العذر بالجهل
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الشرك وأنواعه - الفقه وأصوله -
لدينا في البلد أناس - وما أكثرهم - يقومون بأفعال فيها شرك بالله عزَّ وجلَّ؛ من توسُّل، وذبح، واستغاثة، وموالاة للطواغيت؛ فهل يُعذَرون بالجهل؟
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالعذر بالجهل يختلف باختلاف المسائل واختلاف الأشخاص، واختلاف الأحوال؛ فهناك مسائلٌ لا يُعذر فيها بالجهل، وهذه المسائل منها ما هو من المسائل العلمية؛ كالإيمان بالقدر، والأسماء والصفات ونحوه، ومنها ما هو من المسائل العملية؛ كوجوب الصلاة والزكاة، أو تحريم الظلم والكذب، ونحو ذلك.
وضابط ما يعذر فيه وما لا يعذر:
هو اشتهار المسألة وخفاؤها؛ فمن نشأ في أوساط المسلمين لا يُعذر بالجهل إذا جحد وجوب الصلاة والزكاة، وغيرها من شعائر الإسلام؛ لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنَّة، والمسلمون يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله؛ كما قرره ابن قُدامة في "المُغْنِي"، وأما من نشأ في بادية بعيدة، أو كان حديث عهد بالإسلام؛ فإنه يعذر بجهله فيها وفي غيرها.
وقال ابن قدامة أيضًا - في معرض كلامه عن جاحد الزكاة -: "فإن كان جاحداً لوجوبها نُظِرَ فيه؛ فإن كان جاهلاً به - وهو ممن يجهل ذلك - كالحديث الإسلام، والناشئ ببادية، عُرِّفَ وجوبها، وعُلِّم ذلك، ولم يُحكَم بكفره; لأنه معذور، وإن لم يكن ممن يجهل ذلك؛ كالناشئ من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يُعْذَر، ولم يُقْبَل منه ادِّعاء الجهل، وحُكمَ بكفره; لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنَّة، والمسلمون يفعلونها على الدوام؛ فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، فلا يجحدها إلا تكذيباً لله تعالى ولرسوله وإجماع الأمة، وهذا يصير مرتدّاً عن الإسلام".
وقال السيوطي: "كل مَنْ جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس؛ لم يُقْبَل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا، والقتل، والسرقة، والخمر، والكلام في الصلاة، والأكل في الصوم". اهـ.
وأدلة العذر بالجهل ثابتة بالكتاب والسنة ونصوص الأئمة في المسائل الاعتقادية والعملية بالشروط السابقة؛ قال تعالى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 165]، ولقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية قال الله تعالى: ((قال قد فعلت))"، ومن المعلوم أن كل جاهل مخطئ، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما جئتُ به؛ إلا كان من أصحاب النار" [رواه مسلم]، وقد عُلم أنه يسمع سماعًا يتمكن معه من الفهم، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلاً؛ فإنه لا يؤاخذ بجهله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى": "هذا مع أني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك منِّي - أني من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحُجَّة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارةً، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرِّر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل الخبريَّة القوليَّة، والمسائل العمليَّة، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحدٌ منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية!.. وكنت أبيِّن أنَّ ما نُقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير مَنْ يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين.. والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يُكفَّر بجَحْد ما يجحده حتى تقوم عليه الحُجَّة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده مُعارِضٌ آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في "الصحيحين" في الرجل الذي قال: "إذا أنا مِتُّ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليَمِّ، فوالله لئن قَدِر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذَّبه أحداً من العالمين، ففعلوا به ذلك؛ فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتُك، فغُفر له".
فهذا رجلٌ شكَّ في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِّي؛ بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفرٌ باتفاق المسلمين؛ لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه؛ فغُفر له بذلك".
وقال في موضع آخر: "فهذا الرجل وهو الذي أسرف على نفسه، ثم أمر أبناءه عند موته بحرقه، وذرِّه في الرماد، وقصته مذكورة في "الصحيحين"، ظنَّ أن الله لا يقدر عليه إذا تفرَّق هذا التفرُّق، فظنَّ أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكلُّ واحدٍ من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت، كفرٌ؛ لكنه كان مع إيمانه بالله، وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن، مخطئاً؛ فغفر الله له ذلك".
وقال أيضاً: "وأما الفرائض الأربع؛ فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحُجَّة؛ فهو كافرٌ، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها؛ كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك، أمَّا مَنْ لم تقم عليه الحُجَّة؛ مثل أن يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام، ونحو ذلك، أو غلط؛ فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك؛ فإنهم يُستتابون، وتقام الحُجَّة عليهم، فإن أصروا كُفِّروا حينئذ، ولا يُحكَم بكفرهم قبل ذلك".
وقال: "وأما التكفير؛ فالصواب أن مَنْ اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحقَّ فأخطأ؛ لم يُكفَّر؛ بل يُغفر له خطؤه، ومن تبيَّن له ما جاء به الرسول، فشاقَّ الرسولَ من بعد ما تبين له الهدى، واتَّبع غير سبيل المؤمنين؛ فهو كافرٌ، ومن اتَّبع هواه وقصَّر في طلب الحق، وتكلم بلا علم؛ فهو عاصٍ مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد يكون له حسنات ترجَّح على سيئاته".
وقال أيضًا تعليقاً على حديث عائشة: "مهما يكتم الناس يعلمه الله": "فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم"، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرةً، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحُجَّة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممَّن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟!"، فقد تبين أن هذا القول كفرٌ، ولكنَّ تكفير قائله لا يُحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحُجَّة التي يكفَّر تاركها".
وقال في موضع آخر: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفراً؛ كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفرٌ، فيُطلِق القولَ بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفَّر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحُجَّة كما تقدَّم، كمَنْ جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحلَّ الخمر والزنا، وتأوَّل؛ فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأوِّل المخطئ في تلك لا يُحكَم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته، كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلُّوا الخمر؛ ففي غير ذلك أوْلى وأحرى، وعلى هذا يخرّج الحديث الصحيح في الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليَمِّ، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذَّبه أحداً من العالمين" وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله، وإعادته إذا حرقوه". انتهى.
وقال: "وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفرٌ بالكتاب والسنَّة والإجماع، يقال: هي كفرٌ قولاً، يطلق كما دلَّت على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن الإيمان من الأحكام المتلقَّاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقِّه شروط التكفير، وتنتفي موانعه؛ مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها".
إلى أن قال: "فإن هؤلاء لا يُكفَّرون حتى تقوم عليهم الحُجَّة بالرسالة؛ كما قال الله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان".
وقال ابن حزم: "لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضالٍّ بشيء مما يفعله أصلاً، فإنما سمَّى الله تعالى فعله في العبد (إضلالاً) بعد بلوغ البيان إليه، لا قبل ذلك، فصحَّ بهذه الآية أنه تعالى يضلُّهم بعد أن يبيِّن لهم".
والحاصل:
أن من وقع في الكفر جاهلاً أو متأوِّلاً لا يكفَّر، حتى تقام عليه الحُجَّة الشرعيَّة، وتزال ما عنده من شُبَه أو تأويل باطل؛ فإن الحكم على المعيَّن بالكفر لا بد فيه من توفر الشروط، وانتفاء الموانع، وإقامة الحجة،، والله أعلم.