حكم السجود أمام الصنم

منذ 2010-10-22
السؤال: ما قول أهل العلم في قول من يقرر أن السجود قدام الصنم لا يكون كفرا وشركا، ولو أقر بلسانه أنه يسجد للصنم، أو أظهر بهذا السجود موافقة المشركين على دينهم مادام أنه في الباطن لم يقصد السجود، ويقرر أن المشرك الوثني لو عرف صحة دين الإسلام وأقر به لكنها مداهنة لقومه وخوفا من الملامة والعيب يسجد معهم -طوعا- لأوثانهم، ويذبح لها ويطوف بها ويظهر تعظيمها، ولا يصرح بالبراءة منها، فمثل هذا لا يحكم بكفره مع كونه لآثما.

وربما احتج هذا المقرِّر بكلام متشابه منسوب لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، فما تقولون في ذلكم؟
الإجابة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، أما بعد:
فإن من المعلوم أن الكفر والإيمان يتعلقان بالظاهر والباطن، والناس بهذا الاعتبار أربعة أقسام:

القسم الأوّل: مؤمن ظاهراً وباطناً.

القسم الثاني: كافر ظاهراً وباطناً.

القسم الثالث: مؤمن ظاهراً لا باطناً، وهو المنافق، وهذه الأقسام هي التي ذكرها الله في أول سورة البقرة، وفي مواضع أخرى من القرآن.

وأما القسم الرابع فهو مَن أظهر الكفر قولاً أو فعلاً مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان، كالرجل من آل فرعون الذي يكتم إيمانه خوفاً من فرعون وملئه، ومثل الذي نزلت فيهم هذه الآية: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلِيهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل]، فدل هذا الاستثناء على أن من أظهر الكفر بقول، أو فعل وهو غير مكره، بل هازلاً أو مداهناً أو طامعاً فهو ممن شرح بالكفر صدراً، لأن ما أظهره من الكفر هو فيه مختار، والاختيار إنما يكون مع شرح الصدر، فيكون ممن كفر ظاهراً وباطنًا، ولهذا قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} الآية قال شيخ الإسلام: "وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ومن اتبعه، فإن الله جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن قيل فقد قال تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا، وإلا ناقص أولَ الآية آخرهُا" (مجموع الفتاوى) (7-220).

إذا ثبت هذا فمَن أظهر الموافقة للمشركين بأن دعوه للسجود لصنمهم أو الذبح له فأجابهم طائعاً مختاراً لأي غرض من الأغراض، وزعم أنه إنما سجد لله وذبح لله فهو ممن كفر بالله وشرح بالكفر صدراً، وأبلغ من هذا أن من أقرَّ للمشركين بأنه يسجد لصنمهم ويذبح له ثم يدعي أنه يكذب عليهم، وهذا مثل من يقول لليهود أو النصارى أو المشركين: إن الدين الذي أنتم عليه حق، ويزعم أنه يفعل ذلك لتبقى منـزلته عندهم فيبقى معظمًا محترمًا، أو لينال حظاً من الحظوظ الدنيوية على أيديهم، فكل هؤلاء داخلون في عموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلِيهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فلم يستثن من الوصف بالكفر والوعيد إلا المكره.

ولو كان مَن أظهر الكفر مختارا ًلا يعد كافراً ظاهراً وباطناً لما حكم الله بالكفر على المستهزئين في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنـتُمْ تَسْتَهِزئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة]، قال شيخ الإسلام تعليقًا على هذه الآيات: "فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام" الموضع السابق.

وكذلك يلزم ـ على القول بأن من أظهر الكفر مختارًا لا يكون كافرًا في الباطن ـ أن من صدَّق الرسول باطناً بل وظاهراً ولكن قال: لا أتبعه بل أعاديه وأحاربه، لأني لا أستطيع أن أخالف أهل ملتي، لا يعد كافراً في الباطن وهذا قول غلاة المرجئة الجهمية، وهو أفسد أقوال المرجئه، وفساده معلوم من دين الإسلام بالضرورة، ولو كان الأمر كما يزعمون لما كفر الجاحدون الذين قال الله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام]، قال شيخ الإسلام: "والمحبة تستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محباً لله ورسوله مريداً لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه، ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: هذا كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن" مجموع الفتاوى (7-188).

وأما ما يتعلق به من يزعم أن السجود أمام الصنم موافقةً للمشركين لا يكون شركاً من قول شيخ الإسلام رحمه الله: "وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول، ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له، بل قصد السجود لله بقلبه، لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر، ويقصد بقلبه السجود لله، كما ذُكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فاسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر" لا يمكن حمله على من يسجد مجاملة أو طمعاً، بل مراد الشيخ من تعمد السجود لله قدام وثن موهماً للمشركين أنه يسجد لصنمهم خوفاً منهم لقوله: "وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه".

وأما قوله: "كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر".

ففيه إشكال من وجهين:
الأوَّل: قوله: "علماء أهل الكتاب" حيث قرنهم بعلماء المسلمين، ومعلوم أن علماء أهل الكتاب لن يدعوا المشركين إلى الإسلام، وقد قال في آخر كلامه: "حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا".

والجواب:
أن يقال أراد بعلماء أهل الكتاب من كان يكتم إيمانه بين قومه المشركين كالنصارى فهم مسلمون في الباطن وإن كانوا في الظاهر معدودين في أهل الكتاب، كما يذكر شيخ الإسلام هذا الصنف في تفسير بعض الآيات كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلِه لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إَنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِْسَابِ}.

أو يقال: أراد بهم علماء أهل الكتاب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد بالإسلام الإسلام العام الذي هو دين الرسل كلهم.
وقد كان منهم من يكتم إيمانه خوفاً ويتلطف في الدعوة إلى الإسلام، كما أخبر الله عن مؤمن آل فرعون، فقد كان يكتم إيمانه بموسى عليه السلام، ومع ذلك دعا قومه على التوحيد والإيمان باليوم الآخر.
وعلى هذا فالحامل لهم على السجود قدام الصنم هو الخوف من قومهم.

الوجه الثاني: من الإشكال قوله: "ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر". يشعر بأنهم فعلوا السجود قدام الصنم تألفاً لهم من أجل دعوتهم لا خوفاً منهم.
والجواب: أنّ هذه العبارة إذا بنيت على ما قبلها اقتضى ذلك أن الذي لم يظهر المنافرة كان الحامل له على عدم المنافرة هو الخوف منهم، وآثر الرخصة بترك الصدع والمجاهرة التي تنفرهم ليتمكن من دعوتهم كما صنع مؤمن آل فرعون.

وعلى هذا؛ فالشيخ رحمه الله لا يدل كلامه على جواز السجود قدام الصنم اختياراً من أجل دعوة المشركين على الإسلام، وإنما يعذر من فعل ذلك خوفًا.

وبعد:
فمن سجد قدام الصنم خوفاً كان معذوراً بالإكراه، ومن كان جاهلاً وسجد قدام الصنم متأوِّلاً تأليف المشركين من أجل دعوتهم كان معذوراً للتأويل؛ فإن تعمد السجود قدام الصنم حرام، بل هو كفر إذا كان إظهاراً لموافقة المشركين على شركهم، ولا يعذر في ذلك إلا من كان خائفاً أو متأولاً، تأليفهم كما تقدم.

وكلام الشيخ صريح بأن كفر الباطن أصل الكفر الظاهر، فما كان كفراً من الأقوال والأعمال الظاهرة؛ كسب الرسول صلى الله عليه وسلم والسجود للوثن فإنه مستلزم لكفر الباطن، ومعنى ذلك أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا عمَّن هو كافر في الباطن كفرَ التكذيب أو كفر الإباء، وكذلك السجود للوثن لا يكون إلا مع كفر الباطن، ولكن كون السجود للوثن إنما يتعين بإقرار الساجد ولو كان كاذباً، وكذلك إذا أظهر الموافقة للمشركين، كما إذا دعوه للسجود لصنمهم فأجابهم، أو قاموا للسجود فقام وسجد معهم، فكل هذه من أنواع الكفر الظاهر ومن صدرت منه فهو كافر ظاهراً وباطناً إلا أن يكون مكرهاً لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} الآية، ومعنى الآية -والله أعلم- أن من أظهر الكفر فهو كافر إلا أن يكون مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان، وأمّا السجود قدام الصنم الذي لم تدل القرائن القولية أو الحالية على أنه سجود للصنم، فمن أظهر أنه يسجد للصنم، أو دلت القرائن على ذلك فإنه كافر، وإن قصد السجود لله، إلا أن يكون مكرهاً كما تقدم.

وأمّا السجود لله قدام الصنم من غير أن يقوم دليل يقتضي أنه سجود للصنم فهو حرام، لأنه تشبه بالمشركين، فإن وقع ذلك خوفاً منهم فيُغتفر للعذر، فيعذر للتأويل وإن كان لا يجوز أن يتخذ وسيلة للدعوة إلى الله، فإن ما كان في نفسه حراماً لا يجوز أن يدخل في وسائل الدعوة، ففيما أباح الله وشرع غنية وكفاية عمّا حرم، كما جاء في الحديث: "إنّ الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها".

وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبَّكَ بِالْحِكْمَةِ} وليس من الحكمة دعوة المشركين بإظهار الموافقة لهم فيما هو من دينهم، فإن ذلك مما يرضون به ويحتجون به على من أنكر عليهم شركهم، وليس لهذا المسلك في الدعوة مستند من كتاب ولا سنة، بل قد دل القرآن على أنّ من أسس الدعوة الصدع بالحق مع القدرة على ذلك قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمشرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الْذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخرَ فَسَوفَ يَعْلَمُونَ} [الشعراء:94-96] ، والله أعلم.

ومما تقدم يتبين خطأ هذا المقرِّر أن السجود قدام الصنم لا يكون كفراً وشركاً ولو أقر بلسانه أنه يسجد للصنم، أو أظهر بهذا السجود موافقة المشركين على دينهم ما دام أنه في الباطن لم يقصد السجود للصنم.

وأقبح من هذا زعم هذا المقرر -كما ورد في السؤال- أن المشرك الوثني لو عرف صحة دين الإسلام وأقر به لكنه مداهنةً لقومه، وخوفاً من الملامة والعيب يسجد معهم -طوعاً- لأوثانهم ويذبح لها، ويطوف بها، ويظهر تعظيمها، ولا يصرح بالبراءة منها فمثل هذا لا يحكم بكفره مع كونه آثماً، وهذا القول منكر عظيم، وهو يشبه قول جهم، أو هو حقيقة قول جهم في الإرجاء، وذلك لما تقدم من أنّ إظهار الموافقة للمشركين على دينهم بقولٍ أو فعلٍ لأي سبب من الأسباب إلّا الإكراه هو كفر في ذاته فيكفر باطناً وظاهراً من صدر منه ذلك، إلا أن يكون مكرهاً لعموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ... }الآية.

فعلى هذا المقرر أن يراجع نفسه وأن يستهدي ربه؛ فإن المقام خطر، لأن ما يقرره من أعظم ما يجرئ الجاهلين وأهل الأهواء على التفوه بالكفر ومداهنة الكافرين، مما يفضي بهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام تعلقًا بمثل هذه الشبهات، فيكون المقرِّر بما قرره هو السبب في ضلالهم.

هذا ونسأل الله أن يلهمنا وإيّاه الصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله متلبساً علينا فنضل. وصلى الله وسلم على محمد.
20-10-1431هـ 29-9-2010

المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك

عبد الرحمن بن ناصر البراك

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

  • 17
  • 2
  • 49,087

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً