حكم شِعْر الغزَل العفيف
ما حُكم شِعر الغزل الذي لا يُصَوّر مفاتِن المرأة، وإنَّما عِبارة عنْ مَشاعِر وجدانيَّة (تصوير مشاعر الحُبّ والشَّوق إلى الحَبيب، وذِكْر أَلَم الفِراق والهَجْر) وهو من باب الخيال مُجاراةً للشُّعراء في هذا الغَرَضِ؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فَشِعْرُ الغزَل جائزٌ بشروط:
أوَّلاً: ألا يتغزَّل بِامرأةٍ مُعَيَّنة.
ثانيًا: ألا يَصِفَ أعضاءَ المرأة بِما يُثيرُ الغرائز.
ثالثًا: ألا يَشتَمِل على ما لا يَجوز من الكلام كالغزَل الصريح.
هَذا؛ وإن كان الأَوْلى والأَحْرى عدم الانشغال بتِلْك الأشعار أو الإكْثار مِنها؛ لأنَّه إن لم يَكُنِ الغرض منه صحيحًا كحِفْظِ لُغَةٍ أو الاستشهاد به على معنًى صحيح، فأقلّ ما فيهِ حينئذٍ أنَّه وسيلةٌ لإضاعة الوَقْت، أو يصبح ذريعةً للتَّهييج على العِشْقِ والغَرام والمُخادَنة، ومعلومٌ أنَّ كلَّ ما أفضى إلى مُحرَّم فهُو مُحرَّم، ولهذا أنْكَر الإمام أحْمد وغيره أشكالَ الشِّعر الغزلي الرَّقيق لئلاَّ تتحرَّك النّفوس إلى الفواحش، كما ذكره شيخ الإسلام في "مَجموع الفتاوى".
وفي الصحيحَيْنِ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: "لأنْ يَمتلئَ جوفُ أحدِكُم قَيحًا خيرٌ له من أن يَمتلئَ شِعْرًا"، وفي روايةٍ عند مُسلم من حديث أبي سعيدٍ الخُدْري قال: بيْنا نَحنُ نسير مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالعَرْج إذ عَرَضَ شاعرٌ يُنْشِد فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "خُذوا الشَّيطانَ أوْ أمْسِكوا الشَّيطان، لأَنْ يَمتلئَ جوفُ رَجُلٍ قَيْحًا خيرٌ له من أن يَمتلئ شعرًا".
قال الشِّربيني في "مغني المُحتاج": "(ويُباحُ قَوْلُ شِعرٍ وإنشادُه إلا أن يَهجو أو يُفْحِش أو يُعَرِّض بامرأة معينة): (أو) إلا أن (يُعَرّض)... (بامرأةٍ معينة) غَيْرِ زوجته وأَمَتِه، وهو ذِكْرُ صفاتِها من طول وقِصَرٍ وصُدغ وغيرها، فيَحْرُم وتُرَدّ به الشَّهادة لِما فيه من الإيذاء، واحتُرِزَ بالمُعَيَّنة عن التَّشبيب بِمُبهمة فلا تُرَدّ شهادتُه بذلك... أمَّا حليلتُه من زوجتِه أو أَمَتِه فلا يَحرم التَّشبيب بِها كما نَصَّ عليه في "الأم"... ويُشتَرَط أن لا يُكْثِر من ذلك وإلا رُدَّت شهادتُه، قاله الجرجاني، ولو شبَّب بزوْجته أو أَمَتِه مِمَّا حقُّه الإخفاء رُدَّت شهادتُه لسقوطِ مُروءته، وكذا لو وصف زوجَتَه أو أَمَتَه بأعضائها الباطنة، كما جرى عليه ابن المقري تبعًا لأصله وإن نوزع في ذلك، وليس ذِكْرُ امرأةٍ مَجهولةٍ كليلى تعيينًا" انتهى.
وقال ابن قدامة في "المغني": "والشِّعر كالكلام، حَسَنُه كحسَنِه، وقبيحُه كقبيحه ... والحاجة تدعو إليه لمَعْرِفة اللُّغة والعربيَّة، والاستِشْهاد به في التَّفسير، وتعرُّف معاني كلام الله تعالى، وكلام رسولِه صلى الله عليه وسلَّم ويستدلّ به أيضًا في النسب، والتاريخ، وأيام العرب... فما كان من الشعر يتضمَّن هَجْوَ المسلمين، والقدحَ في أعراضِهم، أو التَّشبيب بامرأة بعيْنِها، والإفراط في وصْفِها، فذكر أصحابُنا أنَّه مُحرَّم، وهذا إن أُريد به أنَّه مُحرَّم على قائله، فهو صحيح، وأمَّا على راويه فلا يصحّ، فإنَّ المغازي تُرْوَى فيها قصائدُ الكُفَّار الَّذين هجَوا بِها أصحابَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُنْكِر ذلك أحد" اهـ.
والحاصل: أنَّ الشّعر كلام حسَنُه حسن، وقبيحُه قبيح، وأنَّ الغزلَ جائزٌ بِالشروط السابقة، خاصَّة إذا كان لِحِفظ اللغة أو بِقَصْد الاستشهاد وما شابه.
وقد جاء في كتب السير أنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْر رضي الله عنه قدِمَ المدينة خفيةً لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم توعَّده بسبَبِ أبياتٍ قالَها، فنزل على أخيه بُجَيْر، فلمَّا صلَّى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الفجر قام فأنشده قصيدته المشهورة التي مطلعها:
فخَلَعَ عليْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم بُرْدَته الشَّهيرة والتي اشْتراها بعد ذلك أميرُ المؤمنين معاوية رضي الله عنه، فكان خلفاءُ بني أُمَيَّة يتداولونَها بعده.
وأيضًا ذَكَرَ السُّيوطي في "الإتقان من علوم القرآن" أنَّ ابْنَ عبَّاس رضي الله عنْه قَطَعَ حديثَه مع جُلَسائِه ليَسمعَ من عُمَر بن أبي ربيعَةَ شِعره،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: