الدِّفاع عنِ النَّفس

منذ 2012-09-27
السؤال:

هَلْ يَحرُم الدِّفاع عنِ النَّفس لِقَوْلِ ابْنِ آدم: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فقدْ حَقَنَ الإسلامُ الدِّماء وحرَّم سفْكَها إلاَّ بإذنٍ من الشَّارع، وتوعَّد سبحانه مَن يتعدَّى بالعذاب العظيمِ؛ فقال تَعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93]، وقال صلى الله عليه وسلَّم: "كلُّ المُسلِمِ على المُسْلِم حرامٌ: دَمُه، ومالُه، وعرضُه" (رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ).

أمَّا الدِّفاعُ عنِ النَّفْسِ منَ الظُّلم، ودفْعُ الصَّائل فمشروعٌ بالإجْماع، واختُلِفَ في وُجوبِه على ثلاثَةِ أقوال:

الأوَّل: وُجُوب دَفْعِ الصَّائل على النَّفسِ وما دونَها، ولا فَرْقَ بَيْنَ أن يَكُونَ الصائِلُ كافرًا أَوْ مُسلمًا، عاقِلاً أو مَجنونًا، بالغًا أو صغيرًا، معصومَ الدَّم أو غيْرَ مَعصومِ الدَّم، آدميًّا أوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الحنفيَّة والمالكيَّة في الأصحِّ، وقولٌ عند الشافعيَّة، واحتجُّوا بأدلَّة كثيرة، منها:

ما رَوَاهُ مسلمٌ وغيرُه: أنَّ رجُلاً قال: يا رسولَ الله، أرأَيْتَ إنْ جاءَ رجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مالِي؟ قال: "فَلا تُعْطِه مالَك"، قال: أرأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قال: "قاتِلْهُ"، قال: أرَأَيْتَ إن قَتَلَنِي؟ قال: "فأنت شهيدٌ"، قال: أرأيْتَ إن قتلتُه؟ قال: "هو في النار".

وفي الصحيحَيْنِ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنْهُما قالَ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِه فَهُوَ شهيدٌ".

ومنها قولُه تَعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وموضع الحجة في الآية أن الاستِسْلامُ للصَّائل إلقاءٌ بالنَّفْسِ للتَّهْلُكة، فيكونُ الدِّفاع عنْها واجبًا، ولأنَّه يَحْرُم عليه قَتْلُ نفسِه فكذلك يَحْرُم عليْهِ إباحةُ قتْلِها بِالاسْتِسلام لِلقاتِل.

ومنها أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أحلَّ فَقْء عيْنِ مَنِ اطَّلع في بَيْتِ قومٍ بِغَيْرِ إذْنِهم؛ ففي الصَّحيحيْنِ عن أبي هُريْرة: "لو أنَّ رجُلاً اطَّلَعَ عليْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحصاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَه، ما كان عليْكَ من جَناح".

وفيهِما عن سهل بن سعد، قال: اطَّلع رجلٌ من جُحْر في حُجَرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ به رأْسَهُ فقال: "لو أَعلَمُ أنَّك تنظُر لطَعَنْتُ بهِ في عَيْنِك، إنَّما جُعِلَ الاستئذانُ من أجْلِ البَصَر" فجعل نفس النَّظَرِ مُبيحًا لِلطَّعْنِ في العين.

ومنها: أن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ بِمُقاتلَةِ مَن أصرَّ على المُرورِ بَيْنَ يدَيِ المُصَلِّي كما ثَبَتَ في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخُدْريِّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "إذا كانَ أحدُكم يُصلي فلا يَدَعْ أحدًا يَمُرُّ بَيْنَ يديْهِ، فإنْ أبَى فليُقاتِلْه فإنَّ معَهُ القَرين".

قال شيْخُ الإسْلام ابنُ تيمية: "فقَدْ دخلَ اللِّصُّ على عبدالله بْنِ عُمَرَ فأصْلَتَ له السَّيْفَ، قالوا: فلوْلا أنَّا نَهيْناهُ عنْهُ لضَرَبَهُ، وقدِ استدلَّ أحْمَدُ بنُ حنبلٍ بِفِعْلِ ابْنِ عُمَر هذا مع ما تقدَّم من الحديثَيْنِ وأخَذَ بذلك".

الثاني: أنَّه يَجب دفْعُ الصَّائِلِ الكافِر، أمَّا الصَّائلُ المُسلِم فَيَجُوزُ دفْعُه عن نَفْسِه ولكنْ لا يَجِبُ بلْ يَجوزُ الاسْتِسلامُ له، وسواءٌ أمكَنَ دفْعُه بغَيْرِ قتلِه أم لَمْ يُمكن، وهو الأظهر عند الشافعيَّة؛ لقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: "كُنْ كابْنِ آدَم" (رواه الترمذي)، ولِما وَرَدَ عنِ الأحنف بن قَيْسٍ قال: خرجْتُ بِسلاحي لياليَ الفِتْنة، فاستَقْبَلَنِي أبو بَكْرَة، فقال: أين تُريد؟ قلت: أُرِيدُ نُصْرَة ابْنِ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "إذا تَواجَهَ المُسلِمانِ بِسَيْفَيْهِما فكِلاهُما من أهل النَّار" قيل: فهذا القاتِلُ، فما بالُ المقتولُ؟ قال: "إنَّهُ أرادَ قَتْلَ صاحِبِه" (متفق عليه).

ولأنَّ عُثمانَ رضي الله عنه تَرَكَ القِتالَ مع القُدْرَةِ عليه، ومع عِلْمِه بأنَّهم يُريدون نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حرَّاسه من الدِّفاعِ عَنْهُ وصَبَر على ذلك، وأقرَّه الصَّحابةُ على ذلك، ولو لَم يَجُز لأَنْكَروا عليْهِ ذلك.

الثَّالثُ: وجوبُ دَفْعِ الصَّائِل عنِ النَّفس في غَيْرِ وَقْتِ الفِتْنَة، وهُو مَذْهَبُ الحنَابِلة، واحتجُّوا على الوجوب بأدلَّة القول الأوَّل، وعلى تَرْكِه في زمانِ الفِتْنة بأدلَّة القَوْلِ الثَّاني، وهذا القول هو الرَّاجِحُ لموافقتِه لجميع أدلَّة الباب، وعدم تعارُضِه مع شيء منها.

قال في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق": "(ومَنْ شَهَرَ على المسلمين سيفًا وَجَبَ قتْلُه ولا شيءَ بِقَتْلِه)؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: "مَنْ شَهَرَ على المُسلمين سيفًا فقدْ أطلَّ دَمَهُ" -أي أهدره- ولأنَّ دفعَ الضَّررِ واجب، فوَجَبَ عليْهِم قتلُه إذا لم يُمْكِن دفعُه إلاَّ به، ولا يَجِبُ على القاتل شيءٌ لأنَّه صار باغيًا بذلك، وكذا إذا شَهَرَ على رجُلٍ سلاحًا فقَتَلَهُ أو قَتَلَهُ غيرُه دفعًا عنْهُ فلا يَجِبُ بقَتْلِه شيء لما بيَّنَّا".

وقال في "كشاف القناع": "(وإن كان الدافع) للصَّائل (عَنْ نِسائِه فهو لازم) أي واجبٌ لِما فيه من حقِّه وحقِّ الله وهو منعُه من الفاحشة (وإن كان) الدَّفْعُ (عن نفْسِه في غَيْرِ فِتْنَةٍ فكذلِكَ) أي فالدَّفع لازمٌ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وكما يَحْرُم عليه قتلُ نفسِه يَحْرُم عليه إباحةُ قتلِها، ولأنَّه قَدَرَ على إحياءِ نفسِه فَوَجَبَ عليْهِ فِعْلُ ما يتَّقي به كالمضْطَرِّ للميتة، فإنْ كان في فتنةٍ لم يلزمه الدَّفْعُ".

أما الأدلة الواردة في مشروعية ترك الدفاع عن النفس كقوله تعالى {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسْ في بيتِك فإنْ خِفْتَ أن يَنْهَرَكَ شعاعُ السَّيْفِ فغَطِّ وجْهَك"، وفي لفظ: "فكُنْ عَبْدَ اللَّه المقتولَ ولا تَكُنْ عَبْدَ اللَّه القاتِل"، فكلُّ هذا في القِتال في الفتنة؛ قال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "إنَّ بيْنَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِم، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمْسِي كافرًا ويُمسى مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والماشي فيها خير من الساعي فكسِّروا قسِيَّكم وقطِّعوا أوتارَكم واضْرِبُوا سيوفَكم بالحجارة، فإنْ دخل -يعني على أحد منكم- فلْيَكُنْ كخَيْرِ ابنَيْ آدم" (رواه أبو داود).

وروى أحمدُ من حديث ابْنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ الله قال: "تكون فتنة" ... : فبِمَ تأمرُنِي إن أدركتُ ذلك الزمان؟ قال: "اكْفُفْ نَفْسَك ويَدَكَ وادْخُلْ دارَك" قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ داري؟ قال: "فادْخُلْ بيتَكَ" قال: قلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: "فادخل مسجِدَك واصنَعْ هكذا -فقبض بيمينه على الكوع- وقل: ربِّي الله حتى تَموت على ذلك".

فكلُّ هذه الأدلَّة وغيرُها لا تُعارضُ ما صحَّ من وُجوب الدِّفاع عن النفس والمال والعِرْض والذُّرِّية؛ لأنَّها - كما هو ظاهرٌ- خاصَّة بزمانِ الفِتَن وانتِشار القتل.

قال أبو مُحمد ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": ونَحنُ نقول: إنَّ لكل حديثٍ موضعًا غيْرَ موضِع الآخَر، فإذا وُضِعَا بِمَوْضِعَيْهما زال الاختلافُ؛ لأنَّه أراد بقولِه: "مَنْ قُتِل دون ماله فهو شهيد" مَن قاتل اللصوص عن ماله حتى يُقْتَل في منزلِه وفي أسفاره، ولذلك قِيلَ في حديثٍ آخَر: "إذا رأيتَ سوادًا في مَنْزِلك فلا تَكُنْ أجْبَنَ السَّوادَيْنِ" يُريد: تقدم عليه بالسلاح فهذا موضع الحديث الأول، وأراد بقوله: "كُنْ حِلْسَ بَيْتِك فإن دُخِلَ عليْكَ فَقُلْ بُؤْ بِإِثْمي وإثْمِكَ وكُنْ عَبدَ اللهِ المَقْتُولَ ولا تَكُنْ عَبْدَ الله القاتلَ"؛ أي افعل هذا في زَمَنِ الفتنة، واختلاف النَّاس على التأويل وتنازُع سلطانَيْنِ كل واحدٍ منْهُما يطلُب الأمْرَ ويدَّعيهِ لنفْسِه بِحُجَّة، يقول: فَكُنْ حِلْسَ بيتك في هذا الوقت ولا تَسُلَّ سيْفًا ولا تَقْتُلْ أحدًا؛ فإنَّك لا تدري مَنِ المُحِقُّ من الفَريقَيْنِ ومَن المُبْطِل واجعَلْ دَمَكَ دُونَ دينِكَ، وفي مثل هذا الوقت قال: "القاتل والمقتول في النار"، فأما قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، فإنَّه أمَرَ بذلك الجميع منَّا بعد الإصلاح وبعْدَ البَغْيِ، وأمر الواحد والاثنين والثلاثة، إذا لم يَجْتَمِع مَلَؤُنا على الإصلاح بينهما، أن نَلْزَمَ منازِلَنا، ونَقِيَ أديانَنَا بأموالنا وأنفسنا،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 19
  • 2
  • 88,871

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً