حكم قراءة القُرآن للميِّت
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الموت وما بعده -
هل يصل ثوابُ قراءة القُرآن للميِّت؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقِراءة القرآن وإهداؤُها للميِّت مَحلُّ خِلاف بين أهل العلم؛ فذهبَ الجُمهورُ إلى جوازِها، وبه قال الحنفيَّة والحنابلةُ وبعضُ الشافعيَّة ومتأخرو المالكية.
قال ابن عابدين نقلاً عن "البدائع": "ولا فَرْقَ بين أن يكون المجعولُ له ميِّتًا أو حيًّا، والظَّاهر أنَّه لا فرقَ بين أن ينويَ به عند الفِعل للغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يَجعلُ ثوابه لغيره".
قال البُهُوتي الحنبلي في "الروض المربع": "وأيّ قُربة من دعاءٍ واستغفارٍ وصلاةٍ، وصومٍ، وحجٍّ، وقراءةِ قرآنٍ، وغيرِ ذلك، فعلَها مسلمٌ وجعلَ ثوابَها لميِّت مسلمٍ أو حيٍّ، نَفَعَهُ ذلك؛ قال أحمد: "الميّت يصل إليْه كلُّ شيءٍ من الخير للنُّصوص الواردة فيه".
قال الدُّسوقيُّ في آخر "نوازل ابن رشد" في السّؤال عن قوله تعالى: {وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] قال: وإنْ قَرأ الرَّجُل وأهدى ثوابَ قراءتِه للميّت جاز ذلك، وحصل للميّت أجره.
وقال ابن هلال: "الذي أفتى به ابنُ رشدٍ وذَهَبَ إليْه غيْرُ واحدٍ من أئمَّتِنا الأندلسيِّين أنَّ الميّت ينتفِعُ بِقراءة القُرآن الكريم ويصِلُ إليْهِ نفعُه، ويَحصل له أجره إذا وهب القارئُ ثوابَه له، وبه جرى عملُ المسلمين شرقًا وغربًا، ووقفوا على ذلك أوقافًا، واستمرَّ عليْهِ الأمْرُ منذُ أزمِنةٍ سالفة".
وذهب المتقدِّمون من المالكيَّة إلى كراهة قراءةِ القُرآن للميِّت، وعدم وصول ثوابِها إليه، وهو المشهورُ من مذهَبِ الشَّافعيِّ؛ كما قال الإمام النَّووي في "المجموع"، وقال العز بن عبدالسلام في بعضِ فتاويه: "لا يَجوزُ أن يَجعَلَ ثوابَ القِراءة للميِّت، لأنَّه تصرُّف في الثَّواب من غير إذن الشَّارع فيه".
وهذا هو الرَّاجحُ؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] دلَّت الآية على أنه لا ينفع أحدًا عملُ أحد، وأنَّ كلَّ عامل له عمله الحسن والقبيح، فليس له من عمل غيْرِه وسعْيِهم شيءٌ، وهي عامَّة في جَميع الأعمال من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ ودعاءٍ وقراءةِ قُرآن وغيرها، إلا أن السنة قد دلت على وصول ثوابِ الصَّلاة عليه والدُّعاء والاستغفار له والصَّدقة والصَّوم والحجّ والعُمرة، وقد صحَّ في جميعها، أمَّا ما لَم يَرِدْ فيه دليلٌ خاصٌّ به كقِراءة القُرآن فلا يُقاسُ عليه؛ لعموم الآية السابقة، ولأنَّها عبادة بدنيَّة لا تقبل النِّيابة، ومن المقرر أن العام يبقى على عمومه مهما استثني من أفراده، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:
"لَم يثبتْ عنِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم فيما نعلم - أنَّه قرأ القُرآن ووَهَبَ ثوابَه للأمواتِ من أقربائِه أو من غيْرِهم، ولو كان ثوابُه يصِلُ إليْهِم لحَرَصَ عليه، وبيَّنه لأمته لينفعوا به موتاهم، فإنَّه عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقد سار الخُلفاء الراشدون من بعده وسائرُ أصحابه على هديه في ذلك، رضي الله عنهم، ولا نعلَمُ أنَّ أحدًا منهم أَهْدَى ثَوَابَ القُرآن لغيره، والخيرُ كلُّ الخَير في اتِّباع هدْيِه - صلى الله عليه وسلَّم - وهدْيِ خُلفائه الرَّاشدين وسائِر الصَّحابة رضي الله عنهم، والشَّرّ في اتِّباع البِدَع ومُحدثات الأُمور لتحذير النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم من ذلك بقوله: "إيَّاكم ومُحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقوله: "مَنْ أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، وعلى هذا لا تَجوز قراءة القرآن للميِّت، ولا يَصِلُ إليه ثوابُ هذه القراءة بل ذلك بدعة.
أمَّا أنواع القُرُبات الأخرى فما دلَّ دليلٌ صحيحٌ على وصول ثوابِه إلى الميت وَجَبَ قبولُه، كالصَّدقة عنه والدُّعاء له والحجّ عنه، وما لم يثبتْ فيه دليلٌ فهو غَيْرُ مشروع حتى يقوم عليه الدليل.
وعلى هذا لا تَجوزُ قراءة القُرآن للميِّت، ولا يصِلُ إليه ثوابُ هذه القراءة في أصحِّ قولَيِ العُلماء، بل ذلك بدعة". اهـ.
أمَّا الاستئجار على القِراءة ثُمَّ يَهَبُ القارئُ ثوابَ قراءَتِه للميِّت، فلا يُشْرَع قولاً واحدًا؛ قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "وأمَّا الاستئْجار لنفس القِراءة والإهداء فلا يصحُّ ذلك، فإنَّ العلماء إنَّما تنازعوا في جواز أخْذِ الأُجْرة على تعليم القُرآن والأذان والإمامة والحجّ عن الغير؛ لأنَّ المستأجر يستوفي المنفعة، فقيل: يصحّ ذلك كما هو المشهور من مذهب مالكٍ والشَّافعي، وقيل: لا يَجوز لأن هذه الأعمال يختصّ فاعلُها أن يكون من أهل القُرْبة؛ فإنَّها إنَّما تصِحُّ من المسلم دون الكافِر، فلا يَجوزُ إيقاعُها إلا على وجه التقرُّب إلى الله تعالى، وإذا فُعِلَت بعُروض لم يكن فيها أجرٌ بالاتّفاق لأنَّ الله إنَّما يقبل من العمل ما أُرِيد به وجهه لا ما فعل لأجْلِ عُروض الدّنيا.
وأمَّا إذا كان لا يقرأ القُرآن إلا لأجل العُروض فلا ثوابَ لهم على ذلك، وإذا لم يكن في ذلك ثوابٌ، فلا يَصِلُ إلى الميِّت شيء؛ لأنَّه إنَّما يصل إلى الميت ثوابُ العمل لا نفس العمل؛ فإذا تصدَّق بِهذا المال على من يستحقُّه وصلَ ذلك إلى الميِّت، وإن قَصَدَ بِذَلِك مَن يستعينَ على قراءة القرآن وتعليمِه كان أفضل وأحسن، فإنَّ إعانة المسلمين بأنفُسِهم وأموالِهم على تعلُّم القُرآن وقراءتِه وتعليمِه من أفضل الأعمال،، والله أعلم.