هل يصلي الراتبة موضع الفريضة؟
صليت المغرب في المسجد الجامع، وكان إلى جانبي رجل يظهر أنه من طلبة العلم. فقام ليصلي الراتبة بعد الصلاة، وحاول أن ينتقل من المكان الذي صلى فيه المغرب إلى محل آخر؛ فلم يجد، فأشار إلى من يليه، وتنحى عنه، فانتقل إلى محله، وصلى الراتبة، وكان بودي أن أسأله عن دليله على عمله هذا غير أنه خرج من المسجد قبل أن أتمكن من ذلك. فما دليه على ذلك أجيبونا مشكورين.
ورد في ذلك أحاديث وآثار لا تخلو من مقال، غير أنها إذا اجتمعت يعضد بعضها بعضا، وأخذ الفقهاء رحمهم الله منها: استحباب انتقال المصلي من مصلاه إلى غيره إذا أراد أن يتنفل. وبعضهم خص ذلك بالإمام، كما هو المشهور من المذهب. وإليك بعض ما ورد في ذلك:
قال المجد بن تيمية في كتابه المشهور (منتقى الأخبار): باب استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة: عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " (رواه ابن ماجه وأبو داود) (1)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " " (رواه أحمد وأبو داود، ورواه ابن ماجه) (2)، وقال: يعني السُّبْحة.
قال الشارح: والحديثان يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي يصلي فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل. أما الإمام، فبنص الحديث الأول، وبعموم الثاني. وأما المؤتم، والمنفرد، فبعموم الحديث الثاني، وبالقياس على الإمام. والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة، كما قال البخاري والبغوي؛ لأن مواضع السجود تشهد له، كما في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (3). أي: تخبر بما عُمِل عليها (4). وورد في تفسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْاَرْضُ} (5) أن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء (6).
وهذه العلة تقتضي أيضا أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل. فإن لم ينتقل، فينبغي أن يفصل بالكلام؛ لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي، أو يخرج (أخرجه مسلم وأبو داود) (7).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام: وقال لنا آدم: حدثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة (8). وفعله القاسم، ويذكر عن أبي هريرة رَفعَه: " "، ولم يصح.أ.هـ.
قال الحافظ في (الفتح) (9): لضعف إسناده، واضطرابه. وقال: وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: من السُّنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحلل من مكانه (10).
وحكى ابن قدامة في (المغني) (11) عن أحمد: أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير علي. فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة ولا حديث المغيرة، وكأن المعنى في ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة.
وفي (صحيح مسلم) عن السائب بن يزيد أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفل بعدها. فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك (12).
ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تُحمل الأحاديث النبوية المذكورة.أ.هـ. والله أعلم.
___________________________________________
1 - أبو داود (616)، وابن ماجه (1427)، وقال الحافظ في (الفتح) (2/ 335): إسناده منقطع.
2 - أحمد (2/ 425)، وأبو داود (1006)، وابن ماجه (1427) من حديث ليث بن أبي سليم، عن الحجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي هريرة مرفوعًا، به. قلت: إسناده ضعيف جدًّا؛ ففيه: ليث، وهو مشهور بضعفه وجهالة شيوخه. فأما شيخه الحجاج بن عبيد وشيخه إبراهيم بن إسماعيل، فقد جهَّلهما أبو حاتم الرازي. وقد اختلف في إسناده. وقال البخاري: ولم يثبت هذا الحديث، ولم يصح إسناده.
3 - سورة الزلزلة: الآية (4).
4 - انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (8/ 48).
5 - سورة الدخان: الآية (29).
6 - انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (7/240).
7 - أخرجه مسلم (883)، وأبو داود (1129) من حديث معاوية، ولفظه: "إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم، أو تخرج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: أن لا توصل صلاة بصلاة، حتى تتكلم، أو تخرج".
8 - البخاري (848).
9 - (2/335).
10 - أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 210) وفي إسناده عباد بن عبد الله الأسدي، قال فيه البخاري: فيه نظر.
11 - (2/ 258).
12 - أخرجه مسلم (883) وقد تقدم قريبًا.
عبد الله بن عبد العزيز العقيل
كان الشيخ عضوا في مجلس القضاء الأعلى ومن هيئة كبار العلماء في المملكة. توفي رحمه الله عام 1432هـ .
- التصنيف:
- المصدر: