بقاء المسلم صابرا محتسبًا في أرْض فلسطين من الرِّباط في سبيل الله
أنا شاب من عرب الـ48 (فلسطين)، أعاني من مشكلة الغربة، فأنا شابّ متديّن بفضل الله، وإني -والله- أحبُّ الله حبًّا لا يعلمه إلاَّ هو، ولكن أحس بالغربة في الدّين وليس بالدنيا، فمثلاً أنا وقلَّة من الشَّباب في بلدي نصلي، حتَّى إن أكثر الشَّباب لا يعْرِفون الدِّين بتاتًا، وهم منشغلون بشهواتِهم وبالمعاصي، حتى إنهم يتشبَّهون باليهود في أعمالِهم وأشكالهم، حتَّى في الشَّركة الَّتي أعمل فيها -وهي تابعة لليهود- أجد أني أنا الوحيد الَّذي أصلي من بين المسْلمين الَّذين يعملون معي، وأجاهِد نفسي كلَّ يوم بالثَّبات على الإسلام.
والمشكلة أني لا أجد أحدًا يُعينُني، فأنا أصارِع لوحْدي ومع قلَّة من الشَّباب، هذا غير أنَّا محتلّون، وغير الفِتن والمعاصي التي أراها كلَّ يوم وقلة العلم.
أريد أن أسمع قولَكم في هذا، وما موقع الغربة في الدّين وجزاؤها؟ وهل أنا مُرابِط؟ وهل مَن يَموت وهو مُرابِط يَموت وهو شهيد؟ وكيف أحقِّق نيَّة الرِّباط؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
نسأل الله تعالى لنا ولك الثَّبات والاستِقامة على دين الله تعالى، والحفظ من الفِتن ما ظهر منها وما بطن، واعلم أنَّ المتمسِّك بدينه في هذا الزَّمان كالقابض على الجمْر؛ كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "يأتي على الناس زمانٌ، الصَّابر فيهم على دينِه كالقابض على الجمر" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما).
وفي المسند عن أبي هريرة رضِي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ويل للعرَب من شرٍّ قدِ اقترب، فتنًا كقِطع اللَّيل المظلم، يصبح الرجُل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، يبيع قومٌ دينَهم بعرَض من الدنيا قليل، المتمسِّك يومئذ بدينِه كالقابض على الجمر".
وتذكَّر قولَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "العِبادة في الهَرْج كهِجْرة إليَّ" (أخْرجه مسلم)، والهرْج: كثرة القتل.
وثبت عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (رواه مسلم).
ولا شكَّ أنَّ ما أشرت إليه من أحوال النَّاس هو من مظاهر غربة الدين؛ قال الإمام النووي في "شرح مسلم": "قال القاضي: وظَاهِر الحَديث العُموم، وأنَّ الإسْلام بَدَأَ في آحَاد مِن النَّاس وقِلَّة، ثُمَّ انْتَشَرَ وظَهَر، ثُمَّ سَيَلْحَقُه النَّقْص والإخْلال، حَتَّى لا يَبْقَى إلاَّ في آحَاد وقلَّة أيْضًا كما بَدَأ". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى": "ولا يقْتضي هذا أنَّه إذا صار غريبًا -أي: الإسلام- أنَّ المتمسِّك به يكون في شرّ؛ بل هو أسعد النَّاس؛ كما قال في تَمام الحديث: "فطوبى للغرباء".
وطوبى من الطّيب؛ قال تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]، فإنَّه يكون من جنس السَّابقين الأوَّلين، الذين اتَّبعوه لمَّا كان غريبًا وهم أسعدُ الناس.
أمَّا في الآخرة، فهم أعْلى النَّاس درجةً بعد الأنبياء عليهم السلام وأمَّا في الدنيا، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]؛ أي: إنَّ الله حسبُك وحسْبُ متَّبعِك، وقال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3]، فالمسلم المتَّبع للرَّسول، الله تعالى حسبُه وكافيه، وهو وليُّه حيث كان، ومتى كان". اهـ.
ولقد أخبرنا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بِصفات هؤلاء الغُرباء، فقال: "الذين يُصلحون ما أفسد النَّاس من بعدي من سنَّتي".
وفي رواية: "الذين يصلحون إذا فسد النَّاس".
وفي رواية: "ناس صالِحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممَّن يطيعهم".
وفي رواية أنَّهم: "الفرَّارون بدينهم".
قال ابن القيم في "مدارج السَّالكين": "فهؤُلاء همُ الغرباء الممْدوحون المغبوطون، ولقلَّتهم في الناس جدًّا سمُّوا غرباء، فإنَّ أكثر النَّاس على غير هذه الصفات، فأهل الإسْلام في النَّاس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غُرباء، وأهل العلم في المؤمنين غُرباء، وأهل السنَّة -الَّذين يميِّزونَها من الأهواء والبدع- فهم الغرباء، والدَّاعون إليْها الصَّابرون على أذى المخالفين هم أشدُّ هؤلاء غربة، ولكنَّ هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليْهم، وإنَّما غربتهم بين الأكثرين، الَّذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، فأولئِك هم الغرباء من الله ورسولِه ودينِه، وغربتهم هي الغربة الموحِشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليْهم". اهـ.
لذلك؛ فالواجب عليْك أن تثبُت على ما أنت عليْه من الطَّاعات، وتَهتدي بهدْي رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأن تدعو الله كثيرًا أن يُثبِّتك على الحق، وأن تحمد الله على نعمت الهداية.
قال بعض السَّلف: "لا تستوحش من الحقِّ لقلَّة السَّالكين، ولا تغترَّ بالباطل لكثرة الهالكين".
وقال بعضهم: ليس العجب ممَّن هلك كيف هلك، وإنَّما العجب ممَّن نجا كيف نجا.
أمَّا كونك مرابطًا، فنرجو من الله ذلك؛ وقد روى الإمام مسلم في صحيحِه عن أبي هريرةَ رضِي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ألا أدلُّكم على ما يَمحو الله به الخطايا ويرفع به الدَّرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسْباغ الوضوء على المكارِه، وكثرة الخطى إلى المساجِد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة؛ فذلِكم الرباط"، وفي رواية: "فذلِكم الرِّباط" مرَّتين.
قال النَّووي في "شرح مسلم": "وأصْل الرباط: الحبْس على الشَّيء، كأنَّه حبس نفسه على هذه الطَّاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرِّباط، كما قيل: الجهاد جهاد النَّفس، ويحتمل أنَّه الرِّباط المتيسّر الممكن؛ أي: إنَّه من أنواع الرباط". اهـ.
والذي يظهر أنَّ مجرَّد بقاء المسلم في أرْض فلسطين هو من الرِّباط في سبيل الله - تعالى - إذا نوى ذلك؛ لأنَّ المقام في الثغر تقْويةً للمسلمين رباط، والثَّغر: كلُّ مكان يخاف أهله العدو،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: