الشفاعة المنفية في القرآن.
ابن تيمية
- التصنيفات: فتاوى وأحكام -
السؤال: الشفاعة المنفية في القرآن.
الإجابة: الشفاعة المنفية في القرآن، كقوله تعالى{وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ
مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ
تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ}[البقرة:123]، وقوله{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ
فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}[البقرة: 254]،
وقوله{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100، 101]، وقوله{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ
يُطَاعُ} [غافر: 18]، وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ
نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل
لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53]، وأمثال
ذلك.
واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر؛ إذ منعوا أن يشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الثواب.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة: إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنه يخرج من النار مَنْ في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأيضاً، فالأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة: فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار. وأيضاً، ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول اللّه، هل نفعتَ أبا طالب بشيء ؟ فإنه كان يَحُوطك ويغضب لك. قال" ".
وعن أبى سعيد الخدرى ــ رضي اللّه عنه ــ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: " ".
فهذا نص صحيح صريح لشفاعته في بعض الكفار أن يخفف عنه العذاب، بل في أن يجعل أهون أهل النار عذاباً، كما في الصحيح أيضاً عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" ".
وعن أبى سعيد الخدرى؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" " ، وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " " ، وعنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ".
وهذا السؤال الثاني يضعف جواب من تأول نفى الشفاعة على الشفاعة للكفار، وإن الظالمين هم الكافرون....
فيقال: الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهى أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعاً له أي تابعاً له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسؤول.
وقد ثبت بنص القرآن فى غير آية: أن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه. كما قال تعالى{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ،وقال" " [سبأ:23]، وقال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]،وأمثال ذلك. والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية: أنه قال{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، وقال تعالى{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولىّ ولا شفيع.
وأما نفى الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56].
وأيضاً، فقد قال{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43، 44]، فذم الذين اتخذوا من دون اللّه شفعاء وأخبر أن لِلّه الشفاعة جميعا، فعلم أن الشفاعة منتفية عن غيره؛ إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهي له.وقد قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
ومما يوضح ذلك :أنه نفى يومئذ الخلة بقوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة، ونفعها المعروف كما ينفع الصديق الصديق في الدنيا، كما قال{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:17-19]، وقال{لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15، 16]، لم يَنْفِ أن يكون في الآخرة خلة نافعة بإذنه،فإنه قد قال{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} الآيات [الزخرف:67، 68]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم" " ، ويقول اللّهُ تعالى" ".
فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يُنفع أحد ولا يضر إلا بإذن اللّه، وأنه لا يجوز أن يُعبد أحد غير اللّه، ولا يُستعان به من دون اللّه، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله للّه، ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعى لنفسه معه شركا في ربوبيته، أو إلهيته، ولا من يدعى ذلك لغيره. بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتُخذ غيره ربا وإلها، وادعى ذلك مدعون.
وفى الدنيا يشفع الشافع عند غيره ،وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له في الشفاعة، ويكون خليله، فيعينه ويفتدى نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال في الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهى الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى اللّه هذه الأقسام الثلاثة. قال تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وقال: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، كما قال: {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، فهذا هذا واللّه أعلم.
وعاد ما نفاه اللّه من الشفاعة إلى تحقيق أصلى الإيمان، وهى الإيمان باللّه وباليوم الآخر، التوحيد والمعاد، كما قرن بينهما فى مواضع كثيرة، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 8]، وقوله{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقـرة: 156]، وقـوله{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وقوله{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: 28]. وأمثال ذلك .
واحتج بكثير منه الخوارج والمعتزلة على منع الشفاعة لأهل الكبائر؛ إذ منعوا أن يشفع لمن يستحق العذاب، أو أن يخرج من النار من يدخلها، ولم ينفوا الشفاعة لأهل الثواب في زيادة الثواب.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة: إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنه يخرج من النار مَنْ في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأيضاً، فالأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة: فيها استشفاع أهل الموقف ليقضى بينهم، وفيهم المؤمن والكافر، وهذا فيه نوع شفاعة للكفار. وأيضاً، ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول اللّه، هل نفعتَ أبا طالب بشيء ؟ فإنه كان يَحُوطك ويغضب لك. قال" ".
وعن أبى سعيد الخدرى ــ رضي اللّه عنه ــ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: " ".
فهذا نص صحيح صريح لشفاعته في بعض الكفار أن يخفف عنه العذاب، بل في أن يجعل أهون أهل النار عذاباً، كما في الصحيح أيضاً عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" ".
وعن أبى سعيد الخدرى؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" " ، وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: " " ، وعنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ".
وهذا السؤال الثاني يضعف جواب من تأول نفى الشفاعة على الشفاعة للكفار، وإن الظالمين هم الكافرون....
فيقال: الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهى أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته، فأما إذا أذن له في أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعاً له أي تابعاً له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة ويكون الأمر كله للآمر المسؤول.
وقد ثبت بنص القرآن فى غير آية: أن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه. كما قال تعالى{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ،وقال" " [سبأ:23]، وقال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]،وأمثال ذلك. والذي يبين أن هذه هي الشفاعة المنفية: أنه قال{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، وقال تعالى{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، فأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولىّ ولا شفيع.
وأما نفى الشفاعة بدون إذنه، فإن الشفاعة إذا كانت بإذنه لم تكن من دونه، كما أن الولاية التي بإذنه ليست من دونه، كما قال تعالى{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56].
وأيضاً، فقد قال{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43، 44]، فذم الذين اتخذوا من دون اللّه شفعاء وأخبر أن لِلّه الشفاعة جميعا، فعلم أن الشفاعة منتفية عن غيره؛ إذ لا يشفع أحد إلا بإذنه، وتلك فهي له.وقد قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
ومما يوضح ذلك :أنه نفى يومئذ الخلة بقوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ومعلوم أنه إنما نفى الخلة المعروفة، ونفعها المعروف كما ينفع الصديق الصديق في الدنيا، كما قال{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:17-19]، وقال{لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15، 16]، لم يَنْفِ أن يكون في الآخرة خلة نافعة بإذنه،فإنه قد قال{الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} الآيات [الزخرف:67، 68]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم" " ، ويقول اللّهُ تعالى" ".
فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يُنفع أحد ولا يضر إلا بإذن اللّه، وأنه لا يجوز أن يُعبد أحد غير اللّه، ولا يُستعان به من دون اللّه، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله للّه، ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة، فلا يبقى من يدعى لنفسه معه شركا في ربوبيته، أو إلهيته، ولا من يدعى ذلك لغيره. بخلاف الدنيا، فإنه وإن لم يكن رب ولا إله إلا هو فقد اتُخذ غيره ربا وإلها، وادعى ذلك مدعون.
وفى الدنيا يشفع الشافع عند غيره ،وينتفع بشفاعته وإن لم يكن أذن له في الشفاعة، ويكون خليله، فيعينه ويفتدى نفسه من الشر، فقد ينتفع بالنفوس والأموال في الدنيا، النفوس ينتفع بها تارة بالاستقلال، وتارة بالإعانة وهى الشفاعة، والأموال بالفداء، فنفى اللّه هذه الأقسام الثلاثة. قال تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وقال: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، كما قال: {لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، فهذا هذا واللّه أعلم.
وعاد ما نفاه اللّه من الشفاعة إلى تحقيق أصلى الإيمان، وهى الإيمان باللّه وباليوم الآخر، التوحيد والمعاد، كما قرن بينهما فى مواضع كثيرة، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 8]، وقوله{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقـرة: 156]، وقـوله{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وقوله{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: 28]. وأمثال ذلك .