قضاء الصيام في فترة الكفر والردة
لي أخ في الخامسة والثلاثين من العمر، بعد السادسة عشر من عمره، تهاون في الصيام مع علمه بوجوبه، وعندما أصبح عمره عشرين عاماً، لم يعد يؤمن بوجود خالق للكون، ولا يؤمن بحقيقة الدين -سبحان الله وتعالى- وترك الصيام والصلاة، وكل الشعائر لا عن تهاون وكسل، ولكن عن قناعة واعتقاد: بأنه لا وجود لله -عز وجل- أستغفر الله، وبقي على هذا الحال حتى بلغ الثلاثين من العمر، حيث تَفضَّل الله عليه بالهداية، والحمد لله رب العالمين؛ عندي ثلاثة أسئلة:
1- نعلم بأنه يجب أن يقضي صيام الفترة ما بين السادسة عشرة والعشرين من عمره؛ باعتبار أنه ترك الصيام تهاونًا فيه، وهو يعلم فرضيته،ولكن سؤالنا: هل يقضي - أيضًا - الفترة التي كفر فيها وارتدَّ، حيث إنه ترك الصيام في تلك الفترة؛ لأنه اعتقد أنه لا يوجد خالق ولا دين ولا شيء من هذا، وغرِق في الإلحاد؟
2- الفترة التي عليه قضاؤها كبيرة، وقد سمعنا بأنه يجب أن يقضي ما عليه خلال سنة، فهل هذا صحيح؟ وما العمل؟ فهذا فوق طاقته.
3- هل عليه أن يُخرج مالًا أيضًا (كفارة)؟ وماذا يعمل إن كان المبلغ كبيرًا؟ غفر الله له ولنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالحمد لله الذي منّ على هذا الأخ بالتوبة والهداية، قبل أن يَدهَمه الموت، والله نسأل أن يزيده هدىً، وأن يثبتنا وإياه على الحق المبين.
وأما سؤالك عن قضاء الصيام في فترة الردة، فالراجح: أنه لا قضاء عليه؛ لأن الإسلام شرط من شروط وجوب الصيام والصلاة وباقي الأركان، ولأن الإسلام يجبُّ ما قبله؛ كما ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ فيكون غير مُطَالَبٍ بقضاء صلاة أو صوم؛ لأنه بمثابة داخل جديد في الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأما المرتد، فلا يجب عليه قضاء ما تركه في الردة، من صلاة وزكاة وصيام - في المشهور - ولزمه ما تركه قبل الردة - في المشهور". "مجموع فتاوى ابن تيمية" (5 / 71).
وقال: "وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم، بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا، وغفر الله لهم؛ قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: "يا عمرُو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله"، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم؛ ففي هذا أنه لم يضرَّ الذين أسلموا عبادةُ غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولًا، وأيضًا فالداعي إلى الكفر والبدعة -وإن كان أضل غيره- فذلك الغير يعاقب على ذنبه؛ لكونه قَبِل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه، لم يبق عليه وزره، ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب، حالهم واحد؛ ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة".
وقال في "الإنصاف": "وإن كان مرتدًا، فالصحيح من المذهب: أنه يقضي ما تركه قبل ردته، ولا يقضي ما فاته زمن ردته".
قال القاضي، وصاحب الفروع، وغيرهما: "هذا المذهب"، واختاره ابن حامد، والشارح، وقدمه المجد في شرحه، وابن عبيدان، ونصراه، وقدمه ابن تميم، وابن حمدان في رعايته الصغرى، مع أن كلامه محتمِل.
قال في الفائدة السادسة عشرة: "والصحيح: عدم وجوب العبادة عليه في حال الردة، وعدم إلزامه بقضائها بعد عوده إلى الإسلام". اهـ. "الإنصاف".
أما تأخره في قضاء صيام الفترة ما بين السادسة عشرة والعشرين، فالواجب عليه التوبة منه؛ فقد ورد في "الصحيحين" عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ؛ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان: أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضانُ آخرُ". انتهى.
والذي يلزمه -الآن- هو قضاء ما فاته من صيام، وأما الكفارة فقد ذهب بعض الصحابة إلى أنه يقضي ويطعم عن كل يوم مسكيناً, وبناء عليه فإن أطعم أخوك مسكيناً عن كل يوم تأخر قضاؤه فهو أحوط.
كما أنه لا يشترط التتابع في الصوم، إن كنت لا تقدر على ذلك؛ لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة:184].
وذهب ابن حزم وغيره إلى وجوب التتابع في قضاء رمضان، ولكن الراجح -وهو مذهب أكثر أهل العلم-: أن ذلك مستحب، فإن لم يفعل، وقضاه متفرقًا أجزأه ذلك.
جاء في "صحيح البخاري" (2 / 688): "باب متى يُقضى قضاءُ رمضان، وقال ابن عباس: "لا بأس أن يفرَّق؛ لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}"، وقال سعيد بن المسيب - في صوم العشر -: "لا يصلح حتى يبدأ برمضان"، وقال إبراهيم: "إذا فرَّط حتى جاء رمضانُ آخر يصومهما"، ولم ير عليه طعامًا، ويُذكر عن أبي هريرة مرسلًا، وابنِ عباس: "أنه يُطعِم"، ولم يذكر اللهُ الإطعام، إنما قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}".
وراجع فتوى:"حكم الإفطار في نهار رمضان من غير عذر".
هذا؛ والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: