الطلاق والمحلل
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
أنا زوجي طلَّقني الطَّلقة الأخيرة على الورَق، ونُريد الآن أن نرجِع لبعض، ولا حلَّ غير المحلِّل، وطبعًا المحلِّل حرام؛ لكن ناس يقولون: مُمكن يبقى حلالاً، لو تزوَّجت، والشَّخص الذي سأتزوجه يُعاشرني -حتَّى لو لمدَّة ساعة واحدة- وبعدها أطلَّق وأرجع ثانية لطليقي.
هل هذا حرام أم حلال؟ أنا خائفة من شيء واحد فقط، أنه سيكون في نيَّتي أني سأعمل مع الشَّخص الثاني محللاً؛ من أجل الرجوع لطليقي.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فنِكاح التَّحليل يقع على صورتَين:
الأُولى: وفيها يُشترط في العقْد أن يتزوَّجها بنيَّة التَّحليل، وهذا الزَّواج باطل باتفاق العلماء، وصاحبُه ملعون؛ لقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" (رواه أبو داود، وابنُ ماجه، والتِّرْمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني).
وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله، إني كنت عند رفاعة القرظي، فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وروى ابنُ ماجه عن عُقْبة بن عامر: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: "ألا أُخْبِركُم بالتَّيس المسْتعار؟"، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: "هو المحلِّل، لعنَ الله المحلِّل والمحلَّل له" (حسنه الألباني).
وعن نافعٍ عن ابن عُمَر: أنَّ رجُلاً قال له: أتزوَّجها أحلُّها لزوْجِها، لم يأمرني، ولم يعلم؟ قال: "لا، إلاَّ نكاح رغبةٍ، إن أعجبتْك أمسكتَها، وإن كرهتَها فارقْتَها، قال: كنَّا نعدُّه على عهد رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سفاحًا، وقال: لا يزالان زانِيَين، وإن مكثا عشرينَ سنة" (رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم، والبيهقي).
وهو قول عثمان رضِي الله عنْه، وروي عن ابن عبَّاس.
قال شيخ الإسْلام ابن تيمية: "إذا تَزَوَّجَها الرَّجُلُ بنِيَّةِ أنَّهُ إذا وَطِئَها، طلَّقَها لِيُحِلَّها لِزَوْجِها الأوَّل، أوْ تَوَاطآ على ذَلِكَ قَبْلَ العَقْدِ، أوْ شَرَطاهُ في صُلْبِ العَقْدِ -لَفْظًا أوْ عُرْفًا- فهَذا وأنْواعُهُ "نِكاحُ التَّحْليل"، الَّذي اتَّفَقَت الأمَّةُ على بُطْلانِه". اهـ.
وقال رحِمه الله: "نكاح المحلِّل حرامٌ باطل لا يُفيد الحل، وصورتُه: أنَّ الرَّجُل إذا طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فإنَّها تَحرُم عليْه حتَّى تنكِح زوجًا غيْرَه؛ كما ذكره الله تعالى في كِتابه، وكما جاءتْ به سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليْه وسلَّم وأجْمعتْ عليْه أمَّتُه، فإذا تزوَّجها رجلٌ بنيَّة أن يُطَلِّقها لتحلَّ لزوجِها الأوَّل، كان هذا النِّكاح حرامًا باطلاً، سواءٌ عزم بعد ذلك على إمساكِها أو فارقها، وسواءٌ شُرِط عليْه ذلك في عقد النكاح، أو شُرِط عليه قبل العقد، أو لَم يُشْرَط عليْه لفظًا؛ بل كان ما بيْنهما من الخِطبة وحالِ الرَّجُل، والمرْأة والمهْر - نازِلاً بينهم منزلةَ اللَّفظ بالشُّروط، أو لَم يكن شيءٌ من ذلك؛ بل أراد الرَّجُل أن يتزوَّجها ثمَّ يطلِّقها؛ لتحلَّ للمطلِّق ثلاثًا، من غير أن تعلمَ المرأةُ ولا وليُّها شيئًا من ذلك، سواءٌ علم الزَّوج المطلِّق ثلاثًا أو لم يعلَمْ، مثل أن يظنَّ المحلِّل أنَّ هذا فِعل خير ومعروف مع المطلِّق وامرأته بإعادتِها إليه؛ لما أنَّ الطَّلاق أضرَّ بها وبأولادِها وعشيرتِها، ونحو ذلك.
بل لا يحلُّ للمطلِّق ثلاثًا أن يتزوَّجها حتَّى ينكِحَها رجلٌ، مرتغبًا لنفسِه، نكاح رغبةٍ لا نِكاح دُلسة، ويدخُل بها بحيث تذوق عسيلتَه ويذوق عسيلتَها، ثمَّ بعد هذا، إذا حدثَ بينهما فرقة، بِموتٍ أو طلاقٍ أو فسْخٍ، جاز للأوَّل أن يتزوَّجها... قال سَعيدُ بن المُسَيّب في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امرَأةً لِيُحِلَّها لِزَوْجِها الأوَّل، ولَم يَشعُرْ بِذَلكَ زَوجُها الأوَّلُ ولا المَرْأةُ، قَالَ: "إنْ كانَ إنَّما نَكَحَها لِيُحِلَّها، فَلا يَصْلُحُ ذَلِك لهُما، ولا تَحِلُّ".
وقالَ إبْراهِيمُ النَّخَعيُّ: "إذا هَمَّ الزَّوْجُ الأوَّلُ، أو المَرْأةُ، أو الزَّوْجُ الأخِيرُ، بالتَّحْليلِ - فالنِّكاحُ فاسِدٌ" (رَواهُما حَرْبٌ الكَرْمانِيُّ).
وعَن سَعيدِ بْنِ المُسَيّب، قالَ: "أمَّا النَّاسُ فَيَقولونَ حتَّى يُجامِعَها، وأمَّا أنا فإنِّي أنا أقُولُ: إذا تَزَوَّجَها تَزْويجًا صَحيحًا، لا يُريدُ بِذَلِكَ إحْلالاً لها، فَلا بَأسَ أنْ يَتَزَوَّجها الأوَّلُ" (رَواهُ سَعيدُ بْنُ مَنْصورٍ).
وقالَ أبُو الشَّعْثاءِ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ، في رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً لِيُحِلَّها لِزَوْجِها وَهُوَ لا يَعْلَمُ، قَالَ: "لا يَصْلُحُ ذَلِكَ إذا كانَ تَزَوَّجَها لِيُحِلَّها".
وَجاءَ رَجُلٌ إلى الحَسَنِ البَصْريِّ، فقَال: "إنَّ رَجُلاً مِنْ قَوْمي طلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، فنَدِمَ ونَدِمَت، فأرَدْتُ أنْ أنْطَلِقَ فأتَزَوَّجَها وأُصْدِقَها صَداقًا، ثُمَّ أدْخُلَ بِها كما يَدْخُلُ الرَّجُلُ بامْرَأتِه، ثُمَّ أطَلِّقَها حتَّى تَحِلَّ لِزَوْجِها، قال: فقالَ لَهُ الحَسَنُ: "اتَّقِ اللهَ يا فتَى، ولا تَكُونَنَّ مِسْمارَ نارٍ لِحُدودِ اللهِ" (رَواهُما ابنُ أبي شَيْبَةَ)، يُرِيدُ الحَسَنُ أنَّ المِسْمارَ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الشَّيْءَ المَسْمُورَ، فكَذلِكَ أنْتَ تُثَبِّتُ تلْكَ المَرْأَةَ لِزَوْجِها وقَدْ حَرُمَتْ عليْه.
وعَن الحَسَنِ وإبْراهِيمَ النَّخَعيِّ، قالا: "إذا هَمَّ أحَدُ الثَّلاثةِ بالتَّحْلِيلِ، فقَد فسَدَ العَقْدُ" (رَوَاهُما سَعيدٌ).
وعَن عَطاءِ بْنِ أبي رَباحٍ في الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ، فيَنْطلِقُ الرَّجُلُ الَّذي يَتَحَزَّنُ له، فَيَتَزَوَّجُها مِنْ غَيرِ مُؤامَرةٍ مِنْهُ، فَقال: "إنْ كانَ تَزَوَّجَها لِيُحِلَّها له، لم تَحِلَّ لَهُ، وإنْ كانَ تَزَوَّجَها يُرِيدُ إمْسَاكَها، فَقَدْ أُحِلَّتْ له".
وعَن الشَّعْبِيِّ: أنَّهُ سُئِلَ عَن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كانَ زَوْجُها طَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ ذَلِك، قيلَ له: أيُطَلِّقُها لِتَرْجِعَ إلى زَوْجِها الأَوَّل؟ فقالَ: "لا، حتَّى يُحَدِّثَ نَفْسَه أنَّهُ يَعْمُرُ مَعَها وَتَعْمُرُ مَعَه" (رَواهُما الجُوزَجانيُّ، هَكَذا لَفْظُ هَذا الأَثَر).
وقالَ مَالِكُ بْنُ أنَسٍ: "لا يُحِلُّها إلاَّ نِكَاحُ رَغْبَةٍ".
فإنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لم تَحِلَّ له، وسَواءٌ عَلِمَا، أوْ لَم يَعْلَمَا لا تَحِلُّ، ويَنْفَسِخُ نِكاحُ مَنْ قَصَدَ إلى التَّحْليل.
وقالَ الإمامُ أحمَدُ: "إذا تَزَوَّجَها يُريدُ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ طَلَّقَها بَعْدَ أنْ دَخَلَ بِها، فَرَجَعَتْ إلى الأَوَّلِ - يُفَرَّقُ بَيْنَهُما؛ لَيْسَ هَذا نِكاحًا صَحِيحًا"، وهَذا قَوْلُ عَامَّةِ أصْحابِه.
وعلى هَذا؛ فَلَيْسَ عَنْ أحَدٍ مِن التَّابِعينَ رُخْصَةٌ في نِكاحِ المُحَلِّلِ، إذا عَلِمَت بِه المَرْأةُ والزَّوجُ المُطَلِّقُ، فضْلاً عَن اشْتِرَاطِه، والمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعيِّ: أنَّ هَذا الشَّرْطَ المُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وكَذَلكَ ذَكَرَهُ القاضي في "المُجَرَّدِ": أنَّ ذَلِكَ عِنْدَنا كَنِيَّةِ التَّحْليلِ مِنْ غَيرِ شَرْطٍ، وخَرَّجَ فِيهِما وَجْهَيْن، وأمَّا إذا شَرَطَ التَّحْليلَ في العَقْدِ، فَهُو باطِلٌ". اهـ. مختصرًا.
قال ابن قُدامة في "المغني": "فإن شرط عليْه التَّحليل قبل العقْد، ولم يذكرْه في العقْد، ونواه في العقد، أو نَوى التَّحليل من غير شرْط - فالنِّكاح باطل أيضًا". اهـ.
أمَّا الصُّورة الثَّانية، فيقع بدون شرْط؛ ولكن يقع بنيَّة، والنِّيَّة قد تكون من الزَّوج، وقد تكون مِن الزَّوجة، فإذا كانت من الزَّوج، فلا يكونُ النِّكاح صحيحًا.
وأمَّا إن كانت النيَّة من المرْأة أو أوليائِها، فهذا محلُّ خِلاف بين العُلماء، فذهب أحمد إلى أن نيَّة المرأة ليست بشيء، والراجح قول الجهور أنه مثل القسم الأول في المنع.
وعليه، فلا يحل للسائلة الكريمة أن تتزوج مطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، نكاح رغبة لا نكاح تحليل ودُلسة، وأن يدخل بها بحيث تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، ثم بعد هذا إذا حدث بينهما فُرقة بموت أو طلاق أو فسخ جاز للأول أن يتزوجها؛ وهذا ما دلّ عليه الكتاب والسنة، والمأثور عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة التابعين وعامة فقهاء المتبعين ،، والله أعلم.