حكم الدعوة إلى تقارب الأديان.
اللجنة الدائمة
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: إننا في أمريكا نحاول بذل ما نستطيعه للدعوة إلى الله على منهج السلف
الصالح ، وفي الآونة الأخيرة طرأ أمر خطير هام ، وهو انتشار لجنة
التقارب بين الديانات السماوية الثلاثة : ( الإسلام ، والمسيحية ،
واليهودية ) يرسل مبعوث من كل فئة من هذه الأديان ؛ لمحاولة إغلاق
الفجوة بين هذه الأديان الثلاثة والتقارب بينها ، ويجتمعون في الكنائس
والمعابد اليهودية ، بل ويصلّون صلاة مشتركة ، كما فعلوا حين حصلت
مجزرة الخليل في فلسطين ، ويحضر الاجتماع عدد لا يستهان به من أصحاب
الأديان الثلاثة .
والسؤال هو : إنه يُمَثِّل المسلمين علماء - أو من هم محسوبون على أهل العلم - ، وقد حدث بيننا مشادة في حكم الاجتماع في مثل هذه الاجتماعات ، حتى إن علماء المسلمين يصافحون ويعانقون القساوسة والرهبان ، وليس هناك مجال للدعوة في مثل هذه الاجتماعات ، بل هي على اسم اللجنة لتقارب الأديان الثلاثة ، فهل يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجتمع في مثل هذه الاجتماعات ، ويدخل الكنائس والمعابد اليهودية ، بل يسلم ويعانق قسيساً أو راهباً ؟ وللعلم : فقد انتشر هذه الأمر على مستوى أمريكا ، فنرجو أن ترسلوا لنا الحل ؛ لأننا رضينا بك حكماً بيننا لإخماد الفتنة على مستوى أمريكا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والسؤال هو : إنه يُمَثِّل المسلمين علماء - أو من هم محسوبون على أهل العلم - ، وقد حدث بيننا مشادة في حكم الاجتماع في مثل هذه الاجتماعات ، حتى إن علماء المسلمين يصافحون ويعانقون القساوسة والرهبان ، وليس هناك مجال للدعوة في مثل هذه الاجتماعات ، بل هي على اسم اللجنة لتقارب الأديان الثلاثة ، فهل يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجتمع في مثل هذه الاجتماعات ، ويدخل الكنائس والمعابد اليهودية ، بل يسلم ويعانق قسيساً أو راهباً ؟ وللعلم : فقد انتشر هذه الأمر على مستوى أمريكا ، فنرجو أن ترسلوا لنا الحل ؛ لأننا رضينا بك حكماً بيننا لإخماد الفتنة على مستوى أمريكا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الإجابة: الحمد لله
بعد دراسة اللجنة للاستفتاء ، أجابت بما يلي :
أولاً : أصول الإيمان التي أتزل الله بها كتبه على رسله - التوراة والإنجيل والقرآن ، والتي دعت إليها رسله عليهم الصلاة والسلام : إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين - كلها واحدة ، بشَّر سابقهم بلاحقهم ، وصدَّق لا حقهم بسابقهم ، وأيده ونوه بشأنه ، وإن اختلفت الفروع في الجملة حسب مقتضيات الأحوال والأزمان ومصلحة العباد ، حكمة من الله وعدلاً ورحمة منه سبحانه وفضلاً ، قال الله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } وقال تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً } ، وقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون . قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهم في الآخرة من الخاسرين ) وقال تعالى بعد ذكره دعوة خليله إبراهيم إلى التوحيد ، وذكر من معه من المرسلين : { أولئك الذين آتيناهم الكتب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } ، وقال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } ، وقال : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } ، وقال : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ، وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الآيات .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد » رواه البخاري .
