يتوضأ به وإن لم يظهر توضأ به؛ لأن القطران وماء الورد يختلطان بالماء فلا يتميزان منه.
ولو صب فيه دهن طيب أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء فظهر ريحه في الماء توضأ به؛ لأنه ليس في الماء شيء منه يسمى الماء مخوضا به، ولو كان صب فيه مسك أو ذريرة أو شيء ينماع في الماء حتى يصير الماء غير متميز منه فظهر فيه ريح لم يتوضأ به؛ لأنه حينئذ ماء مخوض به وإنما يقال له ماء مسك مخوضة، وذريرة مخوضة وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره إذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء حينئذ منسوب إلى ما خالطه منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأم - كتاب الطهارة.
- التصنيف: