عفو الزوجة عن القصاص
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الجنايات والحدود -
لقد قام أحد الأشخاص بقتل شخص عمدًا من الخلف غدرًا أمام منزله، أثناء خروجه من المسجد بعد صلاة المغرب، منذ حوالي ثلاث سنوات، وتم الحكم على القاتل بالقصاص منذ حوالي ثلاثة أشهر، وأثناء حضور والد المقتول للإنصاف بما شرعه الله بالقصاص، وكان ذلك يوم الجمعة، أبلغه رجال الشرطة بأن القصاص قد تم تأجيله لمدة شهر، وليس على ذلك أي اعترض من قِبل أهل المقتول، وفي أثناء هذه الفترة قام أهل القاتل بالذهاب إلى منزل أرملة المقتول ودفعوا لها خمسة ملايين ريال، مقابل التنازل عن حقها في القصاص، وكان ذلك بالخفية والتلاعب، بدون علم أي أحد من أهل المقتول، وتنازلت.
وأنا أتساءل: هل نسوا قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
السؤال: هل يحقُّ للزوجة التنازل في هذه الحالة عن القصاص بالخفية والتلاعب مع أهل القاتل، مقابل الإغراء بالمال، ودون إبلاغ أحد من أهل المقتول، وهم والده وأمه، وإخوانه وأخواته، ولا أي شخص من العائلة، علمًا بأن أرملة المقتول - رحمه الله، ورحم الله موتانا المسلمين جميعًا - ليس لديها أولاد، وكذلك لدى والد المقتول وكالة خاصة من أرملة ولده المقتول بتوكيله بمطالبة القصاص وتنفيذه بعد الحكم، ومن أمه ومن كافة إخوانه وأخواته؟
هل الزوجة (أرملة المقتول) في هذه الحالة وريثة بالدم؟ وهل يحق لها التلاعب مع أهل القاتل في هذه المصيبة؟
وإن سقط القصاص، فماذا يحق لأهل المقتول؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد أجمع الفقهاء على أن من قُتل له قتيلٌ مخيَّر بين ثلاث خصال: إما أن يقتصَّ من القاتل، أو يعفو عنه إلى الدية أو بعضها، أو أن يصالحه على مال مقابل العفو، أو يعفو عنه مطلقًا؛ حيث رغَّب الشرع في العفو عن القصاص؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]، وقال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودِي، وإما أن يقاد" (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم).
فإن عفا بعض الأولياء عن القود (القصاص) دون بقية الورثة، سقط القصاص عن القاتل؛ لأنه بسقوط نصيب العافي بالعفو يسقط نصيب الآخرين في القود ضرورة؛ لأنه لا يتجزأ، ومن ثَمَّ فلا يتصوَّر استيفاء بعضه دون بعض.
وفي هذه الحالة يبقى للآخرين نصيبُهم من الدية، وهذا هو الثابت عن الصحابة، حتى عدَّه بعض الفقهاء إجماعَ صحابةٍ على تلك المسألة؛ فروي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء للذين لم يعفوا نصيبَهم من الدية، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم يُنقل أنه أنكر أحد عليهم، فيكون إجماعًا؛ ولكن لا يصح العفو عن القصاص من قِبل الصغير والمجنون، وإن كان الحق ثابتًا لهما.
وكذلك أجمع الفقهاء على جواز الصلح بين القاتل وولي القصاص، على إسقاط القصاص بمقابل بدل يدفعه القاتل للولي من ماله.
وقال الحنفية والحنابلة، وهو الصحيح عند الشافعية: القصاص في النفس حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب، والرجال والنساء، والصغار والكبار، فمن عفا منهم صحَّ عفوُه، وسقط القصاص، قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء، والنخعي، والحكم، وحماد، والثوري.
وقال ابن عبد البر في "الاستذكار": "قال ملك: وليس للأخوة من الأم عفو عن القصاص، قال: فإن عفا الرجل على أن يأخذ الدية، فالدية على سائر الورثة على قدر مواريثهم، وقد روي عن مالك: أن عفو النساء جائز، والأول تحصيل مذهبه، وقد ذكرنا اختلافهم في هذه المسألة في كتاب اختلافهم.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: لكل وارث نصيبه من القصاص، ويجوز عفوه على نفسه، ولا يجوز على غيره في إبطال حقِّه من الدية، والرجال والنساء في ذلك كله عندهم سواء". اهـ.
ومما سبق يتبيَّن: أن عفو زوجة القتيل عن القصاص جائز في قول جمهور أهل العلم، ويسقط به القصاص، وتتعيَّن الدية أو ما يتصالحوا عليه، وأن التصالح على إسقاط القود في مقابل دفع الملايين الخمسة جائز، ويقسم المال على ورثة القتيل -رحمه الله- على حسب أنصبتهم في الميراث،، والله أعلم.