التوسل المشروع والممنوع
نرجو من فضيلتكم توضيح مشروعية التوسُّل والاستغاثة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وما ترونه في هذه الأدلة على جواز التوسُّل به صلى الله عليه وسلم.
••• أدلة التوسُّل:
1 - حديث الشفاعة المتواتر والمروي في الصحيحين وغيرهما، من أن الناس يتوسلون بسيد الأنام عند اشتداد الأمر عليهم يوم القيامة، ويستعينون به، ولو كان التوسُّل والاستغاثة من الكفر والشرك لم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للناس يومئذ، ولا يأذن الله له بالشفاعة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن التوسُّل والاستغاثة كفر في الدنيا ليس كفراً في الآخرة، فإن الكفر كفر، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، قبل موته صلى الله عليه وسلم وبعد موته لا فرق.
2 - حديث سيدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلا ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير"، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجَّه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم شفِّعه فيَّ، قال سيدنا عثمان: فعاد وقد أبصر" (رواه الترمذي والنسائي والطبراني والحاكم، وأقرَّه الذهبي والبيهقي بالأسانيد الصحيحة).
3 - حديث سيدنا علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن فاطمة بنت أسد (أم سيدنا علي) رضي الله عنهما قال: "اللهم بحقي وحق الأنبياء من قبلي، اغفر لأمي بعد أمي" (رواه الطبراني والحاكم مختصراً وابن حبان وغيرهم، وفي إسناده روح بن صلاح، قال الحاكم ثقة، وضعَّفه بعضهم والحديث صحيح).
4 - وروى الإمام البخاري في صحيحه: أن سيدنا عمر رضي الله عنه استسقى عام الرمادة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قوله توسُّلاً به: "اللهم إنا كنا نتوسَّل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، وفي الحديث إثبات التوسُّل به صلى الله عليه وسلم وبيان جواز التوسُّل بغيره، كالصالحين من آل البيت ومن غيرهم. كما قال الحافظ في فتح الباري (2/497).
••• أما أدلة الاستغاثة:
1 - فما روى البخاري في صحيحه وغيره، من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حديث الشفاعة بلفظ: "أن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استعانوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم"، وهذا صريح في الاستغاثة وهي عامة في جميع الأحوال، مع لفت النظر إلى أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره يبلغه سلام من يسلم عليه وكلام من يستغيث به؛ لأن الأعمال تعرض عليه -كما صح- فيدعو الله لأصحاب الحاجات.
2 - روى الإمام أحمد بسند حسن، كما قال الإمام الحافظ بن حجر في الفتح ( 8/579) عن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال: خرجت أنا والعلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث، وفيه فقلت: أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد، قال: -أي سيدنا رسول الله-: وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث ولكنه يستطعمه ... الحديث، وقد استغاث الرجل بالله وبرسوله، ولم يكفره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خالف الألباني ذلك فكفَّر كل مستغيث به صلى الله عليه وسلم كما في توسُّله ص 7 الطبعة الثانية.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى -الصحيح- عندما علَّم الرجل أن يقول: "يا محمد إني أتوجَّه بك إلى الله في كل زمان ومكان".
4 - جاء في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قصَّ على أصحابه قصة السيدة هاجر، هي وابنها في مكة، قبل أن تبنى الكعبة، بعد أن تركهما سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفيما قصه أنه لما سمعت صوتاً عند الطفل قالت: "إن كنت ذا غوث فأغث"، فاستغاثت فإذا بجبريل عليه السلام، فغمز الأرض بعقبه فخرجت زمزم، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إنها كفرت كما يزعم الألباني، ولم ينبه أن تلك الاستغاثة منها كفر البتة، وهي تعلم أن صاحب الصوت لن يكون رب العالمين المنزَّه عن الزمان والمكان.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، التوسُّل هو: اتخاذ الوسيلة التي يتوصل بها إلى المطلوب وأعظم ذلك وأفضله التوسُّل إلى الله بالأعمال الصالحة، أي بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، والتوسل على وجوه منها المشروع ومنها الممنوع، والمقصود بالتوسُّل المسؤول عنه هو: التوسُّل إلى الله بالدعاء، فالتوسُّل إلى الله بدعائه يكون مشروعاً على وجهين، توسُّل إلى الله بأسمائه وصفاته كقول العبد: "أسألك اللهم برحمتك"، وقوله: "اللهم اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم"، وما أشبه ذلك، الثاني، التوسُّل إلى الله بدعاء الصالحين، وذلك بأن يطلب من العبد الصالح الدعاء، ومن ذلك ما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يطلبونه أن يدعو لهم، سواء كان ذلك لفرد أو لجماعة وهذا كثير، إذ كانوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام أن يستسقي لهم، كما في حديث الأعرابي الذي دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا (أخرجه البخاري: 1014، ومسلم: 897)، فهذا توسُّل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا نتوسَّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" (أخرجه البخاري: 1010)، ومن هذا القبيل حديث الأعمى الذي ورد ذكره في السؤال، وقد جاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يرد بصره، فخيَّره، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفَّعه فيَّ" (رواه الترمذي: 3578، وابن ماجة: 1385).
فهذا كله توسُّل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد موته فلم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليطلب منه الدعاء كما ذكر في حديث عمر رضي الله عنه، فقد عدل الصحابة رضي الله عنهم عن التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسُّل بالعباس في الاستسقاء، يعني بدعاء العباس وهكذا طلب الناس يوم القيامة من النبي عليه الصلاة والسلام، حيث بطلب الناس يوم القيامة الشفاعة من آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسى، وكلهم يعتذر، لعظم الأمر، فينتهي الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأتي ويسجد لربه ويحمده فيؤذن له في الشفاعة، ويقال له: "ارفع رأسك، وقل يُسْمَع لك وسل تُعْطَهُ واشفع تُشفَّع" (أخرجه البخاري: 7510، ومسلم: 193)، وسؤاله صلى الله عليه وسلم أن يشفع عند الله يوم القيامة هو من سؤال الحي القادر.
وهكذا القول في الاستغاثة، فالاستغاثة طلب الغوث لكشف كربة من نصر على عدو، أو جلب رزق، فالقول في الاستغاثة كالقول في التوسُّل، منه الجائز ومنه الممنوع، فالاستغاثة بالحي القادر جائزة، كما صنع الرجل الذي من شيعة موسى، قال الله تعالى: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص: 15]، ومن هذا النوع استغاثة الناس من كرب يوم القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم عند الله كما تقدم، فهي استغاثة بحي قادر، وأما الاستغاثة بالغائبين وبالأموات لكشف الشدائد وجلب المنافع فذلك من الشرك بالله، وهو الذي كان يفعله المشركون، فيستغيثون بالملائكة، وبالأنبياء، وكما يفعل النصارى وأشباههم من أهل الغلو في الصالحين.
ومن الاستغاثة بالحي القادر ما ورد في قصة هاجر، فإنها إنما طلبت الغوث ممن شعرت بوجوده، لم تستغث بغائب، وقد حصل لها ما طلبته، فأغاثها الملك بما أمره الله به، من تفجير عين زمزم، انظر ما رواه البخاري (3365)، وأما حديث فاطمة بنت أسد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله الذي يحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقَّنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين" (رواه الطبراني في الكبير 24/351 (871)، وفي الأوسط: (189)، وأبو نعيم 3/121)، والحديث -كما ورد في السؤال- حديث لا يصلح للاحتجاج به، والتوسُّل إلى الله بجاه النبي أو بحقه أو بحق الأنبياء، أو بجاه الأنبياء، أو أحد من الصالحين، كل ذلك من التوسُّل البدعي؛ لأنه توسُّل إلى الله بما لم يجعله الله وسيلة، وجاه النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ليس وسيلة لأحد من الناس إلا لمن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك ينفعه، أما من لم يدع له النبي فإنه لا معنى للتوسُّل إلى الله بجاهه، وقول القائل: أسألك بجاه نبيك، أو بحقه أو بحق عبدك الصالح فلان، لا معنى له، ولا مناسبة فيه للمطلوب، فإن منزلة العبد وجاهه وحقه إنما هو وسيلة له إلى الله سبحانه وتعالى وليست وسيلة لغيره، فهذا هو الفصل في هذا المقام، فيفرق بين من دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام أو غيره من الأنبياء والصالحين، ومن لم يدع له، فالأعمى إنما توسُّل إلى الله بالنبي عليه الصلاة والسلام- حيث دعا له وشفع له، فطلب من ربه أن يشفِّعه فيه.
وأما ما ذكر من أن الرسول صلى الله عليه وسلم حيّ في قبره، فهذا ليس على إطلاقه، وليس كما يظن الجاهلون، بل هو حيّ حياة خاصة، وهي التي يعبر عنها العلماء بالحياة البرزخية، فله من الحياة البرزخية أكملها، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون في هذه الحياة كحاله قبل موته صلى الله عليه وسلم فقد مات وفارق هذه الدنيا، فلهذا لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون منه الدعاء، فضلاً عن أن يدعوه أو يستغيثوا به، بل ولا يسألونه عن مسائل الدين، فإنه في عالم آخر، ولا يعلم من أمر أمته إلا ما شاء الله أن يطلعه عليه، مثل عرض الصلاة والسلام انظر سنن أبي داود (1047)، وابن ماجه (1085)، والنسائي (1374)، أو تبليغه الصلاة والسلام عليه من أمته انظر مسند أحمد (3666)، وسنن الدارمي (2774)، والنسائي (1282).
وما ورد في السؤال من أن الشيخ ناصر الألباني رحمه الله يكفّر من يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم ويعده مشركاً، ففي هذا مجازفة وافتراء على الشيخ، فإن هذا من رمي البريء فهو إفك وبهتان، فالشيخ رحمه الله من العلماء المحققين في عقيدة السلف، فلا يكفّر إلا من كفرّه الله ورسوله عليه السلام، والتوسل والاستغاثة التي أنكرها الشيخ ليست الاستغاثة به في حياته، ولا الاستغاثة به يوم القيامة، وإنما الاستغاثة به ودعاءه وطلب الحوائج منه بعد موته عند قبره أو بعيداً عن قبره، كما يفعل الذين يستغيثون به صلى الله عليه وسلم وينادونه في الشدائد قائلين: (يا رسول الله المدد)، أو (انصرني على عدوي) أو (اشفني)، أو (اشف مريضي)، كما يفعلون مثل ذلك مع من هو دون النبي عليه الصلاة والسلام من أولياء الله، بل قد يفعلونه مع من لا يعرف بولايته لله، أو من يعرف بالفسق والفجور، ممن يدعى لهم الصلاح وليسوا بصالحين، فاعلم أيها السائل، أنما نسب إلى الشيخ من ذلك كذب وبهتان، ولترجع إلى كتبه التي بيّن فيها حقيقة المسألة وفصلها، مثل كتاب: (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)، ومقالاته في التوسل التي جمعها الأستاذ عيد عباس وغير ذلك، من مؤلفاته التي يقرر فيها مذهب أهل السنة والجماعة في توحيد العبادة وغيره، ويفرق فيه بين التوسُّل والاستغاثة الجائزين أو الممنوعين.
وقد أحسنت أيها الأخ حيث تثبَّتَّ في الأمر، وهذا هو الواجب على المسلم إذا سمع بما لا يعلم ثبوته تثبَّتَّ وتبيّن، كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...} الآية [الحجرات: 6]، منَّ الله عليّ وعليك وجميع المسلمين بالبصيرة في الدين، وعصمنا من اتِّباع الهوى ومضلات الفتن، إنه تعالى على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
- التصنيف:
- المصدر: