الذكر الجماعي

منذ 2012-05-07
السؤال:

ما حكم الذِّكْر الجماعيِّ جملةً؟ وهل يُفهم مما ورد في (صحيحي البخاري ومسلم) مشروعيَّته؟
وإذا كان مشروعاً؛ فبأيِّ صورةٍ؟ وما الصُّور التي فيها مخالفةٌ أو بدعةٌ؟ وما الصُّور التي ليست كذلك؟ وهل هناك فرقٌ بين "الذِّكْر الجماعي" و"الاجتماع على الذِّكر" في اللغة أو الاصطلاح، أو كليهما؟
وهل يطلق على مجالس العلم في المسجد أو غيره مجالسَ ذِكْر؟ وماذا لو خُصِّصَ وقتٌ في أحد مجالس العلم للذِّكْر؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:

فاعلم -حفظك الله ورعاك-: أن من قواعد الشريعة أن العبادات مبناها على التوقُّف، وأنَّ كلَّ عبادةٍ لم تَرِدْ في كتاب الله ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي مردودةٌ على صاحبها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحدث في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ" (متفق عليه).

وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

قال العلامة السَّعْدِيُّ في تفسيره: "من الشِّرك والبدع".

والإِحْدَاثُ: قد يكون في توقيت العبادة، أو مكانها، أو حال صاحبها، أو كيفيتها؛ فمن أضاف قَيْدًا لعبادةٍ ما، لزمه الدليل، وإلا فقَيْدُهُ بِدْعَةٌ.

فما شُرع التعبُّد به على وجه الاجتماع؛ كالجُمَع، والجماعات، والعيدَيْن، ومجالس العلم؛ فُعِلَ كذلك، وما شُرع الانفراد حال أدائه؛ كالذِّكْر وقراءة القرآن وصلاة الرَّوَاتِب؛ عُمِلَ كذلك.

والذِّكْرُ من أعظم العبادات، فيلزم فيه الاتِّباع، وعدم إحداث كيفيَّاتٍ وقيودٍ معينة للذِّكْر لم تَرِد في الشريعة، كالذِّكْر بصوتٍ واحدٍ، أو بلحنٍ خاصٍّ للمناسبات، كما يفعل بعض الناس في الحج والعمرة والعيدَيْن.

وقد اختلف أهل العلم في مشروعيَّة الذِّكر الجماعي –وهو ما يَنْطِقُ به الذَّاكِرون المجتمعون بصوتٍ واحدٍ، يوافق بعضهم بعضاً-:

* فذهب بعض متأخِّري الشافعيَّة والحنابلة والصوفية إلى مشروعيَّته؛ واحتجُّوا بالأحاديث التي ورد فيها الترغيب في الاجتماع للذِّكْر، وبنصوص بعض الأئمة التي قد يُفهَم منها إجازة ذلك.

فمن علماء الشافعية:
- الشِّربينيُّ؛ الذي قالفي "مُغني المحتاج": "ولا بأس بالإدارة للقراءة، بأن يقرأ بعضُ الجماعة قطعةً، ثم البعضُ قطعةً بعدها، ولا بأس بترديد الآية للتدبُّر، ولا باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بقراءته بالألحان".


- وقال النوويُّ في "المجموع": "لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين؛ بل هي مستحبَّةٌ، وكذا الإدارة".


- لكن هذا الرأي يخالف قول الشافعي نفسه وكثير من علماء المذهب؛ حيث إن المنصوص عن الإمام الشافعي نفسه رحمه الله تعالى: أنه استحب الإسرار، والانفراد بالذكر؛ حيث قال في "الأم": "وأَختارُ للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة، ويخفيان الذكر، إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلَّم منه؛ فيَجْهر حتى يرى أنه قد تُعُلِّم منه، ثم يُسِرُّ، فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110]، يعني -والله تعالى أعلم- الدعاء، ولا تجهر: ترفع. ولا تخافت: حتى لا تسمع نفسك".


- وقال الأَذْرَعِيُّ -في "إصلاح المساجد": "حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجَهْر على مَنْ يريد التعليم".


- وقال الزَّرْكَشِيُّ: "السُّنة في سائر الأذكار الإِسْرار؛ إلا التَّلْبِيَةُ".

ومن علماء الحنابلة الذين قالوا بمشروعية الاجتماع للذكر:
- البُهُوتي؛ حيث قالفي "شرح منتهى الإرادات": "ولا تكره قراءة جماعةٍ بصوتٍ واحدٍ".

- وقال ابن مُفْلِح في "الفروع": "ولو اجتمع القوم لقراءةٍ ودعاءٍ وذِكْرٍ، فعنه: أيُّ شيءٍ أحسن منه! وعنه: لا بأس. وعنه: مُحْدَثٌ. ونقل ابن منصور: ما أكرهُهُ إذا لم يجتمعوا على عَمْدٍ, إلا أن يُكْثِروا. قال ابن منصور: يعني يتخذوه عادةً. انتهى. ذكر المُصَنِّفُ في "آدابه الكبرى" نصوصاً كثيرةً عن الإمام أحمد، تدلُّ على استحباب الاجتماع للقَصَص, وقراءة القرآن, والذكر. قلتُ: الصواب أن يُرجع في ذلك إلى حال الإنسان, فإن كان يَحْصُلُ له بسبب ذلك ما لا يَحْصُلُ له بالانفراد، من الاتِّعاظ، والخشوع، ونحوه؛ كان أوْلى, وإلا فلا". اهـ.

* وذهب الحنفيَّة والمالكية إلى كراهة الذِّكْر الجماعي، وعدُّوه من المُحْدَثَات، وهو روايةٌ عن أحمد، وقول كثيرٍ من الحنابلة.


فمن الأحناف:
- الكاساني؛ حيث قالفي كتاب "بدائع الصنائع "، عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: "إن رفع الصوت بالتَّكبير بدعةٌ في الأصل، لأنه ذِكْرٌ. والسُّنة في الأذكار المخَافَتَة؛ لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [ الأعراف: 55 ]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء الخفي"؛ ولذا فإنه أقرب إلى التضرُّع والأدب، وأَبعَدُ عن الرِّياء، فلا يُترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص".

- وقال الخَادِمِيُّ في "البريقة المحمودية": "وكره أن يقرأ القرآن جماعةً؛ لأن فيه تركُ الاستماع والإنصات المأمور بهما، وقيل: لا بأس به، ولا بأس باجتماعهم على قراءة (الإخلاص) جهراً عند خَتْم القرآن، والأَوْلى أن يقرأ واحدٌ ويستمع الباقون".

ومن علماء المالكيَّة:
- ابن الحاجِّ؛ حيث قال في "المدخل": "إنه لم يختلف قول مالك - رحمه الله - في القراءة جماعةً والذِّكْر جماعةً؛ أنها من البِدَع المكروهة، على ما نقله عنه ابن رشد - رحمه الله - في "البيان والتحصيل".

- وقال الخَرْشِيُّ في "شرح خليل": "وكره مالكٌ اجتماع القرَّاء، يقرؤون في سورةٍ واحدة، وقال: لم يكن من عمل الناس. ورآها بدعةً". وهو ما نصَّ عليه الإمام الطَّرْطُوشيُّ في "الحوادث والبدع".

- وعن ابن وهبٍ قال: "قلتُ لمالك: أرأيتَ القوم يجتمعون، فيقرؤون جميعاً سورةً واحدةً حتى يختموها؟! فأنكر ذلك، وعابه، وقال: ليس هكذا تضيع الناس، إنما كان يقرأ الرجل على الآخر، يَعْرِضُهُ".

- ونصَّ الشَّاطبيُّ في "الاعتصام" على أنه بدعةٌ إضافيَّةٌ.

هذا؛ واحتجَّ من قال بالجواز بأدلةٍ، منها:
- ما جاء في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تعالى ملائكةً سيَّارة فُضْلاً، يتبعون مجالس الذِّكْر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذِكْرٌ قعدوا معهم، وحفَّ بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا... يقول الله: قد غفرتُ لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا ...".

- ما جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم" الحديث.

- ما رواه مسلمٌ والترمذيُّ والنَّسائي، من حديث معاوية بن أبي سفيان ‏رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: "ما يجلسُكُم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله -تعالى- ونحمده لما هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا به. فقال: "أتاني جبريل -عليه السلام- فأخبرني أن الله –تعالى- يباهي بكم الملائكة".

- ومنها: ما رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده".

- وما رُوي عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبِّر في قبَّتِهِ بمنى، فيسمعه أهل المسجد، فيكبِّرون، ويكبِّر أهل الأسواق، حتى ترتجُّ منًى تكبيراً" (أخرجه البخاري تعليقاً).

والجواب عن ذلك:
إن الأحاديث ليس فيها إلا مطلق الاجتماع للذِّكْر من مذاكرةِ عِلْمٍ، أو استماعٍ لقراءةٍ، أو تحدُّثٍ بما مَنَّ الله على عباده من النِّعم الكثيرة.. ونحو ذلك، وليس فيها دليل على مشروعية ما احتجوا به من الذِّكْر بصوتٍ واحدٍ مرتفعٍ؛ فهذا أمرٌ زائدٌ على ما ورد في الأحاديث.

قال عطاء بن أبي رباح: "مجالس ‏الذِّكْر هي مجالس الحلال والحرام؛ أي: مجالس العلم"؛ رواه أبو نعيم في "الحِلْيَة".

وقال الطرطوشي في "الحوادث والبدع": "هذه الآثار تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له، والتعلُّم والمذاكرة، وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم، أو يقرأ المُعَلِّم على المُتَعَلِّم، أو يتساويا في العلم؛ فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة، هكذا يكون التعليم والتعلُّم، دون القراءة معاً".

وقد أجاب ابن الحاجِّ في "المدخل" على الاستدلال بتلك الأحاديث، فقال: "وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لأن أجلس مع قومٍ يذكرون الله سبحانه من غُدْوَةٍ إلى طلوع الشمس، أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس. وقال: هم يتحلَّقون الحِلَق، ويتعلمون القرآن والفقه. هذا تفسير خادم صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم فكيف يقابله تفسير متأخِّري هذا الزمان؟! وروي عن إبراهيم النَّخْعي رحمه الله أنه قال: لا يزال الفقيه يصلِّي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا تَلْقَاهُ إلا وذِكْر الله على لسانه، يُحِلُّ حلالا، ويُحَرِّمُ حراماً. قال الطرطوشي رحمه الله: وقد ظفرتُ بهذا المعنى في كتاب الله المهيمن؛ قال الله تعالى لهارون وموسى، لما بعثهما إلى فرعون: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه: 42]، فسمَّى تبليغ الرسالة ذِكْراً، فعلى هذا يتحقَّق أنَّ حِلَق العلم، وما يتحاورون فيه في العلم، ويتراجعون من سؤالٍ وجوابٍ، أنها حِلَقُ الذِّكْر, وهذا قوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43]؛ يعني: أهل العلم والفقه". اهـ.

قلتُ: وأيضاً سمَّى الله موعظة الإمام في خطبته يوم الجمعة ذِكْراً؛ فقال سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، وهو قول مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما؛ ويدلُّ على أن الذِّكْر في الآية بمعنى الخُطْبَة سببَ الورود.

وقال الإمام الشَّاطبيُّ في "الاعتصام": "قال: إذا نَدَبَ الشَّرع إلى ذكر الله، فالتزم قومٌ الاجتماع عليه على لسانٍ واحد، وصوتٍ واحد؛ لم يكن في نَدْبِ الشَّرع ما يدلُّ على هذا التَّخصيص الملتَزَم; لأن التزام الأمور غير اللازمة يُفهَم على أنه تشريعٌ, وخصوصاً مع مَنْ يُقتدى به في مجامع الناس كالمساجد, فإذا أُظهِرَتْ هذا الإظهار، ووُضِعَت في المساجد كسائر الشعائر – كالأذان، وصلاة العيدَيْن والكسوف - فُهِمَ منها -بلا شكٍّ- أنها سُنَّةٌ، إن لم تفهم منها الفَرْضِيَّة! فلم يتناولها الدليل المستَدَلُّ به؛ فصارت -من هذه الجهة- بِدعاً مُحْدَثَةً".

أما أَثَر عمر رضي الله عنه فمعناه: أنهم لما كانوا يسمعون تكبيرَهُ، فيذكِّرهم التكبير، فيكبِّرون، كلٌّ بمفرده، وليس فيه أيضا أنهم قصدوا الاجتماع على التكبير بصوت واحد؛ ويؤيد هذا الفهم؛ ما صحَّ عن الصحابة من النهي والإنكار على الذكر الجماعي؛ فقد روى ابن وضَّاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال: "كتب عاملٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه: أن هاهنا قوماً يجتمعون، فيَدْعُون للمسلمين وللأمير؛ فَكَتَبَ إليه عمر: أَقبِل وأَقبِل بهم معك؛ فأقبل، فقال عمر للبوَّاب: أعِدَّ سوطاً. فلما دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط، فقلت: يا أمير المؤمنين، إننا لسنا أولئك الذي يعني، أولئك قوم يأتون من قِبَل المشرق".