ثانياً : حرّف اليهود والنصارى الكلم عن مواضعه ، وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم ، فغيروا بذلك أصول دينهم ، وشرائع ربهم ، من ذلك قول اليهود : { وقالت اليهود عزير ابن الله } وزعمهم أن الله مسه لغوب ، وأصابه تعب من خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فاستراح يوم السبت ، وزعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ، ومن ذلك أنهم أحلوا الصيد يوم السبت بحيلة ، وقد حرمه الله عليهم ، وأنهم ألغوا حد الزنا ، ومن ذلك قولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } ، وقولهم : { يد الله مغلولة } ، إلى غير ذلك من التحريف والتبديل القولي والعملي عن علم ؛ اتباعاً للهوى ، ومن ذلك زعم النصارى أن المسيح عيسى عليه السلام ابن الله ، وأنه إله مع الله ، وتصديقهم لليهود في زعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ، وزعم كل من الفريقين أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، وحقدهم عليه وحسدهم إياه من عند أنفسهم ، وقد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه وأقروا على أنفسهم بذلك . إلى غير ذلك من فضائح الفريقين وتناقضهم ، وقد حكى الله الكثير من كذبهم وافترائهم وتحريفهم وتبديلهم ما أنزل إليهم من العقائد والشرائع ، وفضحهم الله ، ورد عليهم في محكم كتابه ، قال الله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون . وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } الآيات ، وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيُّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } الآيات ، وقال تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } الآيات ، وقال تعالى : { وإن فريقاً منهم ليلوون ألسنتهم بالكتب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } الآيات ، وقال تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً . وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً . وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً } الآيات ، وقال تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلِمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } الآيات ، وقال تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } الآيات ، وقال تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } إلى غير ذلك مما لا ينقضي منه العجب من افترائهم وتناقضهم ومخازيهم وفضائحهم والقصد ذكر نماذج من أحوالهم ليبنى عليها الجواب فيما يأتي .
ثالثاً : مما تقدم يتبين أن أصل الديانات التي شرعها الله لعباده واحد لا يحتاج إلى تقريب ، كما يتبين أن اليهود والنصارى قد حرفوا وبدلوا ما أنزل إليهم من ربهم ، حتى صارت دياناتهم زوراً وبهتاناً وكفراً وضلالاً ، ومن أجل ذلك أرسل إليهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولغيرهم من الأمم عامة ؛ ليبين ما كانوا يخفون من الحق ويكشف لهم عما كتموه ، ويصحح لهم ما أفسدوا من العقائد والأحكام ويهديهم وغيرهم إلى سواء السبيل ، قال الله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه دار السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم } ، وقال : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير } ، لكنهم صدّوا عن الحق وأعرضوا عنه بغياً وعدواناً وحسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فال الله تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } وقال : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } الآيات ، وقال : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } الآيات ، وقال : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة . رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة } الآيات .
فكيف يرجو عاقل يعرف إصرارهم على الباطل وتماديهم في غيهم عن بينة - وعلم حسداً من عند أنفسهم واتباعاً للهوى - التقارب بينهم وبين المسلمين الصادقين ، قال الله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } الآيات ، وقال : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم . ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } ، وقال سبحانه : { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } الآيات .
بل هم إن لم يكونوا أشد من إخوانهم المشركين كفراً وعداوة لله ورسوله والمؤمنين فهم مثلهم ، وقد قال الله تعالى : { فلا تطع المكذبين . ودوا لو تُدهِن فيُدهنِون } الآيات ، وقال له : { قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم . ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين } .
إن من يُحَدَّث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق والباطل ، والكفر والإيمان ، وما مثله إلا كما قيل :
ثم إن دين اليهود والنصارى قد نسخه الله ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأوجب الله على جميع أهل الأرض اتباعه من يهود ونصارى وغيرهم ، قال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } ، فإذا بقوا على دينهم وهم منسوخ فهو تمسك بالباطل وبغير دين ؛ فلا يجوز للمسلمين أن يتقاربوا معهم ؛ لأن في التقارب معهم إقرار لهم على الباطل من ناحية ، وتغريراً بالجهال من ناحية أخرى ، والواجب فضح باطلهم كما فضحهم الله في القرآن . والله أعلم .
رابعاً : لو قال قائل : هل تمكن الهدنة بين هؤلاء أو يكون بينهم عقد صلح ؛ حقناً للدماء واتقاءً لويلات الحروب ، وتمكيناً للناس من الضرب في الأرض ، والكد في الحياة لكسب الرزق ، وعمارة الدنيا والدعوة إلى الحق وهداية الخلق ؛ إقامة العدل بين العالمين - لو قيل ذلك لكان قولاً متجهاً وكان السعي في تحقيقه سعياً ناجحاً ، والقصد إليه قصداً نبيلاً ؛ لإمكانه ، وعظيم أثره . لكن يكون ذلك عند عدم إمكان أخذ الجزية ؛ لقول الله عز وجل في سورة التوبة : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ، مع المحافظة على إحقاق الحق ونصره فلا يكون ذلك على سبيل مداهنة المسلمين للمشركين ، وتنازلهم عن شيء من حكم الله ، أو شيء من كرامتهم وهوانهم على أنفسهم ، بل مع الإبقاء على عزتهم والاعتصام بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والبغض لأعداء الله وعدم موالاتهم ؛ عملاً بهدي القرآن ، واقتداءً بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } الآيات ، وقال تعالى : { فلا تَهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } .
وقد فسّر ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك عملياً ، وحققه مع قريش عام الحديبية ، ومع اليهود في المدينة قبل الخندق ، وفي غزوة خيبر ، ومع نصارى الروم في غزوة تبوك ؛ فكان لذلك الأثر العظيم والنتائج الباهرة من الأمن وسلامة النفوس ، ونصرة الحق ، والتمكين له في الأرض ، ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، واتجاه الجميع للعمل في الحياة لدينهم ودنياهم ، فكان الرخاء والازدهار وقوة السلطان وانتشار الإسلام والسلام ، وفي التاريخ وواقع الحياة أقوى دليل وأصدق شهيد على ذلك لمن أنصف من نفسه أو ألقى سمعه واعتدل مزاجه وتفكيره وبرئ من العصبية والمراء ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
اللجنة الدائمة 12 / 284 - 297.
بعد دراسة اللجنة للاستفتاء ، أجابت بما يلي :
أولاً : أصول الإيمان التي أتزل الله بها كتبه على رسله - التوراة والإنجيل والقرآن ، والتي دعت إليها رسله عليهم الصلاة والسلام : إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين - كلها واحدة ، بشَّر سابقهم بلاحقهم ، وصدَّق لا حقهم بسابقهم ، وأيده ونوه بشأنه ، وإن اختلفت الفروع في الجملة حسب مقتضيات الأحوال والأزمان ومصلحة العباد ، حكمة من الله وعدلاً ورحمة منه سبحانه وفضلاً ، قال الله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } وقال تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً } ، وقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون . قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهم في الآخرة من الخاسرين ) وقال تعالى بعد ذكره دعوة خليله إبراهيم إلى التوحيد ، وذكر من معه من المرسلين : { أولئك الذين آتيناهم الكتب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } ، وقال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } ، وقال : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } ، وقال : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ، وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الآيات .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد » رواه البخاري .
ثانياً : حرّف اليهود والنصارى الكلم عن مواضعه ، وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم ، فغيروا بذلك أصول دينهم ، وشرائع ربهم ، من ذلك قول اليهود : { وقالت اليهود عزير ابن الله } وزعمهم أن الله مسه لغوب ، وأصابه تعب من خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فاستراح يوم السبت ، وزعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ، ومن ذلك أنهم أحلوا الصيد يوم السبت بحيلة ، وقد حرمه الله عليهم ، وأنهم ألغوا حد الزنا ، ومن ذلك قولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } ، وقولهم : { يد الله مغلولة } ، إلى غير ذلك من التحريف والتبديل القولي والعملي عن علم ؛ اتباعاً للهوى ، ومن ذلك زعم النصارى أن المسيح عيسى عليه السلام ابن الله ، وأنه إله مع الله ، وتصديقهم لليهود في زعمهم أنهم صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ، وزعم كل من الفريقين أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، وحقدهم عليه وحسدهم إياه من عند أنفسهم ، وقد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه وأقروا على أنفسهم بذلك . إلى غير ذلك من فضائح الفريقين وتناقضهم ، وقد حكى الله الكثير من كذبهم وافترائهم وتحريفهم وتبديلهم ما أنزل إليهم من العقائد والشرائع ، وفضحهم الله ، ورد عليهم في محكم كتابه ، قال الله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون . وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } الآيات ، وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيُّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } الآيات ، وقال تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } الآيات ، وقال تعالى : { وإن فريقاً منهم ليلوون ألسنتهم بالكتب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } الآيات ، وقال تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً . وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً . وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً } الآيات ، وقال تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلِمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } الآيات ، وقال تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } الآيات ، وقال تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } إلى غير ذلك مما لا ينقضي منه العجب من افترائهم وتناقضهم ومخازيهم وفضائحهم والقصد ذكر نماذج من أحوالهم ليبنى عليها الجواب فيما يأتي .
ثالثاً : مما تقدم يتبين أن أصل الديانات التي شرعها الله لعباده واحد لا يحتاج إلى تقريب ، كما يتبين أن اليهود والنصارى قد حرفوا وبدلوا ما أنزل إليهم من ربهم ، حتى صارت دياناتهم زوراً وبهتاناً وكفراً وضلالاً ، ومن أجل ذلك أرسل إليهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولغيرهم من الأمم عامة ؛ ليبين ما كانوا يخفون من الحق ويكشف لهم عما كتموه ، ويصحح لهم ما أفسدوا من العقائد والأحكام ويهديهم وغيرهم إلى سواء السبيل ، قال الله تعالى : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه دار السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم } ، وقال : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير } ، لكنهم صدّوا عن الحق وأعرضوا عنه بغياً وعدواناً وحسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فال الله تعالى : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } وقال : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } الآيات ، وقال : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } الآيات ، وقال : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة . رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة } الآيات .
فكيف يرجو عاقل يعرف إصرارهم على الباطل وتماديهم في غيهم عن بينة - وعلم حسداً من عند أنفسهم واتباعاً للهوى - التقارب بينهم وبين المسلمين الصادقين ، قال الله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } الآيات ، وقال : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم . ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } ، وقال سبحانه : { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } الآيات .
بل هم إن لم يكونوا أشد من إخوانهم المشركين كفراً وعداوة لله ورسوله والمؤمنين فهم مثلهم ، وقد قال الله تعالى : { فلا تطع المكذبين . ودوا لو تُدهِن فيُدهنِون } الآيات ، وقال له : { قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم . ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين } .
إن من يُحَدَّث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق والباطل ، والكفر والإيمان ، وما مثله إلا كما قيل :
أيها المنكح الثريا سهيلاً |
عمرك الله كيف يلتقيان |
|
هي شامية إذا ما استقلت |
وسهيل إذا استقل يمان |
ثم إن دين اليهود والنصارى قد نسخه الله ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأوجب الله على جميع أهل الأرض اتباعه من يهود ونصارى وغيرهم ، قال تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } ، فإذا بقوا على دينهم وهم منسوخ فهو تمسك بالباطل وبغير دين ؛ فلا يجوز للمسلمين أن يتقاربوا معهم ؛ لأن في التقارب معهم إقرار لهم على الباطل من ناحية ، وتغريراً بالجهال من ناحية أخرى ، والواجب فضح باطلهم كما فضحهم الله في القرآن . والله أعلم .
رابعاً : لو قال قائل : هل تمكن الهدنة بين هؤلاء أو يكون بينهم عقد صلح ؛ حقناً للدماء واتقاءً لويلات الحروب ، وتمكيناً للناس من الضرب في الأرض ، والكد في الحياة لكسب الرزق ، وعمارة الدنيا والدعوة إلى الحق وهداية الخلق ؛ إقامة العدل بين العالمين - لو قيل ذلك لكان قولاً متجهاً وكان السعي في تحقيقه سعياً ناجحاً ، والقصد إليه قصداً نبيلاً ؛ لإمكانه ، وعظيم أثره . لكن يكون ذلك عند عدم إمكان أخذ الجزية ؛ لقول الله عز وجل في سورة التوبة : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ، مع المحافظة على إحقاق الحق ونصره فلا يكون ذلك على سبيل مداهنة المسلمين للمشركين ، وتنازلهم عن شيء من حكم الله ، أو شيء من كرامتهم وهوانهم على أنفسهم ، بل مع الإبقاء على عزتهم والاعتصام بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والبغض لأعداء الله وعدم موالاتهم ؛ عملاً بهدي القرآن ، واقتداءً بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } الآيات ، وقال تعالى : { فلا تَهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } .
وقد فسّر ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك عملياً ، وحققه مع قريش عام الحديبية ، ومع اليهود في المدينة قبل الخندق ، وفي غزوة خيبر ، ومع نصارى الروم في غزوة تبوك ؛ فكان لذلك الأثر العظيم والنتائج الباهرة من الأمن وسلامة النفوس ، ونصرة الحق ، والتمكين له في الأرض ، ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، واتجاه الجميع للعمل في الحياة لدينهم ودنياهم ، فكان الرخاء والازدهار وقوة السلطان وانتشار الإسلام والسلام ، وفي التاريخ وواقع الحياة أقوى دليل وأصدق شهيد على ذلك لمن أنصف من نفسه أو ألقى سمعه واعتدل مزاجه وتفكيره وبرئ من العصبية والمراء ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
اللجنة الدائمة 12 / 284 - 297.