هل القاتل لا يذوق طعم الجنَّة؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
سمعتُ أنَّ القاتِلَ لا يَذُوقُ طَعْمَ الجنَّة، فكيف يُقال إنَّ كلَّ الذُّنوب تُغْفَرُ عَدَا الشِّرْك بِاللَّه؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ قَتْلَ المُؤْمِنِ أَخَاهُ المُؤْمِنَ من كبائِر الذنوب؛ قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] وفي "الصحيحَيْنِ"، عنِ ابْنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يَشْهَدُ أن لا إله إلا اللَّه، وأنِّي رسولُ اللَّه إلاَّ بِإِحْدى ثلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفس، والثَّيِّبُ الزَّاني، والتَّاركُ لِدِينِه المُفارِق للجماعة".
وفي "صحيح البُخاري" عنِ ابْنِ عُمر رضي الله عنْهُما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسحةٍ من دِينه، ما لَم يُصِبْ دمًا حرامًا".
وروى النَّسائِيُّ عن عبدالله بْنِ عَمرٍو عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لَزوالُ الدُّنيا أَهْوَنُ عِند الله مِنْ قَتْلِ رجُلٍ مُسلم".
وكان ابْنُ عبَّاسٍ رضِي اللَّه عنهما يَرى أنَّه لا تَوبَةَ لقاتلِ المُؤْمِن عمْدًا ويحتج بآية النساء؛ كما روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: "آية اختلفَ فيها أَهْلُ الكوفة، فَرَحَلْتُ إلى ابْنِ عبَّاس فسألتُه عنها، فقال: نَزَلَتْ هذه الآيةُ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] هي آخِرُ ما نَزَل وما نَسَخَهَا شَيْءٌ".
وروى أحْمدُ والنَّسائيُّ عن سالمِ بن أبي الجَعْد، قال: كنَّا عِنْدَ ابْنِ عبَّاسٍ بعدَ ما كُفَّ بَصرُه، فأتاهُ رجُلٌ فناداهُ: يا عبدالله بنَ عبَّاس، ما ترى في رجُلٍ قتَل مؤمنًا متعمِّدًا؟ فقال: {جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} قال: أفرأيتَ إن تابَ وعمِلَ صالحًا ثُمَّ اهتَدَى؟ قال ابْنُ عبَّاس: ثكِلَتْهُ أمُّه، وأنَّى له التَّوبة والهُدى؟ والذي نفسي بيَدِه! لقَدْ سَمِعْتُ نبيَّكم صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: "ثَكِلَتْهُ أُمُّه، قاتِل مُؤمنٍ مُتعمِّدًا، جاءَ يَوْمَ القِيامة آخِذَه بيَمينِه أوْ بِشماله، تشخب أوداجُه دمًا في قُبُل عرش الرحْمن، يلزَمُ قاتلَه بشِماله بيده الأخرى، يقول: سَلْ هذا فيمَ قَتَلَنِي".
وقد أُجيب عن استدلال ابن عباس بالآية أنَّ مَعْنَى الخُلودِ فيها هو المُكْثُ الطويل، وبما قاله أبو هُريْرة وجَماعةٌ من السلف: "أنَّ هذا جزاؤُه إنْ جُوزي عليه، وكذا كلُّ وعيدٍ على ذنب".
وقد ذهب الجُمهور إلَى أن تَوبتَهُ تُقْبَل كسائِر أصحابِ الكبائِر، وأنه يدخل الجنة سواء عُذب أو لم يعذب وهو الحقُّ، واحتجُّوا بأدلَّة كثيرةٍ:
منها: قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 68-70]؛ فيُحْمَل مُطلَقُ آيةِ سورةِ النِّساء على مُقَيَّد آيةِ الفُرقان، فيكونُ معناهُ: فجزاؤُه جهنَّمُ خالدًا فيها، إلاَّ مَن تاب.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وجَميع الكبائر دون الشِّرك.
ومنها قوله تَعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] وهذا عامٌّ في جميع الذنوب.
ومنها: ما في "الصحيحَيْنِ" في قِصَّة الرَّجُل الَّذي قَتَلَ مائةَ نَفْس، "ثُمَّ سأل عالِمًا: هل لِي من توبةٍ؟ فقال: ومَنْ يَحول بينك وبين التَّوبة؟ - وفيه: - أنَّه هاجَر فماتَ في الطَّريق، فقَبَضَتْهُ ملائكةُ الرَّحْمة".
ومنها: أحاديثُ الشَّفاعة المتواترة وهي لأَهْلِ الكبائر من أُمَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
ومنها: أنَّ توبةَ الكافِرِ تُقْبَل بدُخولِه في الإسلام، فقبول توبة القاتِل مِن بابِ أَوْلى.
ومنها: ما رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه، وقال مرة أخرى ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة".
قال الحافظُ ابْنُ كثيرٍ في "تفسيره": "والَّذي عليْهِ الجُمهور من سَلَفِ الأَّمة وخَلَفِها: أنَّ القاتِلَ له توبةٌ فيما بينَهُ وبَيْنَ ربِّه عزَّ وجلَّ، فإنْ تابَ وأنابَ وخَشَعَ وخضَع، وعمِل عملاً صالحًا، بدَّل اللهُ سيِّئاتِه حسناتٍ، وعوَّض المَقْتُولَ من ظلامَتِه وأَرْضاهُ عن طِلابته".
وقال ابن القيم: والتَّحْقيقُ أنَّ القَتْلَ يتعلَّق به ثلاثةُ حُقوق: حقُّ الله تعالى، وحقُّ المقتول، وحقُّ الولِيِّ الوارث للمَقْتُول، فإذا سلَّم القاتِلُ نَفْسَه طوعًا واختيارًا إلى الولِيِّ ندمًا على ما فعَلَ، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا سقط حق الله تعالى بالتوبة، وحقُّ الأولياء بالاستيفاء أوِ الصلح أوِ العفو عنه، وبقي حقُّ المقتولِ يُعَوِّضه الله عنه يوم القيامة عن عبْدِه التَّائب، ويُصْلِحُ بيْنَ القاتِل التَّائب وبين المقتول".
هذا؛ وليسَ معنَى ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاس أنَّ القاتِلَ يُخَلَّدُ في النَّار أو لا يَدْخُل الجنَّة، وإنَّما النِّزاعُ فِي تعلُّق حقِّ المَقْتولِ بالقاتِل وإن تاب فيستَوْفِيه المقتول وإنْ تابَ.
قال شيْخُ الإسلام ابنُ تيمية: وقدِ اتَّفق الصَّحابةُ والتَّابعونَ لَهُم بإحسانٍ، وسائِرُ أئمَّة المُسلمينَ على أنَّه لا يُخَلَّد في النَّار أحدٌ مِمَّن في قلبِه مثقالُ ذرَّة من إيمان، واتَّفقوا أيضًا على أنَّ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم يشفَّع فيمَن يأذَنُ اللهُ له بالشَّفاعة فيه من أهل الكبائر من أُمَّته؛ ففي "الصَّحيحَيْنِ" عنْهُ أنه قال: "لكُلِّ نَبِيٍّ دعوةٌ مُستجابةٌ وإنِّي اختبأْتُ دعْوتِي شفاعةً لأُمَّتِي يوْمَ القِيامة"، وهذه الأحاديثُ مذكورةٌ في مواضِعِها، وقَدْ نَقَلَ بعْضُ النَّاسِ عنِ الصَّحابة في ذلك خلافًا، كما رُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنَّ القاتِلَ لا توبةَ له، وهذا غلطٌ على الصحابة؛ فإنَّه لم يقل أحدٌ منهم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم لا يشفَعُ لأهل الكبائر، ولا قال: إنَّهم يُخَلَّدون في النار، ولكنَّ ابنَ عبَّاس في إِحْدى الرِّوايَتَيْنِ عنْهُ قال: إنَّ القاتِلَ لا تَوْبَة لهُ، وعنْ أحْمد بْنِ حنبلٍ في قبولِ توبةِ القاتِلِ رِوايتَانِ أيْضًا، والنِّزاعُ في التَّوبة غَيْرُ النزاع في التَّخليد، وذلك أنَّ القَتْلَ يتعلَّق به حقُّ آدمِيٍّ فلِهَذا حَصَلَ فيه النِّزاع،، والله أعلم.