وروى الدارميُّ بسندٍ صحيح وابن وَضَّاح في "البِدَع" عن أبي البَخْتَرِيِّ قال: "أخبر رجلٌ ابنَ مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجلٌ يقول: كبِّروا الله كذا، وسبِّحوا الله كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا. قال عبدالله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني، فأخبرني بمجلسهم. فلما جلسوا، أتاه الرجل، فأخبره. فجاء عبدالله بن مسعود، فقال: والذي لا إله إلا غيره، لقد جئتم ببدعةٍ ظلماء، أو قد فَضلتُم أصحاب محمدٍ عِلماً. فقال عمرو بن عتبة: نستغفرُ الله. فقال: عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلُّن ضلالاً بعيداً".

وقد روى ابن أبي شيبة في "المصنَّف"، وابن وَضَّاح بسَنَدٍ صحيحٍ، عن عبدالله بن الْخَبَّابِ قال: "بينما نحن في المسجد، ونحن جلوسٌ مع قومٍ، نقرأ السجدة ونبكي؛ فأرسل إليَّ أبي. فوجدته قد احتجز معه هراوةً له. فأقبل عليَّ. فقلت: يا أبت ! ما لي ما لي ؟! قال: ألم أركَ جالساً مع العمالقة؟ ثم قال: هذا قرنٌ خارجٌ الآن".

وبهذا البيان يُعْلَم أن هناك فارقاً بين الاجتماع على الذكر، والذكر الجماعي؛ فالاجتماع على الذكر مندوب إليه، بخلاف الذكر الجماعي فإنه محدث لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا أصحابه الكِرَام، ولا نُقل عن أحدٍ من القرون المشهود لهم بالخيرية، ولو كان خيراً لسبقونا إليه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ، والناس يستمعون. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون لقراءته".

أما تخصيص وقت في مجالس العلم للذِّكْر، فقد مر بك دلالة القرآن العظيم على أن الفِقه والوَعظ والتَّحديث وما شابه يسمى ذكراً حقيقة لا مجازاً، وإن كان يشرع أن يخصص وقت في المجلس يَذْكُر الحضور فيه ربهم سراً، أو يقرأ أحدهم القرآن ويستمع الآخرون؛ كما صح عن الصحابة، ولكن بغير أن يذكروا الله بصوت واحد ولا يجهر بعضهم على بعض؛ ففي "الصحيحين" عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هلَّلنا وكبَّرنا ارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده" وروى النسائي في الكبرى وغيره عن رجل من الأنصار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس من مصل إلا وهو يناجي ربه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى": "الاجتماع لذِكْر الله، واستماع كتابه، والدعاء، عملٌ صالحٌ، وهو من أفضل القُرُبات والعبادات في الأوقات ... لكن ينبغي أن يكون هذا -أحياناً- في بعض الأوقات والأمكنة؛ فلا يُجْعَل سُنَّةً راتبةً يُحافظ عليها إلا ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المداومة عليه في الجماعات؛ من الصلوات الخمس في الجماعات، ومن الجُمُعات والأعياد .. ونحو ذلك".

وقال: "أما محافظة الإنسان على أورادٍ له من الصلاة، أو القراءة، أو الذِّكْر، أو الدعاء طَرَفَي النهار وزلفاً من الليل، وغير ذلك؛ فهذا سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من عباد الله قديمًا وحديثًا، فما سُنَّ عَمَلُهُ على وجه الاجتماع - كالمكتوبات- فُعِلَ كذلك، وما سُنَّ المداومة عليه على وجه الانفراد من الأوراد؛ عُمِلَ كذلك".

وقال: "لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتِّباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحرَّاه المتحرِّي من الذِّكْر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة"

وقال: "ليس لأحد أن يسنَّ للناس نوعاً من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادةً راتبةً، يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس؛ بل هذا ابتداعُ دينٍ لم يأذن الله به"

وقال رحمه الله: "فقراءة القرآن كلُّ واحدٍ على حِدَتِهِ أفضلُ من قراءته مجتمعين بصوتٍ واحد، فإن هذه تسمَّى (قراءة الإدارة)، وقد كرهها طوائفٌ من أهل العلم".

وقال: "والاجتماع على القراءة والذِّكْر والدعاء حَسَنٌ, إذا لم يتخذ سُنَّةً راتبةً، ولا اقترن ببدعة".اهـ، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 50
  • 5
  • 208,751

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً