الشرك بالله أعظم الذنوب.
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: الشرك بالله أعظم الذنوب.
الإجابة: اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصى الله به، قال الله
تعالى{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن}[النساء:
48، 116] وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل:أى الذنب أعظم
؟ قال: " "!!
والند المثل. قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال تعالى{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر: 8] فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله ـ سبحانه ـ هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود، الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلها؟ قال الله تعالى{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف:15] وقال تعالى{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: 93]، وقال الله تعالى{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: 172]، وقال تعالى{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الذاريات: 51]، وقال تعالى{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}[الزمر: 11]، فالله ـ سبحانه ـ هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فـدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5].
فهذا تفصيل لقوله{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهى. {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء.
فإذا ظهر للـعبد من سـر الربـوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك :1] فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه. فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيان، وهو علم صفة الربوبية. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفات. فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال الله عز وجل{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[النحل: 40]. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل في مشهد الربوبية.
ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك.
ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها، وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرَّمِيَّةِ.
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله، لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة؛ أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي.
وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين؛ لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه، ففنوا بمرادهم عن مراد الحق ـ عز وجل ـ منهم؛لأن الحق يغنى بمراده ومحبوبة، ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك؛لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبودة، ولا بمعبودة عن عبادته، بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه ؛كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان" "، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه. فإذا تقرر هذا، فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه، وهو نوعان :
شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية.
فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله نداً، أي: مثلا في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركـى العـرب؛ لأنهم أشـركوا في الإلـهية، قـال الله تعــالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} الآية [البقرة :165]، وقالوا{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}الآية [الزمر:3]، وقالوا{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}! [ص: 5]، وقال تعالى{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} إلـى قوله{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}[ق: 24: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن" ".
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان: 25]، وقال{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}إلى قوله{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}؟ [المؤمنون: 84- 89]، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تُنَزِّل الغَيْثَ، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرناه: اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى، فقد أشرك، وهذا كقوله{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:96-98]. وكذا من خاف أحداً كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله، وما أشبه ذلك.
وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه ـ هو المالك المدبر، المعطى المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل ،فمن شهد أن المعطى أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته.
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطى الأول مثلا ،فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه، لقوله عليه السلام: (من أسْدَى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه) لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[النحل:53]،وقال تعالى{كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} [الإسراء:20]، فالله ـ سبحانه ـ هو المعطى على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطى هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره. فهو الأول والآخر.
ومما يقوى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما" ". قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية.
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لَوْمِه وذَمِّه إياهم، وتجرَّد التوحيد فى قلبه، فقوى إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفُضَيْل بن عياض ـ رحمه الله ـ: من عرف الناس استراح. يريد ـ والله أعلم ـ أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
وأما الشرك الخفي: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل: أن يحب مع الله غيره.
فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة، لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}الآية [آل عمران: 31]. فَلَيْسَ الكَلام في هذا. إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته، لم يحب سواه.
ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته.
وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت، كثرت محبوباته وانتشرت وكذا الخوف، والرجاء ،وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قـال الـله تعـالى{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي، الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، إلا من عصمه الله تعالى.
وقد روى أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وطرق التخلص من هذه الآفات كلها: الإخلاص لله عز وجل، قال الـله تعـالى{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى.
والند المثل. قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال تعالى{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر: 8] فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله ـ سبحانه ـ هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود، الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلها؟ قال الله تعالى{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف:15] وقال تعالى{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: 93]، وقال الله تعالى{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: 172]، وقال تعالى{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الذاريات: 51]، وقال تعالى{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}[الزمر: 11]، فالله ـ سبحانه ـ هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فـدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5].
فهذا تفصيل لقوله{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهى. {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء.
فإذا ظهر للـعبد من سـر الربـوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك :1] فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه. فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيان، وهو علم صفة الربوبية. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفات. فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال الله عز وجل{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[النحل: 40]. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل في مشهد الربوبية.
ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك.
ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها، وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرَّمِيَّةِ.
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله، لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة؛ أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي.
وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين؛ لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه، ففنوا بمرادهم عن مراد الحق ـ عز وجل ـ منهم؛لأن الحق يغنى بمراده ومحبوبة، ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك؛لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبودة، ولا بمعبودة عن عبادته، بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه ؛كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان" "، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه. فإذا تقرر هذا، فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه، وهو نوعان :
شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية.
فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله نداً، أي: مثلا في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركـى العـرب؛ لأنهم أشـركوا في الإلـهية، قـال الله تعــالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} الآية [البقرة :165]، وقالوا{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}الآية [الزمر:3]، وقالوا{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}! [ص: 5]، وقال تعالى{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} إلـى قوله{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}[ق: 24: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن" ".
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان: 25]، وقال{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}إلى قوله{قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}؟ [المؤمنون: 84- 89]، وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تُنَزِّل الغَيْثَ، وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم كما ذكرناه: اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى، فقد أشرك، وهذا كقوله{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:96-98]. وكذا من خاف أحداً كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله، وما أشبه ذلك.
وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه ـ هو المالك المدبر، المعطى المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل ،فمن شهد أن المعطى أو المانع، أو الضار أو النافع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته.
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك، فلينظر إلى المعطى الأول مثلا ،فيشكره على ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه، لقوله عليه السلام: (من أسْدَى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه) لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[النحل:53]،وقال تعالى{كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ} [الإسراء:20]، فالله ـ سبحانه ـ هو المعطى على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطى هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره. فهو الأول والآخر.
ومما يقوى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما" ". قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله، ولا يضر غيره، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية.
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لَوْمِه وذَمِّه إياهم، وتجرَّد التوحيد فى قلبه، فقوى إيمانه، وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه، ولهذا قال الفُضَيْل بن عياض ـ رحمه الله ـ: من عرف الناس استراح. يريد ـ والله أعلم ـ أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
وأما الشرك الخفي: فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، مثل: أن يحب مع الله غيره.
فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين، والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب؛ لأن هذه تدل على حقيقة المحبة، لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته امتنعت مخالفته؛ لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة، ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}الآية [آل عمران: 31]. فَلَيْسَ الكَلام في هذا. إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى، فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله، وهو دليل على نقص محبة الله تعالى، إذ لو كملت محبته، لم يحب سواه.
ولا يرد علينا الباب الأول؛ لأن ذلك داخل في محبته.
وهذا ميزان لم يجر عليك، كلما قويت محبة العبد لمولاه، صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت، كثرت محبوباته وانتشرت وكذا الخوف، والرجاء ،وما أشبه ذلك، فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قـال الـله تعـالى{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[الأحزاب:39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة، وكذا الرجاء وغيره، فهذا هو الشرك الخفي، الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه، إلا من عصمه الله تعالى.
وقد روى أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وطرق التخلص من هذه الآفات كلها: الإخلاص لله عز وجل، قال الـله تعـالى{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد، ولا زهد إلا بتقوى، والتقوى متابعة الأمر والنهى.