كتابةُ الأعمال

منذ 2012-02-18
السؤال:

سمعت بأنَّ للإنسان مَلَكان معه يدوِّنان أعماله كلها، صغيرها وجلَّها؛ فإن عُمِلَتْ حسنةٌ كتبها مَلَكُ الحسنات، وإن عُمِلَتْ سيئةٌ كتبها مَلَكُ السيِّئات، وإن عُمِلَتْ أمراً مباحاً كتبها مَلَكُ السيِّئات.

أرجو التعقيب على الجملة الأخيرة، وهل هي صحيحةٌ؟! ومن ثَمَّ؛ كيف يعمل الإنسان مباحاً فيُكْتَب مع السيئات، لتَزْدَاد صُحُفُ السيِّئات لديه؟!

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ وَالاه، ثمَّ أمَّا بعد:

فقد دَلَّت النُّصوص: أن الإنسان لا يعمل عملاً، أو يَتَلَفَّظُ بكلمةٍ - إلا ولَدَيْه ملائكةٌ يَرْقُبُونَ ذلك؛ قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]. وقال جلَّ مِنْ قائلٍ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

وقد اختلف أهلُ العلم: هل يُكْتَبُ كلُّ شيءٍ يَصْدَرُ عن الإنسان؛ كالحركة والسُّكون والنَّوْم والكلام وغير ذلك؟ أم أنه لا يُكْتَبُ إلا ما فيه ثوابٌ أو عقابٌ؟

قال القُرطُبيُّ في "تفسيره": "قال أبو الجَوْزاء ومجاهدٌ: يُكْتَبُ على الإنسان كلُّ شيءٍ، حتى الأنين في مَرَضِهِ، وقال عِكْرِمَةُ: لا يُكْتَبُ إلا ما يؤجَرُ به، أو يؤزَرُ عليه، وقيل: يُكْتَبُ عليه كلُّ ما يَتكلَّم به، فإذا كان آخر النَّهار - محا عنه ما كان مباحًا؛ نحو: انطلِقْ، اقْعُدْ، كُلْ - مما لا يتعلَّق به أجْرٌ أو وِزْرٌ.

وذكر ابنُ كَثيرٍ: أنَّ ظاهرَ الآية العموم.

وعلى كلا القولين؛ فإنَّ للإنسان أعمالاً كثيرةً ليست من الحسنات ولا من السيِّئات، وهي الأمور المُباحة، ولكنَّه إذا فعلها بنِيَّة التَّقَوِّي على العبادة ونحو ذلك؛ كانت من الحسنات.

وقال ابن عبَّاس كما في "تفسير علي بن أبي طلحة": "{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؛ يَكْتُبُ كلَّ ما تَكَلَّمَ به من خيرٍ أو شرٍّ، حتى إنه ليَكْتُبُ قوْلَه: "أكلتُ، شرِبتُ، ذهبتُ، جئتُ، رأيتُ"، حتى إذا كان يوم الخميس عُرِضَ قوْلُه وعملُه؛ فأقرَّ منه ما كان فيه من خيرٍ أو شرٍّ، وأُلقيَ سائرُهُ، وذلك قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]".

وذُكِرَ عن الإمام أحمد: أنه كان يئنُّ في مرضه؛ فبلغه عن طاوس أنه قال: "يَكْتُبُ المَلَكُ كلَّ شيءٍ، حتى الأنين". فلم يئن أحمد حتى مات - رحمه الله.

والظَّاهر من الأدلَّة -والعِلْم عند الله-:

أنَّ الأعمالَ المباحةَ تُكْتَبُ، ولكنها تُمْحى بعد ذلك؛ فلا يُثابُ عليها العبدُ ولا يُعاقَبُ؛ إلا إذا اقترنتْ بنِيَّةٍ صالحةٍ أو فاسدةٍ؛ فيتحوَّل المباحُ إلى عملٍ صالحٍ يُثابُ عليه، أو فاسدٍ يُعاقبُ عليه؛ كالسَّفر؛ فأصلُه مباحٌ، لا يُثابُ عليه المرءُ ولا يأثمُ، فإن سافَرَ لطلب العلم - مثلاً - أُجِرَ عليه، وإن سافَرَ لقطع الطَّريق أَثِمَ.

وليُعْلَمْ: أن التَّوَسُّعَ في المُباح قد يؤول بصاحبه إلى ما لا يُحْمَدُ منَ المُحرَّم والمكروه؛ لذلك قال الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِر؛ فَلْيَقُلْ خيرًا أوْ لِيَصْمُتْ" الحديث؛ (متَّفقٌ عليه عن أبي هريرة). ولذلك قال أهلُ العلم في ضابط المُباح: إنَّه مُباحٌ من جهة الجُزء لا الكلِّ.

قال النَّوَوِيُّ رحمه الله: "فمعناهُ أنَّه إذا أراد أن يَتَكَلَّمَ: فإن كان ما يَتَكَلَّمُ به خيرًا مُحَقَّقًا يُثاب عليهُ، واجبًا أو مندوبًا - فليَتَكَلَّمْ.

وإن لم يَظْهَرْ له أنَّه خيرٌ يُثابُ عليه؛ فلْيُمْسِكْ عنِ الكلام، سواءٌ ظَهَرَ له أنَّه حرامٌ أو مكروهٌ أو مُباحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْن.

فعلى هذا؛ يكون الكلامُ المُباحُ مأمورًا بتَرْكِه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انْجِرَارِه إلى المُحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا.

وقد قال الله تعالى: "{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ... وقد نَدَبَ الشَّرْعُ إلى الإمساك عن كثيرٍ من المُباحات؛ لئلا يَنْجَرَّ صاحبُها إلى المحرَّمات أو المكروهات".

وأمَّا كَوْنُ الأعمال المُباحة يكتُبُها كاتبُ السيِّئات، فلا دليلَ عليه غيرَ أنَّ صاحبَ "رَدِّ المحتار على الدُّرِّ المختار" قال: "قلتُ: وفي "تفسير الدِّمْيَاطِيِّ" يَكْتُبُ المُباحَ كاتبُ السيِّئات، ويُمحى يوم القيامة".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "فكَوْنُه يُؤجَرُ على قوْلٍ معيَّنٍ أو يؤزَرُ - يحتاج إلى أن يعرِف الكاتبُ ما أُمِرَ به وما نُهِيَ عنه؛ فلابدَّ في إثبات معرفة الكاتب به إلى نقلٍ.

وأيضًا: فهو مأمورٌ؛ إما بقوْل الخير وإما بالصِّمات. فإذا عَدَلَ عمَّا أُمِرَ به منَ الصِّمات إلى فضول القوْل الذي ليس بخيرٍ؛ كان هذا عليه، فإنَّه يكون مكروهًا، والمكروه يُنْقِصُهُ؛ ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "من حُسْن إسلام المَرْء تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيه". فإذا خاض فيما لا يَعْنِيه؛ نَقَصَ من حُسْنِ إسلامه؛ فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقًّا لعذاب جهنم وغضب الله؛ بل نَقْصُ قَدْرِهِ ودَرَجَتِهِ عليه، ولهذا قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. فما يعمل أحدٌ إلا عليه أو له، فإن كان ممَّا أُمِرَ به كان له، وإلا كان عليه، ولو أنه يُنْقِصُ قدره".

وننبه السائل الكريم: إلى أن البحثَ في معرفة مَنْ سَيَكْتُبِ الأعمال المُباحة لن يَتَرَتَّبَ عليه منفعةٌ؛ حيث إنَّها تُمْحى بعد كتابتها،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 7
  • 1
  • 42,704

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً