درجتنا في الجنة

منذ 2012-09-17
السؤال:

قرأتُ أنَّ من كَرَمِ الله وفضلِه على عباده أنَّ درجةَ الابْنِ ترتَفِعُ في الجنَّة لدرجة والدِه، وتَرتفِعُ درجاتُ أفرادِ العائلة لِدرجة أى فرْدٍ منهم درجتُه أعلى في الجنة. والسؤالُ: نَحن نُؤمن أنَّ الصَّحابة هُم أكرمُ هذه الأُمَّة، ودرجَتُهم تَصِلُ للفِرْدوس الأعلى إن شاءَ الله، وعليه؛ فانَّ الصحابة سَيَرْفَعُون درجةَ أبنائِهم لَهم، والأبناء سيَرْفعون الأحفادَ، وهكذا الأجيال تَرفَعُ الأجيال، حتَّى يصلَ الأمْرُ لجيلِنا فترتَفِعُ درجاتُنا لدرجة الصَّحابة إن كنَّا من أحفادِهم ... فَما رأْيُكم؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ السَّائلَ الكريمَ يُشيرُ إلى قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}[الطور: 21]، وليس المقصود بالذُّرِّيَّة ما ظنَّه السائل من التَّسلُسل وإنَّما المعْنَى أنَّ كلَّ مولودٍ يتْبَعُ أباه لا أنَّ جَميع الأَبناء يتْبَعُون جَميع الآباء، وهذا لا يتأتَّى إلا في الأبناء الصِّغار لأنَّ الكبيرَ بدَوْرِه سيكونُ له ذُرِّيَّة أخرى وهكذا؛ قال ابن زيد: "المعنَى ألْحَقنا بالذُّرِّيَّة أبناءَهم الصِّغار الذين لم يَبْلُغوا العَمَل" وقد دلَّتِ السنة على ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً ولا عَسِيفًا" (أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني)، وروى أحمد والنسائي عن الأسود بن سربع قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فظفرنا بالمشركين، فأسرع الناس في القتل حتى قتلوا الذرية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى قتلوا الذرية؟! ألا لا تقتلوا ذرية ثلاثا".

قال ابنُ منظورٍ في "لسان العرب": "الذُّرِّيَّة اسمٌ يَجمَعُ نَسْلَ الإِنسانِ من ذَكَرٍ وأُنثى، وأَصلُها الهَمْزُ لكنَّهم حذَفُوه فلم يستعمِلُوها إِلا غَيْرَ مهموزة، وقيل: أَصلُها من الذَّرِّ بِمعنى التَّفريقَ لأَنَّ اللهَ تَعالَى ذَرَّهُمْ في الأَرض".

قال شيخ الإسلام ابْنُ تيمية: إنَّما مَعناهُ اتَّبع كلُّ واحدٍ ذُرِّيَّته؛ ليس معناه أنَّ كُلَّ واحدٍ مِنَ الذُّرِّيَّة اتَّبع كُلَّ واحدٍ من الآباء، وهذا كثيرٌ في الكلام؛ مثل أن تقول: النَّاس في ديارِهم ومع أزواجِهم، يتصرَّفون في أموالهم وينفقون على أولادِهم، وما أشبهَ ذلك". اهـ.

وكذلك هنا {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}: كلُّ أب مع ذرِّيَّته وليس أنَّ جَميع الآباء مع جَميع الأبناء، وهذا كثيرٌ جدًّا في الشَّرع واللُّغة، مثل قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فلا يُفْهم مِنها تَحريمُ جَميعِ الأُمَّهات على جَميع الأبناء، وإنَّما حُرَّمت كلُّ أمٍّ على أبنائها، وهذا غاية في البيان لِمَنْ تأمَّله؛ فيكون المعنى أن يتبعَ كُلَّ إنسانٍ ولدُه الصغير في المنزلة دون ولد غيرِه.

قال ابن القيم في "زاد المهاجر إلى ربه": وأمَّا النَّوعُ الثَّاني من الأتْباع: فَهُمْ أتباعُ المؤمنين من ذُرِّيَّتِهم الَّذين لم يَثْبُتْ لَهُم حُكْمُ التَّكليف في دار الدنيا وإنَّما هُمْ مع آبائِهم تَبَعٌ لَهم ... أخْبَر سُبحانَهُ أنه أَلْحق الذُّرِّيَّة بآبائِهم في الجنَّة كما أتبعهم إيَّاهم في الإيمان، ولمَّا كان الذُّرِّيَّة لا عَمَلَ لَهُم يستحِقُّون به تِلك الدَّرجات قال تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، والضَّميرُ عائدٌ إلى الذين آمَنُوا؛ أي وما نَقَصْناهم من عَمَلِهم بل رفَعْنا ذُرِّيَّتَهم إلى درجَتِهم مع تَوْفِيَتهم أجور أعمالِهم، فَلَيْسَتْ منزلَتُهم منزلةَ مَنْ لم يَكُنْ له عملٌ، بَلْ وفَّيناهُم أُجُورَهم فألْحقْنا بِهم ذريَّتَهُم فوق ما يستحقُّون من أعمالهم".

وقال الشيخ العُثيْمين: ... "الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُم الذُّرِّيَّة بالإيمان، والذُّرِّيَّة الَّتِي يكون إيمانُها تبعًا هي الذريَّة الصِّغار، فيقولُ الله عزَّ وجلَّ: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: جعلنا ذريتهم تلحَقُهم في درجاتِهم، وأمَّا الكِبار الَّذين تزوَّجوا فهُم مستقِلُّون بأنفُسِهم في درجاتِهم في الجنَّة، لا يلحَقُون بآبائهم؛ لأنَّ لهم ذُرِّية فهم في مَقرِّهم، أمَّا الذريَّة الصغار التَّابعون لآبائهم فإنَّهم يرقَوْنَ إلى آبائِهم، هذه التَّرقِيَة لا تَستلْزِمُ النَّقص من ثواب ودرجاتِ الآباء، ولهذا قال: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 5
  • 0
  • 9,232

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً